
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (331)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 404 إلى صـ 411
مثال الزيادة التي هي نسخ على التحقيق : زيادة تحريم الخمر بالقرآن ، وتحريم الحمر الأهلية بالسنة الصحيحة ، على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] فإن هذه الآية الكريمة لم تسكت عن إباحة الخمر والحمر الأهلية وقت [ ص: 404 ] نزولها ، بل صرحت بإباحتهما بمقتضى الحصر الصريح بالنفي في لا أجد في ما أوحي إلي والإثبات في قوله : إلا أن يكون ميتة فتحريم شيء زائد على الأربعة المذكورة في الآية زيادة ناسخة ; لأنها أثبتت تحريما دلت الآية على نفيه .
ومثال الزيادة التي لم يتعرض لها النص بنفي ولا إثبات ، زيادة تغريب الزاني البكر عاما بالسنة الصحيحة على آية الجلد ، وزيادة الحكم بالشاهد واليمين على آية : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية . وزيادة الطهارة ، والستر التي بينا أدلتها على آية : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة الزيادة على النص بقوله :
وليس نسخا كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا
وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي [ 6 \ 145 ] ، وبينا أن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد إذا علم تأخرها عنه ، وبيناها أيضا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية الآية [ 16 \ 101 ] . ولذلك اختصرناها هنا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : اعلم أن الطواف في الحج المفرد والقران ثلاثة أنواع : طواف القدوم ، وطواف الإفاضة : وهو طواف الزيارة ، وطواف الوداع .
أما طواف الإفاضة فهو ركن من أركان الحج بإجماع العلماء ، وأما طواف الوداع ، وطواف القدوم : فقد اختلف فيهما العلماء ، فذهب مالك وأصحابه ، إلى أن طواف القدوم : واجب يجبر بدم ، وأن طواف الوداع : سنة ، ولا يلزم بتركه شيء ، واستدل لوجوب القدوم بحديث عائشة ، وعروة المتفق عليه الذي قدمنا بسنده ومتنه عند الشيخين ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم أول ما يبدأ به الطواف ، وكذلك الخلفاء الراشدون ، والمهاجرون ، والأنصار مع قوله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني مناسككم " واستدل لعدم وجوب طواف الوداع ، بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للحائض في تركه ولم يأمرها بدم ولا شيء ، قالوا : فلو كان واجبا لأمر بجبره ، وأكثر أهل العلم : على أن طواف القدوم لا يلزم بتركه شيء . وقال ابن حجر في الفتح : وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه ، وعن مالك وأبي ثور : عليه دم ، ومن حججهم على أن طواف القدوم لا شيء في تركه أنه تحية ، فلم يجب كتحية المسجد . وأكثر أهل العلم على أن طواف الوداع واجب ، يجب بتركه الدم [ ص: 405 ] إلا أنه يرخص في تركه للحائض خاصة ، إذا نفرت رفقتها قبل أن تطهر . قال النووي في شرح مسلم : الصحيح في مذهبنا وجوب طواف الوداع ، وأنه إذا تركه لزمه دم ، ثم قال : وبه قال أكثر العلماء ، منهم الحسن البصري ، والحكم ، وحماد ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور . وقال مالك ، وداود ، وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه . وعن مجاهد روايتان كالمذهبين انتهى منه . وقد نقل ابن حجر كلامه هذا ، ثم تعقب عزوه سنيته لابن المنذر فقال : والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر : أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين في طواف الوداع دليلا : أنه واجب .
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا سعيد بن منصور ، وزهير بن حرب ، قالا : حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " قال زهير : ينصرفون كل وجه ، ولم يقل ( في ) . انتهى منه . فقوله صلى الله عليه وسلم فيه هذا الحديث الصحيح بصيغة النهي الصريح : " لا ينفرن أحد " إلخ . دليل على منع النفر بدون وداع ، وهو واضح في وجوب طواف الوداع ، ثم قال مسلم رحمه الله : حدثنا سعيد بن منصور ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، واللفظ لسعيد قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض . ا هـ منه . وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن الحائض انتهى . منه وقوله أمر بصيغة المبني للمفعول ، ومعلوم في علوم الحديث ، وأصول الفقه أن مثل ذلك له حكم الرفع . فهو حديث صحيح متفق عليه ، يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع ، مع الترخيص لخصوص الحائض والله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] . وهو صلى الله عليه وسلم يقول " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، وقد نهى في حديث مسلم السابق ، عن النفر بدون طواف وداع ، وأمر في الحديث المتفق عليه بالوداع . فدل ذلك الأمر وذلك النهي على وجوبه . أما لزوم الدم في تركه ، فيتوقف على دليل صالح لإثبات ذلك ، وسنذكر إن شاء الله ما تيسر من أدلة الدماء التي يوجبها الفقهاء ، [ ص: 406 ] وحديث ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لصفية أن تنفر وهي حائض من غير وداع معروف .
