عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 16-08-2022, 06:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة : Egypt
افتراضي مكونات القصة القصيرة جدا وسماتها عند الأديبة الكويتية هيفاء السنعوسي

مكونات القصة القصيرة جدا وسماتها عند الأديبة الكويتية هيفاء السنعوسي


د. جميل حمداوي


توطئة:
تعد الدكتورة هيفاء السنعوسي من الأديبات الكويتيات المتميزات اللواتي تركن بصماتهن في الساحة الثقافية الكويتية بصفة خاصة، والساحة الثقافية العربية بصفة عامة. وهي كذلك أستاذة جامعية حاصلة على الدكتوراه من جامعة جلاسغو في بريطانيا في الأدب والنقد العربي الحديث. وقد تنوعت كتاباتها الأدبية بين الترجمة، ونظم الشعر، وكتابة الخواطر، والاهتمام بالمسرح، وتجريب الدراسة الأدبية والنقدية، والخوض في أدب الأطفال، وركوب هودج القصة، سواء أكانت قصيرة أم قصيرة جدا. ولها إصدارات عدة في مختلف الفنون والآداب، منها: (إنهم يرتدون الأقنعة! وقصص أخرى)، و (فضاءات الحب)، و (رحيل البحر وقصص أخرى)، و (الآنسة رزان وطبيب الأسنان)، و (القصة الكويتية شكلا ومضمونا)، و (شعر خليفة الوقيان بين الموقف الفكري والبناء الفني)، و(مقتطفات من الشعر الكويتي)، و(عقلك... جسدك يستغيثان من أجل راحة)، و (ضجيج)، و(الكتابة التعبيرية... كراسة تمرينات عملية)، و(شهرزان)، و(نقوش على وجه امرأة)...


وما يهمنا في هذه الأعمال كلها هو التوقف عند مجموعاتها القصصية القصيرة جداً لتبيان مميزاتها الفنية والجمالية والدلالية، كما يبدو ذلك جلياً في أضموماتها الثلاث: (إنهم يرتدون الأقنعة![1]) و (شهرزان) [2]، و (ضجيج) [3]. إذاً، ما أهم مكوناتها النصية تخطيبا وتحبيكا ومقصدية؟ وما سماتها الفنية والجمالية والسردية؟ هذا ما سوف نرصده في موضوعنا هذا.

المكونات القصصية والسردية:
نعني بالمكونات الأركان الثابتة في القصة القصيرة جدا، وهي عناصر ثابتة ودائما موجودة، مثل: القصصية، والحجم القصير جدا، والتكثيف، وفعلية الجملة، والتراكب، والتركيز، وانتقاء الأوصاف، والصورة الومضة...


لذا، فقصص هيفاء السنعوسي تتضمن مجموعة من المكونات السردية التي تتعلق بالقصة القصيرة جدا، ونحصرها في ما يلي:
القصصية:
تتوفر قصص هيفاء السنعوسي على مقومات الحبكة السردية المبنية على الحدث، والشخوص، والفضاء، والمنظور السردي، والوصف، والصيغة اللغوية والأسلوبية، كما يبدو ذلك في قصة (قلق) التي تتحدث عن طفلة لقيطة. ومن ثم، تستند هذه القصة إلى بداية وعقدة وحل، وتحوي الشخوص (الطفل، والأم، والشيخ). كما تشير إلى الفضاء (البيت والمستشفى)، والزمان (الليل)، والأسلوب (السرد)، والمنظور السردي (الرؤية من الخلف): "صرخات الطفل توقظها من نومها.


تفتح الضوء الجانبي، مشوشة على طفلها في السرير المجاور، تتواصل صرخاته...


تتوجه إليه، تحمله بضعف، تلحظ بللا. تعالج الموقف ببطء شديد.


تضع في فمه زجاجة الحليب...


تسحب الغطاء وتغطي وجهها. تغيب في ظلمة لا تود مغادرتها.


تأتي إلى ذهنها لوحة مؤلمة لرجل كبير يتهاوى على سرير الموت في المستشفى بعد صراع مع أمراض الشيخوخة... يختفي ويترك مراهقة في ثوب امرأة. [4]".


