
24-08-2022, 11:40 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة :
|
|
رد: مفهوم الإنسان الصالح والأمة الصالحة
مفهوم الإنسان الصالح والأمة الصالحة
محمود العشري
وللجواب على هذه الأسئلة، أقول: هناك مُشكِلات كثيرة تَعترِض سبيلنا، وتَحول بيننا وبين الوصول إلى هذه الغاية، ولكن أهمها ما يَلي:
أولاً: ضياع الهدف والغاية:
إن أمة الإسلام هي أمَّة الله، وحاملة رسالته إلى العالَمين، بدءًا من جيل الصحابة والتابعين، ونهايةً بمَن يُجاهِدون الدجال مع عيسى ابن مريم من المؤمنين الموحِّدين.
ولقد كان أول أسباب الفشَل والضياع الذي أصاب أمَّتنا وشتَّت شَملها هو ضَياع الهدف والغاية التي مِن أجلها برَزت هذه الأمة إلى الوجود، وكانت خيرَ أمة أُخرِجت للناس، فالأمة الإسلامية أمة العقيدة، أمة الدعوة، أو أمَّة الإيمان، والرابطة التي جمعَت هذه الأمة ليست فكرةً أرضية بَشريَّة، ولكنها كلمة إلهية ربانية، إنها كلمة: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، كلمة تملأ القلوب والوجدان، وتغذي الفكر والعاطفة، وهي تَعني باختصار: أن الله - سبحانه وتعالى - خالق هذا الكون ومُدبِّره، وأنه الإله الواحد الذي يجب على جميع الخلائق توحيدُه وعبادته، والخضوع لسلطانه وتشريعه، والسعيُ لبلوغ مرضاته ورضوانه، وأن كل ما يُعبد من دونه باطل، وأن مُحمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - هو المختار المصطفى للدلالة على هذا الرب العظيم، ودعوة الناس جميعًا إلى مرضاته، وتحذير العالمين من معصيته، وعلى أساس هذه الكلمة اجتمع الأسود والأحمر، والعربي والأعجمي.
لقد كان للعرب دورُهم الفريد في نَصرِ الدِّين ولا يزال، ولكن الكلمة والدعوة لم تكن خاصة بهم، ولا حِكرًا عليهم، وإنما اختصَّ الله - سبحانه وتعالى - العرب لمُميزات فيهم لم تكن لغيرهم؛ مِن حبٍّ للبذل والتضحية، وشجاعة فائقة، وشهامة، ومُروءة، ونجدة، وإيثار للمُتَع النفسية والروحية على المتع الحسية والجسدية؛ فقد كان أحدهم يهَبُ مالَه في سبيل بيت من الشعر، ويُعرِّض نفسه وأهله للخطر في سبيل حماية غريب يلوذ به، وكانت صفاتهم هذه مع ما كانوا يتَّصفون به من الأمانة والصدق والشجاعة مؤهِّلاً عظيمًا لحمل رسالة الإسلام، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ومع ذلك فإن الشعوب التي حمَلت الإسلام بعد ذلك، كان لكثير منها بلاء عظيم في حَملِ الرسالة ونشر الإسلام، ولكن هذا الهدف الأسمى، والغاية العُظمى قد نافسَتْها في أرضنا غايات تافِهة تحوَّلت بها الأمة إلى أمم، فقد زاحمَت هذه الغايةَ غاياتٌ دُنيويَّة هزيلة، وذلك بعد أن قُسِّمت بلادُ المسلمين إلى دُويلات صغيرة، وقام في كل إقليم منها حاكم ضعيف أصبَح همُّه أن يَحمي كرسيَّه، فأصبحت غايته أن يرتقي بشعبه في سُلَّم الماديات والحياة، فيَعيش الناس في مساكن جميلة، وشوارع نظيفة، وحدائق غَنَّاء، وفي سبيل ذلك نَسي الهدف الأسمى للأمة، والغاية العُظمى التي أُخرِجت من أجلها؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
وإذا كان الناس في عمومهم على دين مُلوكِهم، فإن غاية الحكام أصبحَت غايةً للشعوب والأفراد أيضًا، فتجد الفرد منهم يَقضي نهاره وشطرًا من ليله سعيًا في هذه الدنيا، وكدحًا فيها، واستمتاعًا بها، وليس وراء ذلك من شيء! وأصبحنا بذلك على حال يَهرَم عليها الكبير، ويشبُّ عليها الصغير، فما يَكاد الوليد فينا يعقل حتى يكون أول درس نُلقِّنه إياه: ماذا ستكون؟ طبيبًا أو مهندسًا أو طيارًا؟ وفي سبيل ذلك نَمنَعُه الصلاة إن كانت مُعطِّلة له عن الهدف الذي رسمناه له، ونَزجره عن الدين؛ خوفًا عليه من القصور أو التقصير في حياته الدنيا.