الفرع السادس : في أول وقت طواف الإفاضة وآخره .
الظاهر أن أول وقته أول يوم النحر بعد الإفاضة من عرفة ومزدلفة ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاف طواف الإفاضة يوم النحر ، بعد رمي جمرة العقبة ، والنحر ، والحلق ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ، والشافعية ، ومن وافقهم يقولون : إن أول وقته يدخل بنصف ليلة النحر ، ولا أعلم لذلك دليلا مقنعا . وأما آخر وقت طواف الإفاضة ، فلم يرد فيه نص ، وجمهور العلماء على أنه لا آخر لوقته ، بل يبقى وقته ما دام صاحب النسك حيا ، ولكن العلماء اختلفوا في لزوم الدم بالتأخر . قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن مذهبنا أن طواف الإفاضة لا آخر لوقته ، بل يبقى ما دام حيا ، ولا يلزمه بتأخيره دم ، قال ابن المنذر : ولا أعلم خلافا بينهم في أن من أخره وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه ، فإن أخره عن أيام التشريق . فقد قال جمهور العلماء كمذهبنا : لا دم . وممن قال به : عطاء ، وعمرو بن دينار ، وابن عيينة : وأبو ثور ، وأبو يوسف ومحمد ، وابن المنذر ، وهو رواية عن مالك . وقال أبو حنيفة : إن رجع إلى وطنه قبل الطواف : لزمه العود للطواف ، فيطوف ، وعليه دم للتأخير ، وهو الرواية المشهورة عن مالك . دليلنا أن الأصل عدم الدم حتى يرد الشرع به . والله أعلم انتهى الغرض من كلام النووي .
ولزوم الدم بالتأخير فيه خلاف معروف عند المالكية ، مع اتفاقهم على أن من أخره إلى انسلاخ شهر ذي الحجة عليه الدم .
الفرع السابع : لا خلاف بين العلماء في استحباب استلام الحجر الأسود للطائف ، وجماهيرهم على تقبيله ، وإن عجز وضع يده عليه ، وقبلها خلافا لمالك قائلا : إنه يضعها على فيه من غير تقبيل . وقال النووي في شرح المهذب : أجمع المسلمون على استحباب استلام الحجر الأسود ، ويستحب عندنا مع ذلك تقبيله والسجود عليه ، بوضع الجبهة كما سبق بيانه ، فإن عجز عن تقبيله قبل اليد بعده ، وممن قال بتقبيل اليد : ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد الخدري ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وعروة ، وأيوب السختياني ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق . حكاه عنهم ابن المنذر قال : وقال القاسم بن محمد ومالك : يضع يده على فيه من غير تقبيل .
قال ابن المنذر : وبالأول أقول ; لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلوه ، وتبعهم جملة الناس عليه ، ورويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما السجود على الحجر الأسود ، فحكاه ابن المنذر عن [ ص: 407 ] عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وطاوس ، والشافعي ، وأحمد .
قال ابن المنذر : وبه أقول : قال وقد روينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال مالك : هو بدعة ، واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك عن الجمهور في المسألتين ، فقال جمهور العلماء : على أنه يستحب تقبيل اليد ، إلا مالكا في أحد قوليه ، والقاسم بن محمد قالا : لا يقبلها . قال : وقال جميعهم : يسجد عليه ، إلا مالكا وحده فقال : بدعة .
وأما الركن اليماني ففيه للعلماء ثلاثة أقوال :
الأول : أنه يستحب استلامه باليد ، ولا يقبل ، بل تقبل اليد بعد استلامه ، وهذا هو مذهب الشافعي ، قال النووي : وروي عن جابر ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة .
القول الثاني : أنه يستلمه ، ولا يقبل يده بعده بل يضعها على فيه من غير تقبيل ، وهو مشهور مذهب مالك ، وأحمد ، وعن مالك رواية : أنه يقبل يده بعد استلامه كمذهب الشافعي .
القول الثالث : أنه يقبله ، وهو مروي عن أحمد .