وهكذا، يتبين لنا، من خلال هذه القصة، أن هذا النص القصير جدا قد استوفي كل العنصر الحبكة السردية التي تتوفر عليها القصة بصفة عامة، والقصة القصيرة جدا بصفة خاصة.

الحجم القصير جدا:
وظفت هيفاء السنعوسي قصصا لا يتعدى حجمها نصف صفحة في أضموماتها الثلاث. وبذلك، تكتب المبدعة نصوصا متميزة تندرج ضمن جنس أدبي جديد هو جنس القصة القصيرة جدا، كما يبدو ذلك جليا في قصتها (معادلة) التي تصور خوف الفتاة الجميلة من الموت المفاجئ أثناء الولادة: " تلد فتاة جميلة بعد ساعات من المعاناة في حجرة الولادة.. تملأ قطرات العرق جبهتها.. تنقل إلى حجرة أخرى.. يزورها زوجها.. تقرأ ملامح وجهه... تبكي.. فقد عرفت أن والدتها التي تعرضت بالأمس لنوبة قلبية مفاجئة.. قد غادرت اليوم حجرة العناية الفائقة إلى عالم آخر!"[5].


يتبين لنا، من خلال هذه القصة، أن الكاتبة واعية تمام الوعي بحجم القصة القصيرة جدا، إذ لا تتعدى نصوصها نصف الصفحة، وتختار قالبا بصريا قصيرا جدا، تتخلله مجموعة من علامات الترقيم القائمة على علامة الحذف وعلامة التوقف السردي أو التخييلي، ونقصد بها النقطتين الأفقيتين.


التكثيف:
نعني بتكثيف القصة اختزال الأحداث، وتلخيصها، وتجميعها في أفعال رئيسية وأحداث نووية مركزة بسيطة، والتخلي عن الوظائف الثانوية التكميلية، والابتعاد عن الأوصاف المسهبة، أو التمطيط في وصف الأجواء.


ونفهم، من هذا، أن القصة لابد أن تخضع لخاصية الاختزال والتركيز، وتجميع أكبر عدد ممكن من الأحداث والجمل في رقعة طبوغرافية محددة، ومساحة فضائية قصيرة جدا. ولا يكون التكثيف - هنا- فقط على مستوى تجميع الجمل والكلمات، بل يكون أيضا على المستوى الدلالي، فتحمل القصة تأويلات عدة، وقراءات ممكنة ومفتوحة.


ويعد التكثيف أيضا من أهم عناصر القصة القصيرة جدا، ويشترط فيه الدكتور يوسف حطيني " ألا يكون مخلا بالرؤى أو الشخصيات، وهو الذي يحدد مهارة القاص، وقد يخفق كثير من القاصين أو الروائيين في كتابة هذا النوع الأدبي، بسبب قدرتهم على التركيز أو عدم ميلهم إليه. "[6].


هذا، وتستند معظم قصص هيفاء السنعوسي، سيما في أضموماتها الثلاث، إلى التكثيف القصصي، والإيجاز في تفصيل الحبكة السردية، عن طريق التركيز على استهلال وجيز، وطرح للعقدة بشكل مركز، وتبئير لنهاية قد تكون مغلقة أو مفتوحة، تحتاج إلى التخييل القرائي، والتأويل الاستنتاجي، والتفاعل الضمني بين النص والمتلقي.

الحذف و الإضمار:
تستند القصة القصيرة جدا إلى مكون الإضمار والحذف باعتبارهما من أهم الأركان الجوهرية للقصة القصيرة جدا، وينتجان - كما هو معلوم - عن طريق وجود نقط الحذف، والفراغ الصامت، وظاهرة التلغيز.