وباختصار لقد ضاع الهدف الذي كان لنا؛ حيث كنا أمة لها رسالة وغاية في الوجود، وضاع منا الهدف أيضًا كأفراد خُلقوا لغاية، واستُخلفوا في الأرض لعبادة ربهم وخالقهم، وعلاج هذه المشكلة أن نعود من جديد إلى أول الطريق، ونُمسِك مرة ثانية بطرف الحبل، فنوجه الأفراد الوجهة التي خلقهم الله - سبحانه وتعالى - من أجلها، ونُعلن في الأمة الغاية التي أخرجهم الله - سبحانه وتعالى - لها لتكون خير أمة أخرجت للناس.
ثانيًا: التفرُّق والخلاف هو الذي أذهب ريح هذه الأمة:
المشكلة الثانية التي يُواجِهها مجتمعنا وأمتنا، هي التفرق والاختلاف؛ وذلك لضياع الهدف أولاً، ثم لضياع حقيقة الدين، أو بالأحرى للاختلاف على حقيقة الدين الذي يريد الله - سبحانه وتعالى - مِنا، وأعني بحقيقة الدِّين، نموذجَه الأسمى، وصورته الصحيحة؛ فعقيدة التوحيد التي لا يقبل الله - سبحانه وتعالى - أحدًا دون أن يعتقدها قد أصبح عليها جدل طويل؛ فحقيقة الألوهية والربوبية وأصول الإيمان، كل ذلك وقع فيه بين المسلمين خلاف يُفرِّقهم إلى مسلم وكافر، وموحِّد ومُشرِك، ومتَّبِع ومُبتدِع.
وحقيقة الشريعة كذلك أضحى فيها الخلاف بين المسلمين، ليس في فرعياتٍ بعينها فحسب، بل وأيضًا في الأصول التي يُرجع إليها عند الاختلاف؛ فالمسلمون اليوم بين متَّبع يَرى لزامًا عليه اتباع الكتاب والسنة، وكذلك رد كل خلاف إليهما، ومُلفِّق يَستبيح لنفسه تلفيق دينه من الإسلام ومن غير الإسلام، ومناهج التربية والتهذيب امتدَّ إليها الاختلاف والتفرُّق، فنشأت التربية الصوفية بكلِّ ما جرَّت على المسلمين من ويلات الانحراف عن العقيدة الخالصة، والانزواء عن مُقارَعة الباطِل، وإدخال شعائر الكفار والزنادقة إلى دين الإسلام، ونشأت أيضًا التربية الحزبية الدينيَّة الضيِّقة، التي جعلت كل مجموعة من المسلمين أمةً برأسها، وحزبًا مُنفَرِدًا يوالي أهل حزبه وجماعته فقط، ويعادي ما دون ذلك، ولا يرى حقًّا إلا مع نفسه وجماعته، ولو أُعطي ألف دليل، ونشأت التربية الوطنية والإقليمية الضيِّقة، فعمَّقت الاختلاف والتفرُّق، وزرعت الفِتنة والبغضاء، وللأسف إن كان الفِكر المسموع لهذه التربية الإقليمية كثيرًا مِن الفِكر المكتوب والمقروء.
