
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (335)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 436 إلى صـ 443
ودليل من ألزموه دما مع وقوفه بعرفة في جزء من الليل : وهم المالكية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالليل ، بل وقف معه جزءا من النهار ، فتارك الوقوف بالنهار تارك نسكا . وفي الأثر المروي عن ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم ، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الديلي : " فقد تم حجه " لا يساعد على لزوم الدم ، لأن لفظ التمام يدل على عدم الحاجة [ ص: 436 ] إلى الجبر بدم ، فهو يؤيد مذهب الجمهور ، والعلم عند الله تعالى .
ودليل من قال : بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار دون الليل : أن وقوفه صحيح ، وحجه تام حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله ، إني جئت من جبلي طيئ . أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي . والله ما تركت من جبل ، إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه " ا هـ .
قال المجد في المنتقى ، بعد أن ساق هذا الحديث : رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف ، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث : رواه أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان ، والحاكم ، والدارقطني ، ثم قال : وصحح هذا الحديث الدارقطني ، والحاكم ، والقاضي أبو بكر بن العربي على شرطهما .
وقال النووي في شرح المهذب في حديث عروة بن مضرس : هذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه وغيرهم ، بأسانيد صحيحة . قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح .
ودليل أن عرفة كلها موقف ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، عن جعفر ، حدثني أبي ، عن جابر في حديثه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحرت ههنا ، ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف " ، انتهى من صحيح مسلم .
وقال المجد في المنتقى : بعد أن ساق هذا الحديث بلفظ مسلم الذي سقناه به : رواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، ولابن ماجه وأحمد أيضا نحوه وفيه : " وكل فجاج مكة طريق ، ومنحر " ، وقد قدمنا إجماع أهل العلم على أن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر ليلة جمع . وإجماعهم على أن ما بعد الزوال من يوم عرفة وقت للوقوف . وأما ما قبل الزوال من يوم عرفة ، فجمهور أهل العلم على أنه ليس وقتا للوقوف ، وخالف الإمام أحمد رحمه الله الجمهور في ذلك قائلا : إن يوم عرفة كله من طلوع فجره إلى غروبه وقت للوقوف ، واحتج لذلك بحديث عروة بن المضرس المذكور آنفا فإن فيه : " وقد وقف بعرفة ليلا أو [ ص: 437 ] نهارا ، فقد تم حجه ، " فقوله صلى الله عليه وسلم : " ليلا أو نهارا " يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار .
وقد قدمنا قول المجد في المنتقى ، بعد أن ساق هذا الحديث : وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف ، وحجة الجمهور هي : أن المراد بالنهار في حديث عروة المذكور خصوص ما بعد الزوال ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال ، ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله . قالوا : ففعله صلى الله عليه وسلم ، وفعل خلفائه من بعده مبين للمراد من قوله : أو نهارا .
والحاصل : أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعا ، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعا ، وأن من اقتصر على الليل دون النهار ، فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور ، خلافا للمالكية القائلين بلزوم الدم ، وأن من اقتصر على النهار دون الليل ، لم يصح وقوفه عند المالكية . وعند جمهور العلماء : حجه صحيح . منهم الشافعي ، وأبو حنيفة ، وعطاء ، والثوري ، وأبو ثور ، وهو الصحيح من مذهب أحمد .
ولكن اختلفوا في وجوب الدم ، فقال أحمد وأبو حنيفة : يلزمه دم ، وعن الشافعية قولان : أحدهما : لا دم عليه . وصححه النووي وغيره . والثاني : عليه دم . قيل وجوبا ، وقيل : استنانا ، وقيل : ندبا . والأصح أنه سنة على القول به ، كما جزم به النووي . وأنما قيل : الزوال من يوم عرفة ليس وقتا للوقوف عند جماهير العلماء ، خلافا للإمام أحمد رحمه الله ، وقد رأيت أدلة الجميع .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار ، أو النهار من بعد الزوال دون الليل ، فأظهر الأقوال فيه دليلا : عدم لزوم الدم . أما المقتصر على الليل فلحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه الذي قدمناه قريبا ، وبينا أنه صحيح . وفيه عند أحمد ، والنسائي : فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه . هذا لفظ النسائي ، ولفظ أحمد : من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه ، ا هـ . ولفظ أحمد المذكور بواسطة نقل ابن حجر في التلخيص فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت : " فقد تم حجه " مرتبا ذلك على إتيانه عرفة ، قبل طلوع فجر يوم النحر نص صريح في أن المقتصر على الوقوف ليلا : أن حجه تام ، وظاهر التعبير بلفظ التمام ، عدم لزوم الدم ، ولم يثبت ما يعارضه من صريح الكتاب أو [ ص: 438 ] السنة ، وعلى هذا جمهور أهل العلم ، خلافا للمالكية . وأما المقتصر على النهار دون الليل ، فلحديث عروة بن مضرس الطائي ، وقد قدمناه قريبا ، وبينا أنه صحيح ، وبينا أن فيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه ، فقوله صلى الله عليه وسلم : فقد تم حجه مرتبا له بالفاء على وقوفه بعرفة ليلا أو نهارا ، يدل على أن الواقف نهارا يتم حجه بذلك ، والتعبير بلفظ التمام ظاهر ، في عدم لزوم الجبر بالدم ، كما بيناه فيما قبله ، ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث ، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار ، هو الصحيح من مذهب الشافعي لدلالة هذا الحديث على ذلك ، كما ترى . والعلم عند الله تعالى .