وهكذا، يستعمل كاتب القصة القصيرة جدا تقنية الحذف والإضمار، من أجل التواصل مع المتلقي، قصد دفعه إلى تشغيل مخيلته وعقله، لملء الفراغات البيضاء، وتأويل ما يمكن تأويله؛ لأن توضيح دلالات المضامين ومقصدياتها لا يمكن توضيحها أكثر من اللازم. ويستعين الكاتب غالبا بالإيجاز والحذف لدواع سياسية، واجتماعية، وأخلاقية، ولعبية، وفنية، وأخلاقية. كما أن ذكر بعض التفاصيل الزائدة التي يعرفها القارئ تجعل من العمل الأدبي حشوا وإطنابا. لذلك، يبتعد الكاتب عن الوصف، ويستغني عن الوقفات الوصفية في الكثير من النصوص، بله عن اللوحات المشهدية التي قد نجدها حاضرة في القصة القصيرة العادية أو النصوص الروائية.


هذا، وتتحقق ظاهرة الإضمار فنيا في المجموعة القصصية القصيرة جدا، عن طريق الحذف الدلالي، وتشغيل علامات الترقيم الدالة على غياب المنطوق اللغوي، وحضور الإبهام البصري، وهيمنة الفراغ اللغوي، ويظهر ذلك بوضوح في توظيف النقط الثلاث، كما في قصة (قلق): " صرخات الطفل توقظها من نومها.


تفتح الضوء الجانبي، مشوشة على طفلها في السرير المجاور، تتواصل صرخاته...


تتوجه إليه، تحمله بضعف، تلحظ بللا. تعالج الموقف ببطء شديد.


تضع في فمه زجاجة الحليب...


تسحب الغطاء وتغطي وجهها. تغيب في ظلمة لا تود مغادرتها.


تأتي إلى ذهنها لوحة مؤلمة لرجل كبير يتهاوى على سرير الموت في المستشفى بعد صراع مع أمراض الشيخوخة... يختفي ويترك مراهقة في ثوب امرأة. [7]".


يقوم الحذف، في هذه القصة، على التثغير البصري، وتثقيب النص، وتجويع اللفظ، واختصار الأحداث، والدليل على ذلك استعمال نقط الحذف الثلاث.


وهناك قصص أخرى خاضعة لمكون الحذف والإضمار، كما يظهر ذلك واضحا في تلك القصة التي تتحدث عن صراع المرأة مع المرآة والزمن معا؛ فيمتد ذلك الصراع المنقبض إلى ما هو نفسي وذاتي ولاشعوري: " تنتهي مهمة اليوم الأول. تنطلق خطوات تنفيذ المهمة الثانية.


تتخيل نظرات الآخرين. الكل ينظر إليها باهتمام كبير...


تترنح في مشيتها قليلا.


تنظر إلى نفسها في المرآة...


تبتسم ثم ترسم علامة غضب وامتعاض ثم تبتسم مرة أخرى.


تنطلق الآه من أعماق قلبها حينما ترى زحف الزمن، فهي تقترب الآن من الستين.


لم تفعل عمليات التجميل الشيء الكثير.


فقدت شيئا كبيرا بعد وفاة والدتها...


لابد أن تخوض تجربة جديدة تشغلها في الأيام القادمة.


تتذكر المهمة الثانية التي تعتزم تنفيذها. تعد الخطة و... "[8].

لقد استطاعت الكاتبة الغوص في أعماق النفس الإنسانية للمرأة، باستجلاء لشعورها عبر عمليات الاستبطان والتأمل الذاتي. وما يميز هذه القصة أيضا هو أسلوبها التلغرافي، والارتكان إلى الإضمار والحذف، واستعمال خاتمة مضمرة، وبداية حدثية عند مدخل القصة. كما تلتجئ إلى التدوير على غرار الكتابة الشعرية المعاصرة، وذلك في نهاية القصة (تعد الخطة و... ).