ولقد جاوزت التربية الإقليمية والوطنية التحزُّب للوطن كجزء من العالم العربي والأمة الإسلامية إلى الاعتزاز بماضي هذه الأوطان قبل الإسلام، فمُجِّدت لذلك الجاهلية الفِرعَونية، والآشورية والبابلية والفينيقية، واليعربية الجاهليَّة، فأصبحت أصنام هذه الجاهليات وآثارها جزءًا من التراث المقدَّس المُعتَزِّ به.
ونشأت كذلك الحزبية السياسيَّة، فاختُرعت أيضًا عقائد خاصَّة، ومناهج خاصة في التربية والموالاة والتشريع.
وتفرَّق المسلمون في حقيقة الدين، فكانوا شِيَعًا وأحزابًا، وافترقوا كذلك بأسباب الدنيا تعصُّبًا للوطن أو الجنس أو الحزب الذي يَخترع عقيدة مناهضة للإسلام وبعيدة عنه.
وهذه في الحقيقة مُشكلة المشاكل أمام الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، مشكلة المشاكل التي هدَّت قُوى هذه الأمة، وأذهبَت ريحها، وشتَّتت شَملها، ولا نتصوَّر أن يقوم للمسلمين قائمة في الأرض، أو تُبنى لهم أمةٌ صالِحة إلا بعلاج هذه المشكلة، ولا علاج لها إلا بالتنادي للالتفاف من جديد حول الكلمة التي وحَّدتهم، والتشريع الذي جمَعهم، ولا شك أن الوصول لذلك مُستحيل إلا بالرجوع إلى مصادر الدين الأساسية؛ الكتاب والسنَّة، وفَهمهما على المِنهاج الذي فهمه السلف الأُوَل الصالِحون من الصحابة ومَن سار على دربهم وطريقهم، وكذلك فلا بدَّ من مُحارَبة العصبية والحزبية أيًّا كان لونها وشَكلُها؛ عصبية للوطن أو القوم أو المذهَب أو جماعة الدعوة، أو أي مُسمى مِن المسميات الجاهلية أو الإسلامية، وقديمًا ذمَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - التعصُّب للأنصار عندما نادى مُنادي المنافقين ليُحزِّبهم ضدَّ المُهاجِرين، فقال كما في الصحيحين: ((دَعُوها؛ فإنها مُنتِنة)).
ولذلك؛ فالمسلم الصالِح هو الذي يكون تمسُّكه بالكتاب والسنَّة، وتعصُّبه للحق أيًّا كان، وللدليل أين وُجد، مُنصفًا من نفسه، شاهدًا بالحق ولو على نفسه، قائمًا بالقسط عاملاً به.
ولا شك أن هذه التربية تقتضينا أن نبحث عن حقيقة العقيدة والإيمان، الذي يُريده الله، والشريعة والصراط الذي يُحبه الله ويرضاه، وحقًّا إن هذا المضمَّن في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه يَحتاج منا تعلقًا به، وتحركًا له، واستنباطًا منه، وأن نَستصغِر كلَّ قولٍ يُخالف ذلك مهما كان صاحب هذا القول قريبًا مِنا، حبيبًا إلينا.
ولا شك أيضًا أن الجهاد ليكون هذا المنهج في التربية معمولاً به في جامعاتنا ومدارسنا ومحاضننا الفكرية والتربوية، هو بداية الطريق للتأسيس والبناء؛ وذلك لينشأ لنا بعد زمنٍ الجيلُ الموحِّد الذي يتناسق ويتَّفق في توجهاته وأفكاره، بدلاً من هذا الجيل الضائع المشتَّت بين هذه الأنماط المختلفة والأشكال المتباينة من العقائد والأفكار والآراء.
وبذلك أيضًا تَختفي أو تقلُّ مَظاهر الاغتراب التي يعاني منها كثير من شبابنا ورجالنا، الذين يَشعُرون أنهم يعيشون في مجتمع لا يَفهمهم، ولا يُدرِك مقاصدهم وأهدافهم، أو لا يَفهمونه، ولا يستطيعون الانسجام معه، ومشاركة آلامهم وآمالهم.
