
13-08-2022, 12:18 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (334)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 428 إلى صـ 435
وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب
[ ص: 428 ] وقيل للوجوب أمر الرب وأمر من أرسله للندب
ومفهم الوجوب يدري الشرع أو الحجا أو المفيد الوضع
وقال بعض أهل العلم : إن دلالة اللغة على اقتضاء الأمر الوجوب راجعة إلى دلالة الشرع ; لأن الشرع هو الذي دل على وجوب طاعة العبد لسيده .
ومن أدلتهم على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه : ما قدمنا من حديث ابن عمر عند الترمذي ، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا " قال المجد في المنتقى : رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، وفيه دليل على وجوب السعي ، ووقوف التحلل عليه . انتهى منه .
والذي رأيته في الترمذي لما ساق الحديث بلفظه المذكور : هو أنه قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح ، تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ ، وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر ، ولم يرفعوه . وهو أصح . انتهى منه .
ومن أدلتهم على ذلك : ما جاء في بعض الروايات الثابتة في الصحيح ، من أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها : " يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك " وهذا اللفظ في صحيح مسلم ، قالوا : ويفهم من قوله : " يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك " أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها إجزاء عن حجها وعمرتها ، هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بأنه ركن من أركان الحج والعمرة .
وأما حجة الذين قالوا : إنه سنة لا يجب بتركه شيء ، فهي قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] قالوا : فرفع الجناح في قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] دليل قرآني على عدم الوجوب ، كما قاله عروة بن الزبير ، لخالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .
والجواب عن الاستدلال بهذه الآية على عدم وجوب السعي : هو ما أجابت به عائشة عروة ، فإنها أولا ذمت هذا التفسير لهذه الآية بقولها : بئس ما قلت يا ابن أختي ، ومعلوم أن لفظة بئس فعل جامد لإنشاء الذم ، وما ذمت تفسير الآية بما ذكر ، إلا لأنه تفسير غير صحيح ، وقد بينت له أن الآية نزلت جوابا لسؤال من ظن أن في السعي بين الصفا والمروة جناحا ، وإذا فذكر رفع الجناح لمطابقة الجواب للسؤال ، لا لإخراج المفهوم عن حكم [ ص: 429 ] المنطوق ، فلو سألك سائل مثلا قائلا : هل علي جناح في أن أصلي الخمس المكتوبة ؟ وقلت له : لا جناح عليك في ذلك ، لم يلزم من ذلك أنك تقول : بأنها غير واجبة ، وإنما قلت : لا جناح في ذلك ، ليطابق جوابك السؤال ، وقد دلت قرينتان على أنه ليس المراد رفع الجناح عمن لم يسع بين الصفا والمروة .
الأولى منهما : أن الله قال في أول الآية : إن الصفا والمروة من شعائر الله وكونهما من شعائر الله ، لا يناسبه تخفيف أمرهما برفع الجناح عمن لم يطف بينهما ، بل المناسب لذلك تعظيم أمرهما ، وعدم التهاون بهما ، كما أوضحناه في أول هذا المبحث .
والقرينة الثانية : هي أنه لو أراد ذلك المعنى لقال : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ، كما قالت عائشة لعروة ، وقد تقرر في الأصول : أن اللفظ الوارد جوابا لسؤال لا مفهوم مخالفة له ; لأن المقصود به مطابقة الجواب للسؤال ، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، وقد أوضحنا هذا في سورة البقرة في الكلام على آية الطلاق ، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يمنع اعتبار دليل الخطاب ، أعني مفهوم المخالفة :
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
ومحل الشاهد منه قوله : أو النطق انجلب ، للسؤل .
ومعنى ذلك : أن المنطوق إذا كان جوابا لسؤال فلا مفهوم مخالفة له ; لأن المقصود بلفظ المنطوق مطابقة الجواب للسؤال ، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق .
فإن قيل : جاء في بعض قراءات الصحابة : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما كما ذكره الطبري ، وابن المنذر وغيرهما ، عن أبي بن كعب ، وابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم .
فالجواب من وجهين :
الأول : أن هذه القراءة لم تثبت قرآنا لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية ، وما ذكره الصحابي على أنه قرآن ، ولم يثبت كونه قرآنا . ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شيء ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا لكونه قرآنا ، فبطل كونه قرآنا بطل من أصله ، فلا يحتج به على شيء ، وقال بعض أهل العلم : إذا بطل كونه قرآنا لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد ، التي ليست بقرآن ، فعلى القول الأول : فلا إشكال ، وعلى الثاني : فيجاب عنه بأن القراءة [ ص: 430 ] المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة ، وما خالف المتواتر المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل ، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما لأنهما نقيضان .