فعلية الجملة:
يلاحظ، إبداعياً، أن كثيراً من كتاب القصة القصيرة جدا يكثرون من الجمل الفعلية، أو الجمل الاسمية التي خبرها جملة فعلية، أو يكثرون من الجمل الرابطية ذات الطاقة الفعلية. ويعني هذا أن الجمل الفعلية تسهم في تفعيل الحبكة، وتأزيمها توترا وتعقيدا ودرامية، كما أن الجمل الفعلية دالة على الحركة والحيوية والفعلية الحدثية من خلال تتابع الأفعال، وتراكبها استرسالاً أو تضميناً، كما يبدو ذلك ظاهرا في هذه القصة " سحب الورقة الصغيرة من الجهاز الآلي، شعر بالغضب، قرر مراجعة موظف البنك.. جلس ينتظر دوره، وضع ساقا على ساق ثم اعتدل في جلسته بعد أن لمحت عيناه فردة حذائه اليسرى المنهارة بسبب عامل الزمن.. نظر إلى ساعته.. طال انتظاره.. نظر إلى ساعته مرة أخرى.. مرت ساعتان.. فرح بانفراج أزمة الطابور الطويل.. أعطى البطاقة للموظف: بطاقتي لا تعمل! استلم الموظف البطاقة، انسجم في قراءة بيانات مهمة... هز رأسه: عفوا! ولكن لم ينزل راتبك الشهري بعد. "[9].

تخضع هذه القصة لمعيار فعلية الجملة تراكبا وتتابعا وتعاقبا وتسلسلا. ويعني هذا أن الجملة الفعلية هي الأصلح للقصة القصيرة جدا بناء وتركيبا ومقاسا.

انتقاء الأوصاف:
إذا كانت الرواية الواقعية تسهب في الوصف تطويلا واستطرادا وحشوا، كما عند بلزاك، و فلوبير، و ستاندال، و موباسان، ونجيب محفوظ، وعبد الكريم غلاب، ومبارك ربيع، والبشير خريف... فإن من أهم المكونات الأساسية للقصة القصيرة جدا الاقتضاب في الوصف، عن طريق الابتعاد عن الحشو الزائد، وتجنب الاستطرادات الوصفية والتأملات الشاعرية، وتفادي التكرار اللفظي والمعنوي، والتقليل من النعوت والصفات، والابتعاد عن التمطيط في التصوير الوصفي صفحات وصفحات. ومن هنا، لابد من عملية الاقتضاب في الوصف تشذيبا وانتقاء، ولابد من الاقتصاد فيه إيجازا واختزالا وتدقيقا.


وفي هذه الحالة، لا ينبغي للمبدع أن يستخدم، في قصصه القصيرة جدا، الأوصاف إلا إذا كانت معبرة تخدم السياق القصصي خدمة دلالية وفنية ومقصدية، وألا يتحول الوصف إلى حشو زائد.


لذا، يشترط في القصة القصيرة جدا التركيز على الوصف المقتضب والموجز، مع إلغاء الزوائد اللغوية المعيقة، وتشذيب الأوصاف المسترسلة المسهبة. وفي هذا السياق، تقول هيفاء السنعوسي في مجموعتها القصصية (إنهم يرتدون الأقنعة): " ارتدى نظارته ليقرأ رسالة صغيرة كتبت بلون أحمر، وضعتها زوجته قرب محفظته.. (حزمت أمتعتي، وغادرت المنزل، لا أفكر في العودة أبدا، فقد سئمت ارتداء الثوب الباهت الذي أطفأ أنوثتي، كرهت المشاعر الصامتة.. لقد وجدت طريقا آخر في مكان آخر. ) "[10].

يلاحظ انتقاء محكم للأوصاف والنعوت الوامضة والسريعة والخاطفة في أثناء عملية التصوير، بعيدا عن الإطناب والتطويل والإسهاب، وتعدد النعوت، كما يتجلى ذلك بينا في أوصاف هذه القصة المركزة (رسالة صغيرة - لون أحمر - الثوب الباهت - المشاعر الصامتة - طريقا آخر - في مكان آخر).

الصورة الومضة:
نعني بالصورة الومضة تلك الصورة الخاطفة المشعة. ويعني هذا أنها تستند " إلى التوهج والإبهار والإدهاش واللحظات اللامعة المشرقة، عن طريق التأرجح بين صور المشابهة وصور المجاورة والصورة الرؤيا. أي: إن الصورة الومضة هي صورة مركبة ومركزة ومختزلة، تنبض بالإشراق الروحاني، واللمعان الوجداني، والتفاعل الحركي.