وتَختفي أيضًا مظاهر الانفصام والتذبذب الفِكري، وازدواج الشخصية، والانتقال من النقيض إلى النقيض دون شُعور بالفَرقِ والنقلة، وهذا المرض باتَ يُهدِّد معظم شبابنا ورجالنا ونسائنا؛ حيث التربية المُزدوجة، والمناهج المُختلطة، والحشو الزائف، والتقليد الأعمى لكلِّ ناعق بخير أو بشر؛ حتى فقدْنا لذلك الشخصية المُستقلَّة، والفِكر الناقد.
وبالتربية الإسلامية ستَختفي أيضًا قوافل التقليد، وجَحافل الدهماء، التي باتت تُفرزها هذه المناهج العمياء التي تقوم على فكر القطيع.
ثالثًا: غلبة أهل الكفْر على أهل الإسلام:
المُشكلة الثالثة التي تَعترِض سبيل أمتنا، وتحول بين عودة مجتمعاتنا إلى الدِّين القويم، هي وقوع أوطان المسلمين تحت سيطرة دول الكفر زمانًا طويلاً، هذه الدول التي مزَّقت أوطان المسلمين، وجعلتْهم دولاً، وغرسَت في كل وطن مُشكلات تستعصي على الحل، فقد أقامت تشريع الكفر مكان تشريع الله - سبحانه وتعالى - ووضعَت مناهج للتعليم والتربية لا تُخرج إلا أتباعًا وأذنابًا لكفر الكافر المُستعمر، وربَّت مجموعات من العملاء والموالين، لا يَزالون يتولون أفضل المناصب في توجيه الأمة، وأقامت بذلك واقعًا جديدًا من الحكومات السياسية، والأحزاب، والحدود السياسية، والقوانين الاقتصادية، والاجتماعية، وغرسَت أنماطًا من السلوك والتقاليد والعادات والميول تتفق مع أخلاق الكفار، واستطاعت أيضًا تحويل طائفة عظيمة من المسلمين عن عقائدهم الراسخة في الإيمان بالله، ووجوب حمل رسالة الإسلام، إلى الإيمان بالحياة الدنيا وحدَها هدفًا وغاية وسعيًا.
والخلاصة: أنه قد نشأ في أرض الإسلام واقع جديد يُناهض الإسلام ويُعاديه ويُناقضه، وهذا الواقع يتمثَّل في القوانين الوضعية، والمناهج التربوية، والفِكر الثقافي المُوالي لدول الكفر، وكذلك يتمثَّل هذا الواقع في كثير من آداب السلوك والعادات والتقاليد.
ولا شكَّ أن الجهاد لتغيير هذا الواقع يَحتاج إلى جهود كبيرة في كل تلك الميادين؛ حتى ينشأ واقع جديد يَنبع من الإسلام؛ فتعديل القوانين الوضعية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي يحتاج إلى جهود علماء ومتخصِّصين ودعاة، بعد أن ركدَت حركة الاجتهاد الفِقهي زمانًا طويلاً، وأصبح مَن يتصدَّر للعلم والدعوة والفُتيا، لا يحملون من علوم الإسلام إلا شيئًا قليلاً، وهذا القليل مُختلِط بغيره من الفِكر الدخيل على الإسلام.
وكذلك فالجهاد لتحويل آداب السلوك والعادات والتقاليد، والأخلاق بوجه عام لتتفق مع الشريعة الإسلامية يَحتاج أيضًا إلى جهود هائلة، من التوعية والتوجيه، وضرب المثال، وإبراز أخلاق الإسلام وآدابه؛ في الطعام، والشراب، واللباس، والزينة، والأفراح، والأحزان، والمناسبات الخاصة والعامة؛ وذلك حتى ينشأ جيل جديد يعتز بتراثه الإسلامي، وبذلك تَمَّحِي الآثارُ العقائدية والفِكريَّة والثقافية والاجتماعية، التي خلَّفها الاستعمار.