وأما الاكتفاء بالوقوف يوم عرفة قبل الزوال ، فقد قدمنا : أن ظاهر حديث ابن مضرس المذكور يدل عليه ; لأن قوله صلى الله عليه وسلم : أو نهارا صادق بأول النهار وآخره . كما ذهب إليه الإمام أحمد . ولكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه من بعده ، كالتفسير للمراد بالنهار في الحديث المذكور ، وأنه بعد الزوال ، وكلاهما له وجه من النظر ، ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط ، والعلم عند الله تعالى .
وحجة مالك : في أن الوقوف نهارا لا يجزئ إلا إذا وقف معه جزءا من الليل : هي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الجمع في الوقوف بين الليل والنهار ، ولا يخفى أن هذا لا ينبغي أن يعارض به الحديث الصريح في محل النزاع الذي فيه ، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه كما ترى .
واعلم : أنه إن وقف بعد الزوال بعرفة ثم أفاض منها قبل الغروب ثم رجع إلى عرفة في ليلة جمع : أن وقوفه تام ولا دم عليه في أظهر القولين ، لأنه جمع في وقوفه بين الليل والنهار ، خلافا لأبي حنيفة ، وأبي ثور القائلين : بأن الدم لزمه بإفاضته ، قبل الليل وأن رجوعه بعد ذلك ليلا لا يسقط عنه ذلك الدم بعد لزومه . والله تعالى أعلم .
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في صحة الوقوف دون الطهارة ، فيصح وقوف الجنب والحائض ، وقد قدمنا دليل ذلك في حديث عائشة المتفق عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فيه بأن تفعل كل ما يفعله الحاج ، غير أن لا تطوف بالبيت .
[ ص: 439 ] الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا في صحة وقوف المغمى عليه بعرفة . قال النووي في شرح المهذب : ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا يصح وقوف المغمى عليه ، وحكاه ابن المنذر ، عن الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، قال : وبه أقول ، وقال مالك ، وأبو حنيفة : يصح .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ليس في وقوف المغمى عليه نص من كتاب ولا سنة يدل على صحته أو عدمها .
وأظهر القولين عندي قول من قال بصحته لما قدمنا من أنه لا يشترط له نية تخصه ، وإذا سلمنا صحته بدون النية ، كما قدمنا أنه هو الصواب فلا مانع من صحته من المغمى عليه ، كما يصح من النائم ، واحتج من خالف في ذلك بأن المغمى عليه ليس من أهل العبادة حتى يصح وقوفه ، وممن قال بعدم صحته : الحسن ، وممن قال بصحته : عطاء ، والله تعالى أعلم .
الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وقف بعرفات ، وهو لا يعلم أنها عرفات ، قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن مذهبنا صحة وقوفه ، وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ، وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أنه لا يجزئه . انتهى منه .
الفرع الرابع : اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في مشروعية جمع الظهر والعصر جمع تقديم يوم عرفة ، والمغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة ، وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه .
وأظهر الأقوال دليلا : أنه يؤذن للظهر فقط ، ويقيم لكل واحدة منهما .