تنبيهان
الأول : قد جاءت روايات متعارضة في الوقت الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم طواف الإفاضة ، وفي الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر ، فقد جاء في بعض الروايات : أنه طاف يوم النحر ، وصلى ظهر ذلك اليوم بمنى ، وجاء في بعض الروايات : أنه صلى ظهر ذلك اليوم في مكة ، وفي بعض الروايات : أنه طاف ليلا لا نهارا . ففي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم ما لفظه : " ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر " ، ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه أفاض نهارا ، وهو نهار يوم النحر ، وأنه صلى ظهر يوم النحر بمكة ، وكذلك قالت عائشة : أنه طاف يوم النحر ، وصلى الظهر بمكة . وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثني محمد بن رافع ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى " قال نافع : فكان ابن عمر يفيض يوم النحر ، ثم يرجع ، فيصلي الظهر بمنى ، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله انتهى منه . فترى حديث جابر وحديث ابن عمر الثابتين في صحيح مسلم اتفقا على أنه طاف طواف الإفاضة نهارا ، واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم ، ففي حديث جابر : أنه صلاها بمكة وكذلك قالت عائشة . وفي حديث ابن [ ص: 408 ] عمر : أنه صلاها بمنى بعد ما رجع من مكة . ووجه الجمع بين الحديثين : أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ، كما قال جابر وعائشة ، ثم رجع إلى منى ، فصلى بأصحابه الظهر مرة أخرى ، كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين : مرة بطائفة ، ومرة بطائفة أخرى في بطن نخل ، كما أوضحناه سابقا في سورة النساء ، فرأى جابر وعائشة صلاته في مكة فأخبرا بما رأيا وقد صدقا . ورأى ابن عمر صلاته بهم في منى فأخبر بما رأى ، وقد صدق وهذا واضح ، وبهذا الجمع جزم النووي ، وغير واحد . وقال البخاري في صحيحه : وقال أبو الزبير ، عن عائشة ، وابن عباس رضي الله عنهم : أخر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل انتهى محل الغرض منه . وقد قدمنا أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علق عنه ، مع أنه وصله أبو داود ، والترمذي ، وأحمد ، وغيرهم من طريق سفيان ، وهو الثوري ، عن أبي الزبير به وزيارته ليلا في هذا الحديث المروي عن عائشة ، وابن عباس مخالفة لما قدمنا في حديث جابر ، وابن عمر ، وللجمع بينهما أوجه من أظهرها عندي اثنان .
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة في النهار يوم النحر ، كما أخبر به جابر ، وعائشة ، وابن عمر ، ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلا ، ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ، وإتيانه البيت في ليالي منى ، هو مراد عائشة ، وابن عباس .
وقال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علقه بصيغة الجزم ما نصه : ويذكر عن أبي حسان ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي كان يزور البيت أيام منى . ا هـ .
وقال ابن حجر في الفتح : فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان ، ليجمع بين الأحاديث بذلك ، فيحمل حديث جابر ، وابن عمر : على اليوم الأول ، وحديث ابن عباس هذا : على بقية الأيام ، وهذا الجمع مال إليه النووي . وهذا ظاهر .
الوجه الثاني : في الجمع بين الأحاديث المذكورة أن الطواف الذي طافه النبي صلى الله عليه وسلم ليلا : طواف الوداع ، فنشأ الغلط من بعض الرواة في تسميته بالزيارة ، ومعلوم أن طواف الوداع كان ليلا .
قال البخاري في صحيحه : حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن قتادة : أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم رقد رقدة بالمحصب ، ثم ركب إلى البيت ، فطاف به " . تابعه الليث .
[ ص: 409 ] حدثني خالد ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن أنس بن مالك رضي الله عنه : حدثه " أن النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من البخاري ، وهو واضح في أنه طاف طواف الوداع ليلا ا هـ . وحديث عائشة المتفق عليه يدل لذلك ، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم في زاد المعاد ، ولو فرضنا أن أوجه الجمع غير مقنعة فحديث جابر ، وعائشة ، وابن عمر : أنه طاف طواف الزيارة نهارا أصح مما عارضها ، فيجب تقديمها عليه ، والعلم عند الله تعالى .
التنبيه الثاني : اعلم أنه جاء في بعض الروايات الصحيحة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ماشيا ، ومما يدل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي سقناها سابقا ، في أنه رمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعا ، فإن ذلك يدل على أنه ماش على رجليه لا راكب ، مع أنه جاءت روايات أخر صحيحة تدل على أنه طاف راكبا .