رابعًا: الغزو الفِكريُّ والثقافي الدائم:
يعيش العالم اليوم وكأنه قرية واحدة؛ فما يقع في أقصى الأرض من أحداث، يتأثَّر به من يعيش في أدناها، وما يُبتدَع من لباس أو زينة أو عادة أو فِكر أو عقيدة، يَنتقل في وقت قصير ليعمَّ شرق الأرض وغربَها، وذلك عبر وسائط ومنافذ لا يكاد يَخلو منها قطر - اليوم - أو بلد؛ فالمَحطات الفضائية والتلفزيون والراديو، والشريط المسجَّل - مرئيًّا ومسموعًا - والصحيفة والكتاب والسياحة، والمؤتَمرات العامة، كل ذلك جعل الناس يتأثَّر بعضهم ببعض، وينقل بعضهم عن بعض.
وكل ذلك يحتاج - إذا أردْنا حماية مجتمعنا الإسلامي - وناشئتِنا الإسلامية إلى جهود هائلة، ليس لمجرَّد المَنع وإغلاق المنافذ والأبواب، فقد أضحى هذا مستحيلاً، وإنما للتوجيه والبيان والإرشاد، والرد على الشبهات والأفكار الوارِدة، والعقائد المسمومة، وكل هذا ولا شك يحتاج إلى علماء ومتخصِّصين، على مستوى الحدَث، فهمًا له، ومعرفة بجُذوره، وإدراكًا لمَغازيه ومراميه، وقدرة على الرد.
وآسَفُ إذا قلتُ: إن أمَّتنا لا تملك أمام الغزو الثقافي والإعلامي بجيوشه الجرارة، وأسلحته الفتاكة إلا مُقاوَمة قليلة، ولا تَملِك أيضًا من وسائل القوة والعلم للتصدِّي لمثْل هذا الغزو إلا شيئًا يسيرًا جدًّا.
خامسًا: أخطاء في مناهِج الإصلاح:
بالرغم من هذا الواقع الاجتماعي والفِكري والثقافي الجديد الذي تعيشه أمَّتُنا، فإن هناك مَن يظنُّ أو يَعتقد أنه يستطيع تغيير هذا الواقع بمجموعة من القوانين، يُصدِرها حاكم، أو زعيم ما، أو كما يقولون: يُمكن تغيير هذا الواقع بجرَّة قلم! وهذا بَعيد جدًّا عن الصواب؛ لأن الإسلام ليس امتثالاً لظاهرٍ من الأعمال فقط، بل هو قبل ذلك إيمان يملأ القلب، ويجعل العمل الظاهري ثمَرةً لذلك الإيمان القلبي، والإيمان لا يُفرِض بقانون.
نعم؛ الإيمان يُحمى بقانون، ونحن في الحقيقة نحتاج أولاً إلى وجود الحقيقة الإيمانية في عامة الشعب أو جمهوره؛ وذلك حتى يُلاحقَ القانونُ الشواذَّ والقِلة، ولا يوضع القانون لمُلاحَقة الكثرة والعامَّة؛ فإن القانون إذا لاحق الكثرة، استحال تطبيقُه إلا عن طريق الإرهاب والإكراه، وهذا بحد ذاته مُنَفِّر من الإيمان والإسلام.
وكذلك هناك مَن يظنُّ أن التربية كالصناعة المادية؛ حيث تُصنع الخامة من المعدن أو القطن أو الصوف في جانب من المصنَع، لتتلقاه سيارة وثلاجة وقماش في الجانب الآخَر، وهذا خطأ كبير؛ لأن التربية الإنسانية الفِعليَّة بطيئة بطء النمو الجسماني، فتربية الأفكار والعقائد وآداب السلوك يحتاج من الزمن ما يَحتاجه النمو الجسماني.
ومثل المستعجلين في التربية كمثل مَن يريد جنينًا بشريًّا في أقل من تسعة أشهر، ومن يريد إخراج رجل كامل في أقل من السنين التي تَستلزِم ذلك، والحال أننا نحتاج لنعيد الأمة إلى جادة الحق وصراط الله إلى عدد من السنين يُناسِب الوقت الذي في مثله يتربَّى الجِيل.
والخلاصة: أننا نحتاج أن نُلقي البذرة، وأن نَنتظِر النموَّ الطبيعي الفِطري لنباتها، ثم نتعهَّدها بالسقي والرعاية، وإبعاد الأذى والآفات عنها؛ حتى تشبَّ وتَقوى، وتُصبِح شجرةً باسقة تَقوى على مُقاوَمة الريح وهضم الآفات.