وأظهر قولي أهل العلم عندي : أن جميع الحجاج يجمعون الظهر والعصر ، ويقصرون ، وكذلك في جمع التأخير في مزدلفة يقصرون العشاء ، وأن أهل مكة وغيرهم في ذلك سواء ، وأن حديث : " أتموا فإنا قوم سفر " ، إنما قاله لهم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لا في عرفة ولا في مزدلفة ، وروى مالك بإسناده الصحيح في الموطإ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " أنه لما قدم مكة صلى بهم ركعتين ، ثم انصرف فقال : يا أهل مكة ، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر . ثم صلى عمر بن الخطاب ركعتين بمنى ، ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا ، وممن قال بأن أهل مكة يقصرون بعرفة ومزدلفة ومنى : مالك ، وأصحابه ، والقاسم بن محمد ، وسالم ، والأوزاعي . وممن قال بأن أهل مكة يتمون صلاتهم في عرفة ، ومزدلفة ، ومنى : الأئمة [ ص: 440 ] الثلاثة : أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وعطاء ، ومجاهد ، والزهري ، وابن جريج ، والثوري ، ويحيى القطان ، وابن المنذر ، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني ، وعزا النووي هذا القول للجمهور .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يخفى أن ظاهر الروايات : أن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع من معه جمعوا وقصروا ، ولم يثبت شيء يدل على أنهم أتموا صلاتهم بعد سلامه في منى ، ولا مزدلفة ، ولا عرفة ، بل ذلك الإتمام في مكة ، وقد قدمنا أن تحديد مسافة القصر لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأن أقوى الأقوال دليلا : هو أن كل ما يطلق عليه اسم السفر لغة تقصر فيه الصلاة كما أوضحنا ذلك بأدلته في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] .
قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه : فلما أتمها - يعني الخطبة - يوم عرفة ، أمر بلالا فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم الجمعة . فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة ، ثم أقام ، فصلى العصر ركعتين أيضا ، ومعه أهل مكة وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب ، ولم يأمرهم بالإتمام ، ولا بترك الجمع ، ومن قال إنه قال لهم : " أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " ، فقد غلط عليه غلطا بينا ، ووهم وهما قبيحا ، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة ، حيث كانوا في ديارهم مقيمين ، ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون ، ويجمعون بعرفة ، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة ، ولا بأيام معلومة ، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة ألبتة ، وإنما التأثير لما جعله الله سببا ، وهو السفر . هذا مقتضى السنة ولا وجه لما ذهب إليه الملحدون . انتهى كلام ابن القيم .
وقد قدمنا قول من قال : إن القصر والجمع المذكور لأهل مكة من أجل النسك ، والعلم عند الله تعالى .
ولا يخفى أن حجة من قالوا بإتمام أهل مكة صلاتهم في عرفة ومزدلفة ومنى ، هو ما قدمنا من تحديدهم للمسافة بأربعة برد ، أو ثلاثة أيام .
وعرفة ، ومزدلفة ، ومنى أقل مسافة من ذلك ، قالوا : ومن سافر دون مسافة القصر أتم صلاته ، هذا هو دليلهم .
الفرع الخامس : اعلم أن الصعود على جبل الرحمة الذي يفعله كثير من العوام [ ص: 441 ] لا أصل له ، ولا فضيلة فيه ; لأنه لم يرد في خصوصه شيء بل هو كسائر أرض عرفة ، وعرفة كلها موقف ، وكل أرضها سواء إلا موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالوقوف فيه أفضل من غيره ، كما قاله غير واحد ، وبذلك تعلم أن ما قاله أبو جعفر بن جرير الطبري ، والماوردي من استحباب صعود جبل الرحمة لا يعول عليه . والعلم عند الله تعالى .
والتحقيق : أن عرنة ليست من عرفة ، فمن وقف بعرنة لم يجزئه ذلك وما يذكر عن مالك من أن وقوفه بعرنة يجزئ وعليه دم خلاف التحقيق الذي لا شك فيه ، والظاهر أنه لم يصح عن مالك .
المسألة التاسعة
لا خلاف بين العلماء أنه إن غربت الشمس واستحكم غروبها وهو واقف بعرفة أفاض منها إلى المزدلفة ، وذلك هو معنى قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس الآية [ 2 \ 199 ] . كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة .
وقد بينت الأحاديث الصحيحة كيفية إفاضته من عرفات ، ففي حديث جابر الطويل عند مسلم : " فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " ، كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء " ، الحديث ، وقول جابر في هذا الحديث : وقد شنق للقصواء الزمام ، يعني أنه يكفها بزمامها عن شدة المشي ، والمورك بفتح الميم وكسر الراء : هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب . وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال : وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدمة الرحل شبه المخدة الصغيرة ، وقوله : ويقول بيده السكينة السكينة ؛ أي : يأمرهم بالسكينة مشيرا بيده ، والسكينة : الرفق والطمأنينة ، وقول جابر في هذا الحديث : كلما أتى حبلا من الحبال : هو بالحاء المهملة ، والباء الموحدة ، والمراد بالحبل في حديثه : الرمل المستطيل المرتفع ، ومنه قول ذي الرمة :
ويوما بذي الأرطى إلى جنب مشرف بوعسائه حيث اسبطرت حبالها
[ ص: 442 ] وقول عمر بن أبي ربيعة :
يا ليتني قد أجزت الحبل نحوكم حبل المعرف أو جاوزت ذا عشر
وحديث جابر هذا الدال على الرفق ، وعدم الإسراع ، وما جاء في معناه من الأحاديث يفسره حديث أسامة الثابت في الصحيحين : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص " ، والعنق بفتحتين : ضرب من السير دون النص ، ومنه قول الراجز :
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
والنص : أعلى غاية الإسراع ، ومنه قول كثير :
حلفت برب الراقصات إلى منى يجوب الفيافي نصها وذميلها
والفجوة تقدم تفسيرها بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : وهم في فجوة منه [ 18 \ 17 ] .
وإذا علمت وقت إفاضته صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى المزدلفة ، وكيفية إفاضته ، فاعلم " أنه صلى الله عليه وسلم نزل في الطريق ، فبال ، وتوضأ وضوءا خفيفا ، وأخبرهم بأن الصلاة أمامهم . ثم أتى المزدلفة ، فأسبغ وضوءه ، وصلى المغرب ، والعشاء بأذان واحد ، وإقامتين ، ولم يصل بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، وصلى الفجر ، حين تبين له الصبح بأذان ، وإقامة ، ثم ركب القصواء ، حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ، فدعاه ، وكبره ، وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس " ، ومن فعل كفعله صلى الله عليه وسلم فقد أصاب السنة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وأما من خالف في ذلك ، فلم يبت بالمزدلفة ، فقد اختلف العلماء في حكمه إلى ثلاثة مذاهب .
الأول : أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم .
الثاني : أنه ركن لا يتم الحج بدونه .
الثالث : أنه سنة وليس بواجب ، والقول : بأنه واجب يجبر بدم : هو قول أكثر أهل العلم منهم : مالك ، وأحمد ، وأبو حنيفة ، والشافعي في المشهور عنه ، وعطاء ، والزهري ، وقتادة ، والثوري ، وإسحاق ، وأبو ثور .
قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا : أنه ليس بركن ، [ ص: 443 ] فلو تركه صح حجه . قال القاضي أبو الطيب ، وأصحابنا : وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف . انتهى منه .
وممن قال : بأنه ركن لا يصح الحج إلا به خمسة من أئمة التابعين ، وبعض الشافعية ، وأما الخمسة المذكورون : فهم علقمة ، والأسود ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن البصري ، وممن قال به من الشافعية : أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي ، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب ، ونقله القرطبي أيضا عن عكرمة ، والأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، قال : وروي عن ابن الزبير . وقال ابن القيم في زاد المعاد : وهو مذهب اثنين من الصحابة : ابن عباس ، وابن الزبير ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعلقمة ، والحسن البصري ، وهو مذهب الأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وداود بن علي الظاهري ، وأبي عبيد القاسم بن سلام . واختاره المحمدان ابن جرير ، وابن خزيمة ، وهو أحد الوجوه للشافعية ، وهؤلاء القائلون بأن المبيت بمزدلفة ركن من أركان الحج يقولون : إن فاته المبيت بها تحلل من إحرامه بعمرة ، ثم حج من قابل .
وممن قال بأن المبيت بمزدلفة سنة لا يجب بتركه دم : بعض الشافعية ، وذكر النووي أن هذا القول مشهور أيضا ، لكن الأول أصح منه ، وعن عطاء ، والأوزاعي : أنها منزل من شاء نزل به ، ومن شاء لم ينزل به ، وروى نحوه الطبري بسند فيه ضعف ، عن ابن عمر مرفوعا ، قاله الحافظ في الفتح .
فإذا علمت أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة ، فهذه تفاصيل أدلتهم ، أما الذين قالوا : بأنه واجب ، وليس بركن : فقد استدلوا على أنه ليس بركن بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه ، وقد قدمنا ألفاظ رواياته ، وأنه صحيح ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه : " أن من أدرك عرفة ولو في آخر جزء من ليلة النحر قبل الصبح أنه تم حجه وقضى تفثه " ، ومعلوم أن هذا الواقف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر ، قد فاته المبيت بمزدلفة قطعا بلا شك ، ومع ذلك فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن حجه تام .