قال البخاري في صحيحه : حدثنا أحمد بن صالح ، ويحيى بن سليمان قالا : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن " تابعه الدراوردي ، عن ابن أخ الزهري ، عن عمه .
وقال مسلم في صحيحه : حدثني أبو الطاهر ، وحرملة بن يحيى ، قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن " .
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : " طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ; لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه ، فإن الناس قد غشوه " .
وفي لفظ عن جابر عند مسلم : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه ، فإن الناس قد غشوه " .
وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثني الحكم بن موسى القنطري ، حدثنا شعيب بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن ، كراهية أن يضرب عنه الناس " ، انتهى منه .
فهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن ابن عباس ، وجابر ، وعائشة - رضي الله عنهم - صريحة في أنه طاف راكبا .
[ ص: 410 ] ووجه الجمع بين هذه الأحاديث الدالة على طوافه راكبا مع الأحاديث الدالة على أنه طاف ماشيا : كأحاديث الرمل في الأشواط الثلاثة الأول ، والمشي في الأربعة الأخيرة : هو " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف القدوم ماشيا ، ورمل في أشواطه الثلاثة الأول ، وطاف طواف الإفاضة في حجة الوداع راكبا " ، هو نص صريح صحيح ، يبين أن من طاف ، وسعى راكبا ، فطوافه وسعيه كلاهما صحيح ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوله : " خذوا عني مناسككم " وقد قدمنا البحث مستوفى في المشي ، والركوب في الحج مع مناقشة أدلة الفريقين . والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثامن : أجمع العلماء على مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف ، ولكنهم اختلفوا في ركعتي الطواف ، هل حكمهما الوجوب أو السنية ؟ فقال بعض أهل العلم : إن ركعتي الطواف واجبتان ، واستدلوا لوجوبهما بصيغة الأمر في قوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ 2 \ 125 ] على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لما طاف : قرأ هذه الآية الكريمة ، وصلى ركعتين خلف المقام ، ممتثلا بذلك الأمر في قوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني مناسككم " ، والأمر في قوله : واتخذوا على القراءة المذكورة يقتضي الوجوب كما بيناه مرارا في هذا الكتاب المبارك . وقال جمهور العلماء : إن ركعتي الطواف من السنن ، لا من الواجبات ، واستدلوا لعدم وجوبهما بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيح . قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل نجد ثائر الرأس ، يسمع دوي صوته ، ولا يفقه ما يقول ، فإذا هو يسأل عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع " الحديث . قالوا : وفي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه لا يجب شيء من الصلاة غير الخمس المكتوبة ، وقد يجاب عن هذا الاستدلال : بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف خلف المقام وارد بعد قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ، إلا أن تطوع " ، والعلم عند الله تعالى .
والمستحب أن يقرأ في الأولى من ركعتي الطواف : قل ياأيها الكافرون [ 109 ] وفي الثانية : قل هو الله أحد [ 112 ] كما هو ثابت في حديث جابر . وجمهور أهل العلم على أن ركعتي الطواف لا يشترط في صحة صلاتهما أن تكون خلف المقام ، بل لو صلاهما في أي موضع غيره صح ذلك . ولو طاف في وقت نهي ، فأحد قولي أهل العلم : إنه يؤخر صلاتهما إلى وقت لا نهي عن النافلة فيه ، ومما يدل على هذين [ ص: 411 ] الأمرين أعني صحة صلاتهما في موضع آخر ، وتأخير صلاتهما إلى وقت غير وقت النهي الذي طاف فيه ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم ، قال : باب الطواف بعد الصبح والعصر ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما : يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس ، وطاف عمر بعد الصبح ، فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى . وفعل عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره البخاري يدل على عدم اشتراط كون الركعتين خلف المقام ، بل تصح صلاتهما في أي موضع صلاهما فيه ، وأن تأخيرهما عن وقت النهي هو الصواب ، وممن قال به : أبو سعيد الخدري ، ومعاذ بن عفراء ، ومالك ، وأصحابه : وعزاه بعضهم إلى الجمهور ، وقد قدمنا مرارا قول من يقول من أهل العلم : إن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي في أوقات النهي ، إلا أن القاعدة المقررة في الأصول : أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح .
وقال الشافعي ، وأصحابه : إن صلاة ركعتي الطواف جائزة في أوقات النهي بلا كراهة ، واستدلوا لذلك بدليلين :