والبذرة التي نَزرعها هي الكلمة الطيبة، فلنَطرُق بها كل أُذن، ولننتظر حتى تعمل عملها في القلب والنفس، ولنتعهدها حيث ألقيناها بدوام التذكير، ولنَحْمِها من الآفات والسموم، ولنصبر منها على الضعف الذي يَعتريها؛ حتى تصل إلى الكمال الذي قدَّره الله - سبحانه وتعالى - لها.
وكذلك الأمر مع المجتمع والأمة، نَحتاج إلى غرس الفضيلة، ونَشرِ الوعي، والانتقال خطوة نحو الكمال والإصلاح.
سادسًا: التصور الخاطئ للمجتمع الصالح والإنسان الصالح:
يقوم هناك تصور خاطئ، وخاصة في عقول بعض المربين والدعاة؛ إذ يظنُّون أن المجتمع الصالح، مجتمع بلا جريمة ولا شُرورٍ، والإنسان الصالح إنسان بلا خطيئة.
وهذا التصور الخاطئ جعل المجتمع المطلوب مجتمعًا مثاليًّا مثالية خياليَّة لا وجود لها في عالم الواقع، والإنسان المطلوب أو المرتَجى إنسانًا مثاليًّا ملائكيًّا لا وجودَ له، وهذا التصور الخاطئ أوصل كثيرين من الدعاة والمُربين والعلماء والمُصلِحين إلى اليأس أو الإحباط، وذلك عندما شاهَدوا البَوْنَ الشاسع بين ما يَطمحون إليه ويظنُّون أنهم بالِغُوه، وأنه ممكن التحقيق، وبين الواقع الذي يَصِلون إليه بالفعل في التربية والإصلاح.
وتصحيحًا لهذا المفهوم الخاطئ؛ أقول: إن إصلاح المجتمع الإنساني كله، وهداية الناس جميعًا، أمر مُستحيل، بل هو أصلاً مخالف لسنَّة الله - سبحانه وتعالى - فقد شاء أن يكون في الأرض مؤمن وكافر، وأن يكون جنَّة ونارٌ، وأن تَمتلئ هذه وتلك، وهذا الأمر جارٍ وَفقَ حكمته ومشيئته - سبحانه وتعالى - قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [هود: 118، 119].
وقال - سبحانه وتعالى - مُسليًّا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومُهوِّنًا عليه: ﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأنعام: 35].
ولذلك؛ فإن الكفر لن يَمَّحِي من الأرض ما دام الإنسان عليها، بل سنَّة الله - سبحانه وتعالى - أن يَبتلي المؤمنين بالمُجرمين؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 31]، هذا في الدوائر الإنسانية العامَّة.
وأما في الدائرة الإسلامية - أَعني دائرة أهل الإيمان - فإن الخطيئة والجَريمة لم تَنقطِع من مجتمع المؤمنين مُطلقًا، فولدَا آدمَ قتَل أحدُهما أخاه، وكتب الله القصاص في القتلى بين المؤمنين مِن أجْل ذلك، كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 27 - 30].
وقد عقَّب الله - سبحانه وتعالى - على ذكر هذه الجريمة بتذكيرنا أن الأخ الشقيق يَقتُل شقيقه ظلمًا إذا قدر على ذلك، عقَّب الله - سبحانه وتعالى - على ذلك بقوله: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ * إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 32، 33].
