عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 10-08-2022, 12:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,887
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الوقف في تراث الآل والأصحاب



الوقف في تراث الآل والأصحاب (8)

أوقـــــاف الصحابة رضي الله عنهم


عيسى القدومي


هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

وقف أبي طلحة زيد بن سهل - رضي الله عنه
أبو طلحة الأنصاري، هو زيد بن سهل بن الأسود - رضي الله عنه -، وهو من أكثر الأنصار مالاً، كانت له مزرعةٌ تسمّى (بَيْرُحاء) من أحبّ أموالِه إلى قلبِه، في أرضٍ ظاهرةٍ مقابلةٍ لمسجدِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشربُ من ماءٍ فيها عذْبِ المذاق. تحرّكَ قلبُ أبي طلحةَ - رضي الله عنه - إلى بذلِ هذا المال في سبيلِ الله مع نَفاسَتِه، مدفوعاً بقولِه تعالى: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا ممّا تُحِبُّون}(آل عمران: 92).
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخلٍ، وكان أحبَّ أمواله إليه بَيْرُحَاء، وكانت مستقبلةَ المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا ممّا تُحِبُّون}، قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنّ الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوا ممّا تُحِبُّون}، وإنّ أحبَّ أموالي إليّ بَيْرُحَاء، وإنّها صدقةٌ لله، أرجو بِرَّها وذُخْرَهَا عند الله، فضَعْهَا يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين». فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقَسَمَها أبو طلحة في أقاربِه وبني عمّه.
اجعلها لفقراء أقاربك
وقال البخاري في (صحيحه): قال ثابت: عن أنس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: «اجعلها لفقراء أقاربك»، فجعلها لحسّان، وأُبَيّ بن كعب وقد بيّن الحافظُ أنّها لم تكن حكرًا على حسّان وأُبَيّ -رضي الله عنهما- فقط، بل كان معهما آخرون، قال: «وقد تمسّك به من قال: أقلّ من يُعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان، وفيه نظر، لأنّه وقع في رواية الماجشون عن إسحاق: فجعلَها أبو طلحة في ذي رَحِمِه، وكان منهم حسّان وأُبَيّ بن كعب. فدلّ على أنّه أعطى غيرَهما معهما، وهذه الصدقةُ حملَها جماعةٌ من أهلِ العلمِ على الوقف، من غير أن ينتفي تماماً احتمالُ أن تكونَ صدقةَ تمليك، قال الخطّابي: «وفي الحديث دليل على أنّ الوقف يصحّ وإنْ لم يذكر سُبُلَه ومصارفَ دخلِه».
مشروعية الحبس والوقف
وقال الحافظ: «واستُدِلّ به على مشروعية الحبس والوقف خلافًا لمن منع ذلك وأبطلَه، ولا حجّة فيه، لاحتمال أن تكون صدقةُ أبي طلحة تمليكًا»، وواضحٌ من كلامِ الحافظِ، أنّه يردُّ الاستدلالَ به على مشروعيّةِ الوقف لأجل تطرُّق الاحتمال، لا لأجلِ أنّه يجزمُ بأنّها صدقةُ تمليك، ومن جميلِ ما أفادَه الحافظ من الحديث قولُه: «وفيه فضيلةٌ لأبي طلحة، لأنّ الآية تضمّنت الحثّ على الإنفاقِ من المحبوب، فترقّى هو إلى إنفاقِ أحَبِّ المحبوب، فصوّب - صلى الله عليه وسلم - رأيَه، وشكر عن ربّه فعلَه، ثمّ أمرَه أنْ يخصّ بها أهَله، وكَنَّى عن رضاه بذلك بقوله: بَخٍ!».
وقف سعد بن عبادة - رضي الله عنه
أراد سعد بن عبادة -رضي الله عنه - أن يبرّ أمّه بعد وفاتها، فيرتّب لها صدقةً يجري عليها أجرُهَا وثوابُها، فاسترشدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، فأرشدَه إلى أن يكون (الماء) هو موضوعُ صدقتِه، فإنّه من أفضل الصدقة، لا سيما إذا انضمّ إلى ذلك أنْ يوافقَ التصدُّق بالماء حاجةَ النّاس عند شُحّ الماء، أو في البلدان الحارّة التي يكثُر الطّلب فيها عليه حتى مع توفُّره. عن سعد بن عبادة - رضي الله عنه -، أنّه قال: يا رسول الله، إنّ أمّ سعدٍ ماتت، فأيُّ الصّدقةِ أفضل؟ قال: «الماء»، قال: فحفر بئرًا، وقال: هذه لأمّ سعد، ورواه الحسن رحمه الله بما يفيدُ أنّ تلك البئرَ كانت ماثلةً يستقي منها النّاسُ بعد ذلك، مشهورة معروفة، قال قتادة: سمعتُ الحسن يحدّث عن سعد بن عبادة أنّ أمّه ماتت، فقال: يا رسول الله، إنّ أمّي ماتت، أفأتصدّق عنها؟ قال: «نعم»، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «سَقْيُ الماء». فتلك سِقَاية سعدٍ بالمدينة، وفي لفظ أحمد: «فتلك سقاية آل سعدٍ بالمدينةِ»، والحسنُ -رحمه الله- لم يَلْقَ سَعد بن عبادة ولم يسمع منه، فهو يحدّث عمّا رآه مشهوراً في وقتِه منسوبًا إلى سعد بن عبادة من الصّدقة، وفي هذا الحديث فضيلةٌ لسعد، لحُسْن استجابتِه لما أُرشد إليه، ولحرصِه على برّ أمّه بما أجرى من الصدقةِ عنها بعد مماتها، والمشهور أنّ سعدًا - رضي الله عنه - قد أوقَفَ عن أمّه حائطًا في الأصل، فعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّ سعد بن عبادة أخا بني ساعدة توفّيت أمّه وهو غائبٌ عنها، فأتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنّ أمّي توفّيت وأنا غائبٌ عنها، فهل ينفعُها شيءٌ إن تصدَّقْتُ به عنها؟ قال: «نعم». قال: فإنّي أُشهدك أنّ حائطي المخراف صدقةٌ عليها.
