عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 17-08-2022, 10:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (3)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 139الى صــ 146
الحلقة (145)







قلت : وحكى الماوردي عن الشافعي أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول ، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول ، قال : وهو قول الشافعي . وقال الحسن وإبراهيم : إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح ، وهذا تشديد . وقال سالم [ ص: 139 ] والقاسم : لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور ، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد ، وقاله داود بن علي إذا لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد .

الرابعة : مدار جواز نكاح التحليل عند علمائنا على الزوج الناكح ، وسواء شرط ذلك أو نواه ، ومتى كان شيء من ذلك فسد نكاحه ولم يقر عليه ، ولم يحلل وطؤه المرأة لزوجها . وعلم الزوج المطلق وجهله في ذلك سواء . وقد قيل : إنه ينبغي له إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوجها أن يتنزه عن مراجعتها ، ولا يحلها عند مالك إلا نكاح رغبة لحاجته إليها ، ولا يقصد به التحليل ، ويكون وطؤه لها وطئا مباحا : لا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها ، ويكون الزوج بالغا مسلما . وقال الشافعي : إذا أصابها بنكاح صحيح وغيب الحشفة في فرجها فقد ذاقا العسيلة ، وسواء في ذلك قوي النكاح وضعيفه ، وسواء أدخله بيده أم بيدها ، وكان من صبي أو مراهق أو مجبوب بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصي ، وسواء أصابها الزوج محرمة أو صائمة ، وهذا كله - على ما وصف الشافعي - قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح ، وقول بعض أصحاب مالك .

الخامسة : قال ابن حبيب : وإن تزوجها فإن أعجبته أمسكها ، وإلا كان قد احتسب في تحليلها الأجر لم يجز ، لما خالط نكاحه من نية التحليل ، ولا تحل بذلك للأول .

السادسة : وطء السيد لأمته التي قد بت زوجها طلاقها لا يحلها ، إذ ليس بزوج ، روي عن علي بن أبي طالب ، وهو قول عبيدة ومسروق والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وحماد بن أبي سليمان وأبي الزناد ، وعليه جماعة فقهاء الأمصار . ويروى عن عثمان وزيد بن ثابت والزبير خلاف ذلك ، وأنه يحلها إذا غشيها سيدها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا ، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق . والقول الأول أصح ، لقوله تعالى : حتى تنكح زوجا غيره والسيد إنما تسلط بملك اليمين وهذا واضح .

السابعة : في موطإ مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا عن رجل زوج عبدا له جارية له فطلقها العبد البتة ثم وهبها سيدها له هل تحل له بملك اليمين ؟ فقالا : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره .

الثامنة : روي عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن رجل كانت تحته أمة مملوكة فاشتراها وقد كان طلقها واحدة ، فقال : تحل له بملك يمينه ما لم يبت طلاقها ، فإن بت طلاقها فلا تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره . قال أبو عمر : وعلى هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى : مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور . وكان ابن عباس [ ص: 140 ] وعطاء وطاوس والحسن يقولون : ( إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك اليمين ) ، على عموم قوله عز وجل : أو ما ملكت أيمانكم . قال أبو عمر : وهذا خطأ من القول ؛ لأن قوله عز وجل : أو ما ملكت أيمانكم لا يبيح الأمهات ولا الأخوات ، فكذلك سائر المحرمات .

التاسعة : إذا طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فنكحها ذمي ودخل بها ثم طلقها ، فقالت طائفة : الذمي زوج لها ، ولها أن ترجع إلى الأول ، هكذا قال الحسن والزهري وسفيان الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي . قال ابن المنذر : وكذلك نقول ؛ لأن الله تعالى قال : حتى تنكح زوجا غيره والنصراني زوج . وقال مالك وربيعة : لا يحلها .

العاشرة : النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا في قول الجمهور . مالك والثوري . والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ، كلهم يقولون : لا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح ، وكان الحكم يقول : هو زوج . قال ابن المنذر : ليس بزوج ؛ لأن أحكام الأزواج في الظهار والإيلاء واللعان غير ثابتة بينهما . وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا قالت للزوج الأول : قد تزوجت ودخل علي زوجي وصدقها أنها تحل للأول . قال الشافعي : والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته .

الحادية عشرة : جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله : ( لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ) . وقال ابن عمر : التحليل سفاح ، ولا يزالان زانيين ولو أقاما عشرين سنة . قال أبو عمر : لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ ؛ لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة ، فالتأويل أولى بذلك ولا خلاف أنه لا رجم عليه .

قوله تعالى : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : فإن طلقها يريد الزوج الثاني . فلا جناح عليهما أي المرأة والزوج الأول ، قاله ابن عباس ، ولا خلاف فيه . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات .

واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها [ ص: 141 ] الأول ، فقالت طائفة : تكون على ما بقي من طلاقها ، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وعمران بن حصين وأبو هريرة . ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر . وفيه قول ثان وهو ( أن النكاح جديد والطلاق جديد ) ، هذا قول ابن عمر وابن عباس ، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان أصحاب عبد الله يقولون : أيهدم الزوج الثلاث ، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال : وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبد الله كانوا يقولون : يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث ، إلا عبيدة فإنه قال : هي على ما بقي من طلاقها ، ذكره أبو عمر . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول . وفيه قول ثالث وهو : إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد ، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي ، هذا قول إبراهيم النخعي .

الثانية : قوله تعالى : إن ظنا أن يقيما حدود الله شرط . قال طاوس : إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه . وقيل : حدود الله فرائضه ، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني ، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها ، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها ، وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين ، كيلا يغر المرأة من نفسه . وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها . وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج ، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره ، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك ، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب ، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد ، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها ، وإن لم يدخل بها فلها نصفه . وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها برصا فردها وقال : دلستم علي .

واختلفت الرواية عن مالك في امرأة العنين إذا سلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة ، فقال [ ص: 142 ] مرة : لها جميع الصداق ، وقال مرة : لها نصف الصداق ، وهذا ينبني على اختلاف قوله : بم تستحق الصداق بالتسليم أو الدخول ؟ قولان .

الثالثة : قال ابن خويزمنداد : واختلف أصحابنا هل على الزوجة خدمة أو لا ؟ فقال بعض أصحابنا : ليس على الزوجة خدمة ، وذلك أن العقد يتناول الاستمتاع لا الخدمة ، ألا ترى أنه ليس بعقد إجارة ولا تملك رقبة ، وإنما هو عقد على الاستمتاع ، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره ، فلا تطالب بأكثر منه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . وقال بعض أصحابنا : عليها خدمة مثلها ، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة أو ترفه فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم ، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك ، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل . وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل في بلدهن كلفت ما يكلفه نساؤهم ، وذلك أن الله تعالى قال : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف . وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه بما ذكرنا ، ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك ، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك ، ولا يسوغ لها الامتناع ، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك ، ويأخذونهن بالخدمة ، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن ذلك .

الرابعة : قوله تعالى : وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون حدود الله : ما منع منه ، والحد مانع من الاجتزاء على الفواحش ، وأحدت المرأة : امتنعت من الزينة ، ورجل محدود : ممنوع من الخير ، والبواب حداد أي مانع . وقد تقدم هذا مستوفى . وإنما قال : لقوم يعلمون لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده . والعالم يحفظ ويتعاهد ، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال .
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم

[ ص: 143 ] فيه ست مسائل :

الأولى : قوله تعالى : فبلغن أجلهن معنى " بلغن " قاربن ، بإجماع من العلماء ، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك ؛ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك ، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهي ؛ لأن المعنى يقتضي ذلك ، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأولى .

الثانية : قوله تعالى : فأمسكوهن بمعروف الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها ، ولذلك قال جماعة من العلماء : إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها ، فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف ، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها ، والجوع لا صبر عليه ، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ، وقاله من الصحابة عمر وعلي وأبو هريرة ، ومن التابعين سعيد بن المسيب وقال : إن ذلك سنة . ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقالت طائفة : لا يفرق بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم ، وهذا قول عطاء والزهري ، وإليه ذهب الكوفيون والثوري ، واحتجوا بقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وقال : وأنكحوا الأيامى منكم الآية ، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير ، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة ، وهو مندوب معه إلى النكاح . وأيضا فإن النكاح بين الزوجين قد انعقد بإجماع فلا يفرق بينهما إلا بإجماع مثله ، أو بسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا معارض لها . والحجة للأول قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني فهذا نص في موضع الخلاف . والفرقة بالإعسار عندنا طلقة رجعية خلافا للشافعي في قوله : إنها طلقة بائنة ؛ لأن هذه فرقة بعد البناء لم يستكمل بها عدد الطلاق ولا كانت لعوض ولا لضرر بالزوج فكانت رجعية ، أصله طلاق المولي .

الثالثة : قوله تعالى : أو سرحوهن بمعروف يعني فطلقوهن ، وقد تقدم . ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا روى مالك عن ثور بن زيد الديلي : أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها ، كيما يطول بذلك العدة عليها وليضارها ، فأنزل الله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه يعظهم الله به . وقال الزجاج : فقد ظلم نفسه يعني عرض نفسه للعذاب ؛ لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض [ ص: 144 ] لعذاب الله . وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى : الطلاق مرتان . فأفادنا هذان الخبران أن نزول الآيتين المذكورتين كان في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعته لها قاصدا إلى الإضرار بها ، وهذا ظاهر .

