٣٦ - يا بائعًا عمره بثمن بَخْسٍ وقد ضاع الثمن.
يا محبوسًا في سجن الغفلة، لو أشرقت على وادي الدجى لرأيت قصور القوم على شاطئ نهر: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17]، وسمعت بلابل أشواقهم على أغصان الأشجار تترنم: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18].
٣٧ - مَن عبَر إلى ساحل الندم سالت عبَراتُه، ومَن حزن على الفائت ظهرت حسَراته.
٣٨ - يا نائمًا في ليل الغفلة، تيقَّظْ؛ فقد لاح فجرُ الرحيل، بالله ما تخلُّفك عن الركب؟! ما أرى ركائب العزم إلا وقفت، أترى نام الحادي؟! أم ضعتَ؟! أم ضللت عن الطريق؟!
٣٩ - بالله عليك، تذكَّرْ برد حلاوة الطاعة في منزل: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ [الرعد: 24].
٤٠ - كم تُضيِّعُ بَذْرَ أنفاسك في سباخ[10] البطالة، متى ترده إلى زرع المعاملة، لعل أو عسى يثمر عود عسى[11].
٤١ - يا حبيبي، إلى متى تُنفِق النفس النفيس في التسويف؟! أما تخاف إذا سلكت سبيل الهوى كثرةَ المعاثر؟!
لو تذكرتَ ما يلاقي الرَّسْم في الرَّمْس[12]، لان جمادُ قلبك!
كم تلفِّق والمَنون يفرِّق؟!
كم تؤلِّف والحدثان يصرِّف؟!
كم تصفِّي والموت يكدِّر؟!
كم ترقِّق والحساب يدقِّق؟!
كم تولِّي والموت يعزل؟!
ما ينفع الغريقَ نداءُ مَن في الساحل.
٤٢ - يا هذا، مَن مال إلى الغنى بالمال مال، ومَن سكن إلى دوام الحال حال، إنما غنى الأبد سابقة "سَبَقَتْ"، ما يفي غنى الدنيا بزواله.
٤٣ - الليل مطايا المتهجِّدين، والتلاوة حاديهم، وفي السَّحَر تظهر أعلام المنزل، وفي الفجر تحطُّ عن القوم بضائع الأعمال، فإذا قام سوق: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17]، هنالك يَعَضُّ النائم على أنامل الندَم!
٤٤ - معاشِرَ التائبين، اجمَعوا أشتات قلوبكم بالعُزلة، غمِّضوا بازي الهوى عن الطيران، فإذا ارتاض، فأطلِقوه في فضاء الاعتبار، يقتنِصْ لكم طيور المعاني.
٤٥ - مَن خرج له توقيع القرب، دلَّه دليل السعادة على الجادَّة، وغرس في قلبه أشجار الهداية، وسقاها ماء الحماية، فإذا ثمار المعرفة على أفنان اللسان ﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 23] لقلوب دانية، هذا شرح منشور الإرادة، فما يتعلَّلُ بالتخلُّف إلا عليل!
٤٦ - لا يغتَر بلعب الخيال إلا مَن لا يعلم ما وراء الستر.
لا يغتر بالأحلام إلا مَن لا يعلم التأويل.
٤٧ - إذا ذهب منك فَلْس تحزن، وتفرح بعمر ولَّى في اللهو يا ليته يرجع، أما عايَنْتَ وضع الأحباب في التراب في لحدٍ خرِبٍ بلقع؟! نُقلوا مِن فسيح القصور إلى هولٍ يخرُسُ اللسانُ أن يعبِّر عما يرى، ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾ [آل عمران: 30].
٤٨ - يا معتكفًا على شهواتِ النفس، أخطأت الطريق.
يا معوقًا نصلَ سهمِ عزمه في طلب الدنيا، ما أصبتَ الغرض.
٤٩ - إذا وليت سلطنة القدر ولاية الولاية، عقدت لها ألوية العناية، فما حيلة المحروم؟!
إذا هبَّتْ نسيم التوفيق في سَحَر العناية، تحرَّكت أغصان قلوب المستغفرين، واهتزَّتْ أفنان الألسنة بصنوف الدعوات.
٥٠ - ويحَك! إن لم يكن ذلُّ العارف، فلا أقل مِن ذلِّ المعترف، لعل عطفة عطف تعطِفُك.
٥١ - بالله يا إخواني، ساعدوني بالبكاء ساعةً نبُثَّ أحزان قلوبنا؛ فلعل ريحَ قميص القَبول يأتي مع بشير العفو.
٥٢ - يا حبيبي، مَن ذاق حلاوة الأُنس بالحبيب في الخَلوات، باع النوم بنَقْد السَّهَر.
٥٣ - كم لك وأنت تائه في بوادي المعاصي، فمتى تنزل بوادي الندم؛ فهو مُعشِب ورائحته مستكية.
٥٤ - يا مَن هب على عارضه دبور الإدبار وجنوب المجانبة حتى قرب من ساحل الشيب، فانكسرت سفينة عمره، ويحَك! اخرُجْ على عود العود إلى مدينة التوبة؛ فلعل بعضَ ما غرق يطفو ﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [هود: 86].