وكذلك كان مع نوح ابنُه وزوجته يَتظاهَران بدينه وليسا كذلك، وفي بني إسرائيل يوم كانت أمة مُهتدية قائمة بأمر الله - سبحانه وتعالى - في الأرض كان فيها آنذاك مَن عبَد العِجل، ورفض الانصياع لأحكام التوراة، وطلَب من موسى عبادة الأصنام، واتَّهم موسى بقتل هارون، ومن آذَى موسى، ومَن نَكلَ عن الجهاد والغزو وجَبن أمام الأعداء، ومَن سرَق فقطع، ومَن قتَل واتَّهم الأبرياء بأنهم قتَلوا، قال - سبحانه وتعالى - عنهم: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾ [البقرة: 72]؛ أي درأ كل منكم التُّهمة عن نفسه، واتَّهم غيره، وكل ذلك ونبيُّهم معهم، ورسولهم بين ظهرانيهم، وكل ذلك أيضًا صدر مِن المؤمنين الذين يَعيشون في رحاب الوحي، بل ويُشاهدون المُعجِزات كل يوم أمام أعينهم، فقد شاهَد هؤلاء انشِقاق البحر، وتحوُّل العصا إلى حيَّة، وخروج يد موسى من جيبه بيضاء من غير سوء، وضرب آل فرعون بالسِّنين، وتسليط القمل والضفادع عليهم، وإحياء القتيل بضربة من قطعة من لحم بقرة مَذبوحة؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73]، ولكنهم مع ذلك كانوا كما ذكَر الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 74، 75].
وكذلك كان في تلاميذ عيسى - عليه السلام - مَن وشى به ودلَّ الحُكام الظلمة عليه، وهو يعلم أنهم يَطلبونه للقتل!
وبالرغم أيضًا مِن أن مُجتمع المسلمين أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - كان خير مُجتمَع، وأصحابه كانوا خير الأصحاب، إلا أنه كان فيهم أيضًا مَن شَرب الخمر فجُلد، ومَن زَنى فرُجم، ومن سرق فقُطعت يدُه، ومَن أصابه ضعف فأفشى سرَّ الرسول لأعدائه، ومَن اتَّهم زوجة النبي - برأها الله - بالزنا ثم جُلد، وكان منهم أيضًا مَن ترك الرسول في يوم جُمعة وهو قائم يَخطب عندما سمع أنه قد جاءت تجارة، وكذلك كان فيهم البدوي الذي يَبول في المسجد، وكل هؤلاء كانوا من المؤمنين الصالِحين، وأما المنافقون فقد كان مجتمع المدينة مليئًا بهم، وهو خير مجتمع وُجد على سطح الأرض، وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تمالؤوا مع اليهود والمشركين، وخانوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وتآمروا على قتله، وكادوا يَقتلونه غير مرة، وسبُّوا الرسول والمهاجرين، وقالوا: ﴿ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ [المنافقون: 7]، وقالوا: ﴿ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ﴾ [المنافقون: 8]، وقالوا أيضًا عن المُهاجرين: ما نرانا وهؤلاء إلا كما قال القائل: سمِّنْ كلبَك يأكُلْك، قالها رأس النفاق عبدُالله بن أُبيٍّ في غزوة بني المصطلق، وراجع "البداية والنهاية" وتفسير سورة المنافقين.
ومع ذلك فقد كانوا يُصلُّون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويَحجُّون معه، ويُجاهِدون الكُفار، ويَخرجون في الغزو معه، ويتكلَّمون فيعجب السامعُ لكلامهم، ويسمَع لهم من حلاوة مَنطقِهم وحُلوِ حديثهم.
وكان فيهم كذلك الجاهل الأحمق الذي قال: اعدلْ يا محمد، فهذه قِسمة ما أُريدَ بها وجه الله.
ولا شكَّ أن الآفات والجرائم والأخطاء والضعف التي كانت بعد ذلك في مجتمع الراشدين ومن بعدهم، كانت أعظم مِن هذا بكثير، والمقصود من كل ذلك:
التنبيه على أن المجتمع الصالح ليس مجتمعًا تختفي منه الجريمة، ويُمحى منه الشر، وتزول منه الأثَرَة والطمع والشح والبخل زوالاً كاملاً، كلا؛ فإن مثل هذا المجتمع لا وجود له في عالم الواقع.
ولكن المجتمع الصالح هو الذي لا يقرُّ هذا الباطل، ويعمَل على تلافيه وعلاجه؛ فالجريمة مُسيطَر عليها، نافذٌ حكم الله - سبحانه وتعالى - في أصحابها، والضعف يُعالَج بما يُناسِبه، شدَّةً ولينًا، ومسامحةً وتَنكيلاً، حسب ما تَقتضيه المصلَحة الشرعيَّة، ويتطلَّبه المَوقِف.