الرابعة : قوله تعالى : ولا تتخذوا آيات الله هزوا معناه لا تتخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو بالهزو فإنها جد كلها ، فمن هزل فيها لزمته . قال أبو الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول : إنما طلقت وأنا لاعب ، وكان يعتق وينكح ويقول : كنت لاعبا ، فنزلت هذه الآية ، فقال عليه السلام : من طلق أو حرر أو نكح أو أنكح فزعم أنه لاعب فهو جد . رواه معمر قال : حدثنا عيسى بن يونس عن عمرو عن الحسن عن أبي الدرداء فذكره بمعناه . وفي موطإ مالك أنه بلغه أن رجلا قال لابن عباس : إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى علي ؟ فقال ابن عباس : ( طلقت منك بثلاث ، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا ) . وخرج الدارقطني من حديث إسماعيل بن أمية القرشي عن علي قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا طلق البتة فغضب وقال : تتخذون آيات الله هزوا - أو دين الله هزوا ولعبا من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره . إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث . وروي عن عائشة : ( أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول : والله لا أورثك ولا أدعك . قالت : وكيف ذاك ؟ قال : إذا كدت تقضين عدتك راجعتك ) ، فنزلت : ولا تتخذوا آيات الله هزوا . قال علماؤنا : والأقوال كلها داخلة في معنى الآية ؛ لأنه يقال لمن سخر من آيات الله : اتخذها هزوا . ويقال ذلك لمن كفر بها ، ويقال ذلك لمن طرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها ، فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية . و " آيات الله " : دلائله وأمره ونهيه .

الخامسة : ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه ، واختلفوا في غيره [ ص: 145 ] على ما يأتي بيانه في " براءة " إن شاء الله تعالى . وخرج أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة . وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدرداء كلهم قالوا : ( ثلاث لا لعب فيهن واللاعب فيهن جاد : النكاح والطلاق والعتاق ) . وقيل : المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين . ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا ، وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه .

السادسة : قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم أي بالإسلام وبيان الأحكام . ( والحكمة ) : هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب . يعظكم به أي يخوفكم . واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم تقدم .
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " فلا تعضلوهن " روي أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البداح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها ، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال : وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه . فنزلت الآية . قال مقاتل : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلا فقال : إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي البداح فقال : آمنت بالله ، وزوجها منه . وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت : فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن . وأخرجه أيضا الدارقطني عن الحسن قال : حدثني معقل بن يسار قال : كانت لي أخت فخطبت إلي فكنت أمنعها الناس ، فأتى ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه ، فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها مع الخطاب ، فقلت : منعتها الناس وزوجتك إياها ثم طلقتها طلاقا له رجعة ثم تركتها حتى انقضت عدتها فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب لا [ ص: 146 ] أزوجك أبدا فأنزل الله ، أو قال أنزلت : وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه . في رواية للبخاري : فحمي معقل من ذلك أنفا ، وقال : خلى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها فأنزل الله الآية ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فترك الحمية وانقاد لأمر الله تعالى . وقيل : هو معقل بن سنان ( بالنون ) . قال النحاس : رواه الشافعي في كتبه عن معقل بن يسار أو سنان . وقال الطحاوي : هو معقل بن سنان .

الثانية : إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي لأن أخت معقل كانت ثيبا ، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها ، ولم تحتج إلى وليها معقل ، فالخطاب إذا في قوله تعالى : فلا تعضلوهن للأولياء ، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهن . وقد قيل : إن الخطاب في ذلك للأزواج ، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير بتطويل العدة عليها . واحتج بها أصحاب أبي حنيفة على أن تزوج المرأة نفسها قالوا : لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها كما قال : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، ولم يذكر الولي . وقد تقدم القول في هذه المسألة مستوفى . والأول أصح لما ذكرناه من سبب النزول . والله أعلم .

الثالثة : قوله تعالى : فبلغن أجلهن بلوغ الأجل في هذا الموضع : تناهيه ؛ لأن ابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة . و ( تعضلوهن ) معناه تحبسوهن . وحكى الخليل : دجاجة معضل : قد احتبس بيضها . وقيل : العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس ، يقال : أردت أمرا فعضلتني عنه أي منعتني عنه وضيقت علي . وأعضل الأمر : إذا ضاقت عليك فيه الحيل ، ومنه قولهم : إنه لعضلة من العضل إذا كان لا يقدر على وجه الحيلة فيه . وقال الأزهري : أصل العضل من قولهم : عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه ، وعضلت الدجاجة : نشب بيضها . وفي حديث معاوية : ( معضلة ولا أبا حسن ) ، أي مسألة صعبة ضيقة المخارج . وقال طاوس : لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلا ابن عباس . وكل مشكل عند العرب معضل ، ومنه قول الشافعي :


إذا المعضلات تصدينني كشفت حقائقها بالنظر

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.08 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]