٥٥ - لو وُزن سرور الدنيا والحزن، لوُجد الحزن أكثر.
٥٦ - إذا اشتغلتَ بتجهيز البنات والبنين، متى تُجهِّز عمرك لدار القبر؟!
٥٧ - بالله، نُحْ على نفسك قبل أن يناح عليك، وابكِ قبل أن يُبكى عليك.
٥٨ - يا مقبلًا على الدنيا، كأنك بمدامع الأسف تجري ولا تدري!
كيف تجفو العمل الصالح وهو رفيقٌ رفيقٌ[13]؟!
٥٩ - متى أراك تحاكم هواك عند قاضي المخالفة؟
متى تقرطس سهمَ عزمك فتذوقَ حلاوة نيل الغرض؟
٦٠ - يا مطرودًا عن الباب، يا محرومًا مِن لقاء الأحباب، إذا أردتَ أن تعرف قدرك عند الملِك، فانظر فيما يستخدمك، وبأي الأعمال يَشغَلُك!
كم عند باب الملك مِن واقف بقصته، ولكن لا يدخل إلا مَن له عناية.
ما كلُّ قلب يصلح للقُرب.
ولا كل صَدْر يحمل الحب.
ما كل نسيم يُشبِه نسيم السَّحَر.
٦١ - إخواني، مَن تاه في ظُلمة ظلمه تَلِف.
٦٢ - طالب الشهوات باحث عن حَتْفه بكفه.
٦٣ - ويحك! قد احتويت على أربع مؤدية إلى التلف: الشيب والحرمان والذنوب والشقاوة، لا الثوب طاهر، ولا البدن نظيف، ولا القلب نقي.
أين فيض العَبَرات لحلول العِبَر، أين التلهُّف على زمان غبر؟!
أين البكاء على فَقْد أحباب لم يجُلْ فِراقُهم في الفكر؟! ﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ﴾ [مريم: 98].
٦٤ - يا حبيبي، إذا مزق ثوب ثوابك مسمار المخالفة، فعليك برقاع الندم.
٦٥ - يا غارقًا في بحر الغفلة، سافَر المحبُّون على رواحل الصبر، وقطعوا أرض الشوق، وحطُّوا في روضة الأُنس، فتعطَّرَتْ أنفاسهم بنَشْر القرب، وعَبِقَتْ بنسيم الوصل، وقتيل الغفلة ما عنده خبر!
٦٦ - ما أسرعَ الخرابَ من قلب عُمِرَ بالمُنى! تُؤمِّل مشيد البنا، وربما ضربت لقبرك اللبنات! تُحدِّث نفسك بأرباح الهند، وربما كفَنُك عند قصَّار[14] بغداد!
٦٧ - يا مَن تخلَّف عن الباب حتى شاب وما تاب، بادِرْ قبل فوات الوقت وغَلْق الأبواب!
٦٨ - لا يستريح مِن تعب السفر إلا مَن وصل إلى المنزل، وما أشدَّ الحسرةَ على مَن فاته الركب وانقطع عن الرفاق!
٦٩ - إذا أدار فلَك السعادة شمس القَبول، أشرقت أرض رياض قلب التائب بنور ربها.
٧٠ - واعجباه! كم يَصيح النصيح بلسان فصيح ولا سامع، لا ينفَع العَذْل المتيم، ولا يسمع العتب عاشق.
[1] وقفتُ على نسخة واحدة مطبوعة لهذا الكتاب، لدار الكتب العلمية، وهي نسخة سيئة، بها أخطاء كثيرة جدًّا، مما دفعني إلى أن أبحث عن نسخٍ خطية، وبفضل الله وعونه حققتُ هذه المواعظ - ولست من أهل التحقيق - على صورتين عن نسختين خطيتين:
الأولى: نسخة بمكتبة دار الإفتاء السعودية، رقم 242، وهي نسخة تامة، وخطها جميل.
الثانية: نسخة مكتبة الأسكوريال، رقم 766، وبها بعض الصفحات سيئة التصوير، وقد استفدت منها في مواضع كثيرة.
[2] دارس مِن الرسوم أو الآثار: الذي امَّحى.
[3] تماكَس الشخصان في البيع: خدع كلٌّ منهما الآخَر.
[4] كَلَمَتْ: جَرَحَتْ.
[5] همَعَت العين: دمعت.
[6] أرض قَفْر: ليس بها زرع ولا ماء ولا بشر.
[7] البازي: جنس من الصقور الصغيرة أو المتوسطة الحجم.
[8] رخمة: حيوان من فصيلة النسريات، ريشُه غزير، يختلط به السواد والبياض.
[9] نافجة: وعاء المِسك.
[10] أرض سباخ: أرضٌ لم تُحرَثْ ولم تعمر؛ لملوحتها.
[11] عسى النبات: غلُظ وصلُب.
[12] الرَّمْس: القَبْر.
[13] رفيق رفيق؛ أي: صاحب رفيق.
[14] القصَّار: المبيِّض للثياب، وهو الذي يهيئ النسيج بعد نسجه ببَلِّه ودقِّه بالقصرة.