الوجه الثاني : هو ما ذكره ابن حجر في الفتح عن الطبري ، والطحاوي ، من أن قراءة : أن لا يطوف بهما محمولة على القراءة المشهورة ، ولا زائدة . انتهى . ولا يخلو من تكلف كما ترى .
واعلم أن قوله تعالى : ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] لا دليل فيه ، على أن السعي تطوع ، وليس بفرض ; لأن التطوع المذكور في الآية راجع إلى نفس الحج والعمرة ، لا إلى السعي ; لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع ، والعلم عند الله تعالى .
وأما حجة من قال : السعي واجب يجبر بدم ، فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بينهما فدل ذلك على أن الطواف بينهما نسك ، وفي الأثر المروي عن ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم . وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح .
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول : اعلم أن جمهور العلماء على أن السعي لا تشترط له طهارة الحدث ، ولا الخبث ، ولا ستر العورة ، فلو سعى ، وهو محدث أو جنب ، أو سعت امرأة وهي حائض ، فالسعي صحيح ، ولا يبطله ذلك ، وممن قال به الأئمة الأربعة ، وجماهير أهل العلم ، وقال الحسن : إن كان قبل التحلل تطهر وأعاد السعي ، وإن كان بعده ، فلا شيء عليه ، وذكر بعض الحنابلة رواية عن الإمام أحمد : أن الطهارة في السعي ، كالطهارة في الطواف . قال ابن قدامة في المغني : ولا يعول عليه ، والطهارة في السعي مستحبة عند كثير من أهل العلم ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم . وحجة الجمهور على أن السعي لا تشترط له الطهارة : هي ما تقدم من حديث عائشة المتفق عليه ، وقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور : أن تفعل كل ما يفعله الحاج ، وهي حائض إلا الطواف بالبيت خاصة . وهو دليل على أن السعي لا تشترط له الطهارة خلافا لمن قال : لا دليل في الحديث ، لأن السعي لا يصح إلا بعد طواف ، والحيض مانع من الطواف ، وهو مردود بأن النفي والإثبات نص في أن غير الطواف يصح من الحائض ويدخل فيه السعي .
وقال ابن قدامة في المغني : قال أبو داود : سمعت أحمد ، يقول : إذا طافت المرأة [ ص: 431 ] بالبيت ، ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت . وروي عن عائشة ، وأم سلمة أنهما قالتا : إذا طافت المرأة بالبيت ، وصلت ركعتين ، ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة ، رواه الأثرم . وقال ابن قدامة أيضا : ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت ، فأشبهت الوقوف . انتهى منه .
وقال أيضا في المغني : ولا يشترط أيضا الطهارة من النجاسة ولا الستارة للسعي ; لأنه إذا لم تشترط له الطهارة من الحدث وهي آكد فغيرها أولى .
الفرع الثاني : اعلم أن جمهور أهل العلم يشترطون في السعي الترتيب ، وهو أن يبدأ بالصفا ، ويختم بالمروة ، فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط ، وممن قال باشتراط الترتيب : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحابهم ، والحسن البصري ، والأوزاعي ، وداود ، وجمهور العلماء ، وعن أبي حنيفة خلاف في ذلك .
قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، في فقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله : ولو بدأ من المروة لا يعتد بالأولى لمخالفته الأمر . انتهى منه .
وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق المذكور : قوله : ولو بدأ بالمروة لا يعتد بالأولى . وفي مناسك الكرماني : إن الترتيب فيه ليس بشرط عندنا ، حتى لو بدأ بالمروة ، وأتى الصفا جاز ويعتد به ، ولكنه مكروه لترك السنة . فتستحب إعادة ذلك الشوط .
قال السروجي رحمه الله في الغاية : ولا أصل لما ذكره الكرماني .
وقال الرازي في أحكام القرآن : فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يعتد بذلك في الرواية المشهورة عن أصحابنا ، وروي عن أبي حنيفة أنه ينبغي له أن يعيد ذلك الشوط ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وجعله بمنزلة ترك الترتيب في أعضاء الطهارة ا هـ . فقول السروجي : لا أصل لما قاله الكرماني ; فيه نظر . انتهى منه .
وحجة الجمهور في اشتراط الترتيب : أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقال : " أبدأ بما بدأ الله به " ، وفي رواية عند النسائي : " فابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر ، ومع ذلك فقد قال : " خذوا عني مناسككم " ، فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الابتداء بما بدأ الله به ، وفعله صلى الله عليه وسلم عملا بالقرآن العظيم .