قال الحافظ: «قوله: المخراف، بكسر أوّله وسكون المعجمة، وآخره فاء، أي: المكان المثمر، سُمّي بذلك لما يُخْرَفُ منه، أي: يُجْنَى من الثمرة، تقول: شجرةٌ مِخْرافٌ ومِثْمَارٌ، قاله الخطابي. ووقع في رواية عبد الرزاق: المِخْرَفُ -بغير ألف-، وهو اسمُ الحائط المذكور، والحائط: البستان».
وقف أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر - رضي الله عنه
قال ابن شُبّة في وصفه لبعض دُوْر المدينة: «اتّخذ أبو هريرة الدوسيُّ، صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنه دارًا بالبلاط، بين الزّقاق الذي فيه دار عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، وبين خطّ البلاط الأعظم، فباعَها ولدُه من عمر بن بزيع، وكان يسكنها موالي أبي هريرة فخرجوا منها وأرضاهم ابن بزيغ، وبناها اليوم، وقال الواقديُّ... عن نُعَيْم بن عبد الله قال: شهدت أبا هريرة - رضي الله عنه - تصدّق بدارِه حبيسًا»، فإنْ كانت هذه الدار الموقوفةُ هي التي باعها ابنُه، فالظاهر أنّه كان وقَفَها -رضي الله عنه - على ذرّيّته ومواليه، واشترطَ أنّ أولادَه إنْ احتاجوا باعوها، فكان ذلك، والله أعلم.
وقف عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما
كان من خبر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أنّه لا يعجبُه شيءٌ من ماله إلّا قدّمه لله. عن نافع مولى ابن عمر، قال: «كان عبد الله بن عمر يشتري السّكّر، فيتصدّق به، فنقول له: يا أبا عبد الرحمن لو اشتريتَ لهم بثمنِه طعامًا كان أنفع لهم من هذا، فيقول: إنّي أعرف الذي تقولون، ولكني سمعت الله، يقول: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حتّى تُنْفِقُوْا مِمَّا تُحِبُّوْنَ}، وإنّ ابنَ عمر يحبّ السّكّر».
وفي مناسبةٍ أخرى، بلغ من سرعةِ استجابتِه ما رواه مجاهد، قال: «قرأ ابن عمر وهو يصلّي، فأتى هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوْا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوْا مِمَّا تُحِبُّوْنَ}. قال: فأعتق جاريةً له وهو يصلّي! أشار بيدِه إليها»، وهذه الجارية كانت جاريةً روميّةً له يحبّها حبًّا جمًّا، وردت تسميتها في بعض الروايات رُمَيْثَة، وفي بعضها مرجانة.
وعلى هذا، فلم يكن ابن عمر لتفوته سنّة الوقف، فقد جعل ابنُ عمر نصيبَه من دار عمر سُكنى لذوي الحاجةِ من آل عبد الله، وقال ابن سعد -بسنده- عن نافع: «تصدّق ابن عمر بداره محبوسةً لا تباع ولا توهب، ومن سكنها من ولده لا يخرج منها، ثمّ سكنها ابن عمر»، وعلى هذا يكون وقْفُه على الذريّة، ومعنى أنّه سكنَهَا، أي سكَنَ جزءًا منها، كما تقدّم في صنيعِ زيدِ بن ثابت وأنس بن مالك، -رضي الله عنهم- جميعاً.
وقف عقبة بن عامر - رضي الله عنه
أخرج الخصّاف -بسنده- عن أبي سعاد الجهني، قال: أشهَدَنِي عقبةُ بن عامر على دارٍ تصدّق بها حبسًا، لا تُباع ولا تُوهب ولا تُورث، على ولده وولد ولده، فإذا انقرضوا فعلى أقرب النّاس منّي، حتى يرث الله الأرضَ ومن عليها، وعلى هذا يكون وقْفُه - رضي الله عنه - على الذريّة.
وقف معاذ بن جبل - رضي الله عنه
قال الخصاف: حدّثنا محمد بن عمر الواقدي حدّثنا النعمان بن معن، عن عبد الرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك، قال: وحدّثنا يحيى بن عبد الله بن أبيّ عن أبيه قالا: «كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أوسع أنصاريّ بالمدينة رَبْعاً، فتصدّق بداره التي يقال لها: دار الأنصار اليوم، وكتب صدقته». قالا: ثم إنّ ابن أبي اليَسَرِ خاصمَ عبد الله بن أبي قتادة فى الدّار، وقال: تتبع هي صدقتَه على من لا ندري أيكون أو لا يكون، وقد قضى أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-: لا صدقة حتى يقبض، فاختصموا إلى مروان بن الحكم، فجمع لهم مروان بن الحكم أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأَوْا أنْ تنفّذ الصدقة على ما سبّل، ورأوا حَبْسَ ابنَ أبي اليَسَرِ ليكون له أدبًا، فحبَسَه أيّامًا، ثمّ كُلِّمَ فيه فخَلَّاه، فلقد كان الصبيان يضحكون به.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.01 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.39 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.73%)]