وتستخدم الصورة الومضة جميع الآليات التصويرية والتشخيصية، كصور الانزياح، وصور التنكيت والتلغيز، مع استثمار الاستعارة والمجاز و صور التشخيص والأنسنة والترميز والإيحاء والتضمين لخلق عوالم تخييلية فانطاستيكية وأسطورية وأجواء كاريكاتورية، قوامها: السخرية والاستهزاء بما هو كائن، والتنديد بالواقع السائد، مع استشراف ما هو ممكن ومحال. " [11].


وتتجلى الصورة الومضة، تبيانا وتجسيدا، في مجموعتها (إنهم يرتدون الأقنعة!) التي تتأرجح بين جنسي القصة القصيرة وجنس القصة القصيرة جدا. وترد هذه القصص القصيرة جدا تحت عنوان (ومضات قصصية). بمعنى أن الكاتبة تتكئ على القصة الومضة. وبالتالي، فالصورة الومضة لاترتبط بما هو بلاغي فقط، بل تتجاوز ذلك إلى التركيب النحوي والإيقاع السريع، حيث نجد الجمل الفعلية تتراكب بطريقة خاطفة، وتتعاقب بسرعة وامضة، كما يتبين ذلك جليا في قصتها (معادلة) التي تصور خوف الفتاة الجميلة من الموت المفاجئ أثناء الولادة: " تلد فتاة جميلة بعد ساعات من المعاناة في حجرة الولادة.. تملأ قطرات العرق جبهتها.. تنقل إلى حجرة أخرى.. يزورها زوجها.. تقرأ ملامح وجهه... تبكي.. فقد عرفت أن والدتها التي تعرضت بالأمس لنوبة قلبية مفاجئة.. قد غادرت اليوم حجرة العناية الفائقة إلى عالم آخر!"[12].

يلاحظ أن هذه الجمل الفعلية تتعاقب بطريقة خاطفة، وتتراكب بشكل تتابعي سريع. كما تتعاقب الصور السردية لتجسيد معاناة المرأة الولود مع جنينها، وتصوير خوفها من شبح الموت الذي خطف أمها بسرعة مفاجئة. ويعني هذا أن صورة الموت التي تتوزع عبر جمل بسيطة وامضة ذات محمول فعلي واحد، قد ساهمت - بشكل من الأشكال- في خلق القلق والتوتر ودرامية الموقف، وتأزيم المشهد الإنساني سوداوية ومأساة وحزنا.

السمات الفنية والموضوعية:
يقصد بالسمات تلك الخصائص الفنية والجمالية والبنائية التي تحضر في النص وتغيب، كان تكون سمة الشاعرية، أو سمة الواقعية، أو سمة التصوف، أو سمة الخارق... وبالتالي، فقصص هيفاء السنعوسي تحوي مجموعة من السمات التي نوردها على النحو التالي:
الكتابة التلغرافية:
نعني بالكتابة التلغرافية أو الأسلوب التلغرافي تلك الكتابة المفارقة التي تشبه البرقيات والرسائل المكثفة الخاطفة والموجزة، حيث تغيب فيها الروابط، وتستقل فيها الجمل، وتتجاور بطريقة منفصلة إلى درجة التفكك اللغوي، مع وجود نوع من الاتساق والانسجام الدلالين اللذين يبنيان بفعل القراءة والتأويل. وتشبه هذه الكتابة ما يسمى حاليا بالرسائل القصيرة التي ترسل عبر الهاتف النقال أو البريد الإلكتروني أو عبر شبكة التواصل الاجتماعي أو الفايسبوك أو عبر الإسميس (sms). أي: إنها أخبار مقتضبة وسريعة ومختصرة جدا، وقد أصبحت طاغية في التداول اليومي. كما تتسم هذه القصة بالتلميح أكثر من التصريح. وبتعبير آخر، تستعمل القصة القصيرة جدا لغة البرقية، وقد تتخلى عن المداخل والمقدمات والتساهل في اللغة، والإكثار من أخطاء الرقن والإملاء والتعبير. وفي هذا السياق، يقول الدكتور حميد لحمداني: " عالم اليوميات والمذكرات مليء بالملاحظات العابرة واللقطات السريعة ورصد المفارقات والمواقف المبهرة. هذه الخصائص هي ما يشكل نقط التقاطع الأساسية بين أدب اليوميات وفن القصة القصيرة جدا. وفي يومنا الحالي، أصبحت المراسلات القصيرة، والأخبار المقتضبة المنقولة عبر الهاتف أو بواسطة البريد الإلكتروني طاغية في التداول اليومي. وإذا ما أرادت القصة أن تكون ابنة عصرها، عليها أن تتكيف مع الواقع، وتسير بسرعة إيقاع العصر، وتركب لغة الاختزال، وتقدم الأفكار والمعاني في أقل قدر من الكتابة. لاشك أن الإنسان منذ أن اخترع التلغراف بدأ يفكر جيدا في كلفة الكلام الكثير. التفكير في هذه الكلفة تقوى مع ظروف العصر الحالي. على أن الإنسان نفسه لم يعد قادرا على الإنصات لتفاصيل الحياة اليومية، لقد تكلفت الروايات والقصص الواقعية سابقا بإطلاعه على أسرارها، وتقوت معرفته لاحقا بوسائل الاتصال التلفزي والسينمائي، وجاء الإنترنيت الذي تحول إلى أكبر ذاكرة معلوماتية رهن إشارة كل فرد في كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة. هذا، ما جعل كثيرا من الفنون تلجأ إلى الاختزال والتلميح أكثر من التصريح. إن القصة القصيرة جدا تشكل أبرز مثال على تلاؤم فن من الفنون مع مقتضيات عصره. وهي لم تفرط رغم قصر حجمها، ورغم لغتها التلغرافية في خصائصها الإبداعية والإنسانية. [13]".