الفرع الثالث : اعلم أن جمهور أهل العلم على أن السعي لا يصح ، إلا بعد طواف ، [ ص: 432 ] فلو سعى قبل الطواف لم يصح سعيه ، عند الجمهور ، منهم الأئمة الأربعة ، ونقل الماوردي وغيره الإجماع عليه . قال النووي في شرح المهذب : وحكى ابن المنذر ، عن عطاء ، وبعض أهل الحديث : أنه يصح ، وحكاه أصحابنا عن عطاء ، وداود وحجة الجمهور : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع في حج ، ولا عمرة إلا بعد الطواف ، وقد قال " لتأخذوا عني مناسككم " فعلينا أن نأخذ ذلك عنه ، واحتج من قال بصحة السعي قبل الطواف بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن الشيباني ، عن زياد بن علاقة ، عن أسامة بن شريك قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه ، فمن قال : يا رسول الله سعيت ، قبل أن أطوف ، أو قدمت شيئا ، أو أخرت شيئا ، فكان يقول : لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم ، وهو ظالم له ، فذلك الذي حرج وهلك . انتهى منه . وهذا الإسناد صحيح ، ورجاله كلهم ثقات معروفون . وجرير المذكور فيه هو ابن عبد الحميد بن قرط الضبي ، أبو عبد الله الرازي القاضي ، والشيباني المذكور فيه : هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان الكوفي ، ورجال هذا الإسناد كلهم مخرج لهم في الصحيحين إلا الصحابي ، الذي هو أسامة بن شريك . وقد أخرج عنه أصحاب السنن ، وروى عنه زياد بن علاقة المذكور ، وعلي بن الأقمر ، خلافا لمن قال : لم يرو عنه إلا زياد المذكور ، كما ذكره في تهذيب التهذيب عن الأزدي ، وسعيد بن السكن ، والحاكم ، وغيرهم ، وهذا الحديث الصحيح يقتضي صحة السعي قبل الطواف ، وجماهير أهل العلم على خلافه ، وأنه لا يصح السعي ، إلا مسبوقا بالطواف .
قال النووي في شرح المهذب : في حديث أسامة بن شريك هذا بعد أن ذكر صحة الإسناد المذكور ، وهذا الحديث محمول على ما حمله عليه الخطابي وغيره ، وهو أن قوله : سعيت قبل أن أطوف ؛ أي : سعيت بعد طواف القدوم ، وقبل طواف الإفاضة والله تعالى أعلم انتهى منه .
فقوله : قبل أن أطوف يعني : طواف الإفاضة الذي هو ركن ، ولا ينافي ذلك أنه سعى بعد طواف القدوم الذي هو ليس بركن .
الفرع الرابع : اعلم أن جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة : مالك ، وأحمد ، والشافعي ، وأصحابهم ، على أنه يشترط في صحة السعي ، أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة في كل شوط ، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه ، وقد قدمنا مذهب أبي حنيفة في السعي ، وأنه لو تركه كله أو ترك أربعة أشواط منه فأكثر لصح حجه ، وعليه [ ص: 433 ] دم وأنه إن ترك منه ثلاثة أشواط فأقل لزمه عن كل شوط نصف صاع ، وحجة الجمهور أن المسافة للسعي محددة من الشارع ، فالنقص عن الحد مبطل كما هو ظاهر ، وحجة أبي حنيفة ، ومن وافقه كطاوس هي تغليب الأكثر على الأقل ، مع جبر الأقل بالصدقة ، ولا أعلم مستندا من النقل للتفريق بين الأربعة والثلاثة ، ولا لجعل نصف الصاع مقابل الشوط . والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي ، فلو كان يمر من وراء المسعى ، حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه . وعن الشافعي في القديم : أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيرا أنه يجزئه . والظاهر أن التحقيق خلافه وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه .
الفرع السادس : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم دليلا : أنه لو سعى راكبا أو طاف راكبا أجزأه ذلك ، لما قدمنا في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وهو على راحلته ، ومعلوم أن من أهل العلم من يقول : لا يجزئه السعي ، ولا الطواف راكبا إلا لضرورة ومنهم : من منع الركوب في الطواف ، وكرهه في السعي إلا لضرورة ، ومنهم من يقول : إن ركب ولم يعد سعيه ماشيا ، حتى رجع إلى وطنه فعليه الدم . والأظهر هو ما قدمنا . لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ، وسعى راكبا ، وهو صلوات الله وسلامه عليه لا يفعل إلا ما يسوغ فعله ، وقد قال لنا : " خذوا عني مناسككم " والذين قالوا : إن الطواف والسعي يلزم فيهما المشي . قالوا : إن ركوبه لعلة وبعضهم يقول : هي كونه مريضا كما جاء في بعض الروايات ، وبعضهم يقول : هي أن يرتفع ، ويشرف حتى يراه الناس ويسألوه ، وبعضهم يقول : هي كراهيته أن يضرب عنه الناس ، وقد قدمنا الروايات بذلك في صحيح مسلم ، ففي حديث جابر عند مسلم : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ، لأن يراه الناس وليشرف ، وليسألوه فإن الناس قد غشوه . وفي رواية في صحيح مسلم عن جابر رضي الله ، طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس ، وليشرف ، وليسألوه فإن الناس قد غشوه . وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها : طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن ، كراهية أن يضرب عنه الناس .
[ ص: 434 ] المسألة الثامنة
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه ، وأنهم أجمعوا على أن الوقوف ينتهي وقته بطلوع فجر يوم النحر ، فمن طلع فجر يوم النحر وهو لم يأت عرفة فقد فاته الحج إجماعا ، ومن جمع في وقوف عرفة بين الليل والنهار وكان جزء النهار الذي وقف فيه من بعد الزوال فوقوفه تام ، ومن اقتصر على جزء من الليل دون النهار صح حجه ، ولزمه دم عند المالكية ، خلافا لجماهير أهل العلم القائلين : بأنه لا دم عليه ، وما ذكره النووي عن بعض الخراسانيين : من أن الوقوف بالليل لا يجزئ ولا يصح به الحج ، حتى يقف معه بعض النهار ظاهر السقوط لمخالفته للنص ، وعامة أهل العلم ، ومن اقتصر على جزء من النهار دون الليل لم يصح حجه عند مالك ، وهو رواية عن أحمد ، وعند الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد في الرواية الأخرى : حجه صحيح ، وعليه دم ، ولا خلاف بين العلماء : أن عرفة كلها موقف .
والدليل على أن الوقوف بعرفة ركن ، وأن وقته ينتهي بطلوع الفجر ليلة النحر : ما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحج عرفة ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج " ، قال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث : رواه أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان ، والحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر ، قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة ، وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا : يا رسول الله ، كيف الحج ؟ فقال : " الحج عرفة من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه " لفظ أحمد وفي رواية لأبي داود " من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " ، وألفاظ الباقين نحوه .
وفي رواية للدارقطني والبيهقي : " الحج عرفة الحج عرفة " . انتهى من التلخيص .
وفي سنن أبي داود : الحج الحج يوم عرفة ، بتكرير لفظة الحج . وفي سنن النسائي : فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه . وقال ابن ماجه في سننه ، بعد أن ساق الحديث باللفظ الذي ذكره صاحب التلخيص : قال محمد بن يحيى : ما أرى للثوري حديثا أشرف منه . وقال النووي في شرح المهذب : حديث عبد الرحمن الديلي صحيح رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وآخرون بأسانيد صحيحة .
[ ص: 435 ] وهذا لفظ الترمذي ، عن عبد الرحمن بن يعمر : أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن الحج ؟ فأمر مناديا ينادي : الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج . وفي رواية أبي داود : " فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فنادى : الحج الحج يوم عرفة ، من جاء قبل الصبح من ليلة جمع فتم حجه " وفي رواية البيهقي ، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الحج عرفات الحج عرفات ، من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " ، وإسناد هذه الرواية صحيح ، وهو من رواية سفيان بن عيينة .
قلت : عن سفيان الثوري ، قال ابن عيينة : ليس عندكم بالكوفة حديث أشرف ولا أحسن من هذا . انتهى كلام النووي .
ودليل الإجماع على أن من جمع في وقوفه بعرفة بين جزء من الليل ، وجزء من النهار ، من بعد الزوال : أن وقوفه تام ، هو ما ثبت في الروايات الصحيحة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل وقال : لتأخذوا عني مناسككم " .
فمن الروايات الصحيحة الدالة على ذلك ، ما رواه مسلم في صحيحه في حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن فيه : " فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس إلى أن قال : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء ، إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ، حتى غاب القرص " الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح : أنه جمع في وقوفه بين النهار من بعد الزوال ، وبين جزء قليل من الليل مع قوله : " لتأخذوا عني مناسككم " ، ودليل القائلين بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على جزء من الليل ، دون النهار فقد تم حجه : حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور ، فإن فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه . وجمع : هي المزدلفة ، وليلتها : هي الليلة التي صبيحتها يوم النحر .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|