والمقصود من سَردِ ذلك كله أن أُبيِّن الجانب الآخَر مِن الصورة، وذلك أنَّ عَرْض المواقف الحسَنة والجوانب المثالية الطيبة، يَجعل البعض يَنظرون إلى المجتمعات الفاضلة نظرة غير واقعية، وغير صحيحة؛ ولذلك فقَدوا الأملَ في إصلاح مجتمعاتنا المُعاصِرة التي تعجُّ بالفساد، واعتقدوا أنه يستحيل الوصول إلى الصورة التي تخيَّلوها، فانصرفوا عن الدعوة والعلاج، بل وقعَت طوائف منهم عن الإيمان، وهلكَت أيضًا عندما رأوا أن أشخاصهم وذواتهم لا يُمكِن أن ترتقي للمستوى الذي تخيَّلوه للفرد الصالِح، ولو عرف هؤلاء حقيقة النفس البشرية لم يَيئَسوا من علاج أنفسهم وغيرهم؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 31، 32].
فجعل الله - سبحانه وتعالى - الذين أحسَنوا هم الذين يَجتنبون الكبائر وتقع منهم الصغائر التي يَغفِرها الله، وهذا هو المُحسِن، وكذلك أدخل الله - سبحانه وتعالى - في جملة المتَّقين مَن يفعَل فاحشةً ثم يَتوب منها؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
ثم وصف الله - سبحانه وتعالى - هؤلاء المتقين، فقال: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 133 - 136].
وبعد:
فهذه هي أهمُّ العقبات التي تَعترِض سبيلنا، وتَحُول بين المُصلحين وبين إعادة بناء هذه الأمة من جديد، وهي عقبات ليستْ مُستعصيَة على الحلِّ، وذلك إذا عرفْنا هدفنا وغايتَنا جيدًا، واتخذْنا الطريق المناسِب لذلك، واتَّبعنا سنن الله - سبحانه وتعالى - في خلقه التي لا تتبدَّل ولا تتغير، واتخذنا السياسة الشرعية التي سار فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ فقد عرَفوا غايتهم قبل أن يسيروا خطوة واحدة على الدرب؛ عرفوا أن غايتهم هي عبادة الله الواحد لا شريك له، وتكوين أمة على هذه الغاية تقوم بأمر الله، وتُجاهِد في سبيله، ومِن ثَمَّ وحَّدوا كلمتهم ونسُوا أحقادهم القديمة، وتركوا كل ما تَفتخِر به الجاهلية من الأحساب والأنساب، واعتصموا بحبل الله جميعًا، وواسى كل فرد منهم أخاه، وفاداه بروحه ونفسه، ثم عرفوا مَن هم أعداؤهم على الحقيقة، واتخذوا السياسة الشرعية في حرب هؤلاء الأعداء، ولم يُحاربوهم جميعًا دفعة واحدة، وإنما حاربوا مَن حاربَهم واعتدى عليهم، حتى قويت شوكتُهم وعَظُم أمرهم، وأقاموا أعظمَ أمة عرفتْها الأرض، وشهدتْها هذه الجزيرة، ثم توجَّهوا بعد ذلك خارج هذه الجزيرة يَنشُدون الخير للناس جميعًا والهداية للبشر كلهم، فأعلَوا كلمة الله في الأرض، ونشَروا الإسلام في العالَمين، وحافظوا في كل ذلك على نقاء عقيدتهم ونظافة فِكرهم، وأقاموا بعد ذلك المُجتمَع الكامل الذي يَعلو فيه الخير، ويقلُّ فيه الشر، وكانوا بذلك خير أمة أُخرِجت للناس.
واليوم نحن مطالَبُون أن نقتفي أثرهم، ونتَّبع سبيلهم، متوكِّلين في كل ذلك على الله وحده - سبحانه وتعالى - وقد تكفَّل الله لكل مجاهد في سبيله أن يَهديَه السبيل، ويُنير له الدرب؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، فلنكن كما كان سلفنا الصالح، ولينصرنَّ الله مَن يَنصره؛ إن الله لقويٌّ عزيز.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|