ومن ثم، تنبني أضمومة (ضجيج) لهيفاء سنعوسي على استعمال جمل تلغرافية تفتقد الروابط التركيبية والنحوية واللسانية، فتبدو الجمل مكثفة ومختزلة ومستقلة بنفسها، كما يبدو ذلك بينا في قصة (احتقان) التي تستقل فيها الجمل وتتجاور بدون روابط كأنها مفككة الوصال: "شعر باحتقان في حنجرته.. بدأ يسعل.. شرب كوبا من شاي الزنجبيل حتى يخف الاحتقان.. اكتشف أنه لم يكتب قصيدة منذ تسع سنوات!"[14].

فهذه القصة تتراكب وتتابع بطريقة تلغرافية سريعة، حيث تستقل الجملة بنفسها تركيبيا ودلاليا ومقصديا.


ويعني هذا أن هيفاء السنعوسي تتميز بخاصية التلغرافية التي تستند إلى توظيف جمل مكثفة ومختزلة ومركبة وسريعة الإيقاع، تفتقد روابط الاتساق والفصل والوصل، على الرغم من وجود الانسجام الدلالي والمقصدي. وفي هذا الصدد، يقول الباحث المصري مصطفى محمود: " أعرف من ألوان الأدب: المسرحية.. والرواية.. والقصة.. والأقصوصة.. ولكن الكاتبة الدكتورة هيفاء السنعوسي تقدم لنا لونا جديدا مكثفا من الأدب القصصي يلخص الشخوص في عبارات خاطفة، ويلخص المواقف في كلمات موجزة، ويلخص المأزق الدرامي في إيماءة.. واحدة.. وإشارة.. وخبر طائر.


هو لون جديد من الأدب التلغرافي الذي يلخص بحار المشاعر في قطرة وفيوض الوجدان في ومضة، وبراكين النفوس المشتعلة في لسعة نار كاوية.. وكأنما أدركها الإشفاق علينا من عصر ملعون وطاغوت زمني يبتلع حياتنا.. فاختارت لنفسها أسلوب مواصلات جديد يلائم العصر. فهي أديبة جديدة تتعامل بالإشارة.. وتستقل تواصلها مع القارئ.. إكسبريس أدبي.. يستخدم أسلوب البرق الخاطف.. واللفظ العاصف..


ورأيي فيها أنها بنت عصرها بحق..


وإنها اختارت ديكورها وشخوصها وأبطالها من نفس العصر اللاهث المجنون الذي نعيشه. "[15].
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.81 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.63%)]