عرض مشاركة واحدة
  #210  
قديم 09-08-2022, 06:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,503
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ... ﴾

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].

قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ الجملة معترضة بين قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ﴾ [البقرة: 142] الآية، وبين قوله: ﴿ َمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ﴾ الآية.

ذكر الله- عز وجل- في الآية السابقة فضل الله- عز وجل- على هذه الأمة في هدايته لهم إلى صراط مستقيم، ثم أتبعه بذكر فضله- عز وجل- عليهم بجعلهم أمة وسطًا.

والكاف في قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ للتشبيه بمعنى: "مثل"، والإشارة إلى ما سبق، وهو فضل الله- عز وجل- على هذه الأمة بهدايتهم إلى صراط مستقيم، أي: مثل ما هديناكم إلى صراط مستقيم، كذلك ﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾.

و"جعل" بمعنى صيَّر تنصب مفعولين، الأول ضمير المخاطبين، والثاني "أمة وسطا".

والجعل نوعان: كوني، وشرعي، والمراد به هنا ما يشمل النوعين، أي: جعلناكم كونًا وقدرًا، وشرعًا، بما شرعناه لكم من هذا الشرع المطهر ﴿ أُمَّةً وَسَطًا ﴾.

و﴿ أُمَّةً ﴾ أي: جماعة وطائفة، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24].

أي: وما من جماعة وطائفة ﴿ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾.

وتطلق الأمة على الزمن والمدة، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾ [يوسف: 45]. أي: وادَّكر بعد مدة.

وتطلق على الملة، كما قال تعالى عن المشركين: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ [الزخرف: 22، 23] أي: على ملة وطريقة.

وتطلق على الإمام والقدوة، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 120].

والمراد بالأمة في الآية ﴿ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾: أمة الإجابة.

﴿ وَسَطًا ﴾: عدلًا خيارًا، قال صلى الله عليه وسلم: "والوَسَط: العدل"[1]، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾ [القلم: 28] أي: أعدلهم رأيًا. قال زهير بن أبي سلمى:
هُمُ وَسَط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل[2]




أي: جعلناكم عدولًا خيارًا بين الأمم، دينكم الإسلام، أكمل الأديان، وكتابكم القرآن الكريم، أعظم الكتب، ورسولكم محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل، وشريعتكم أيسر الشرائع، الحنيفية السمحة، ملة أبيكم إبراهيم، وقبلتكم الكعبة المشرفة، قبلة أبيكم إبراهيم- عليه السلام- أشرف قبلة، وأعظم بقعة، وأول البيوت، وأعظمها حرمة، بناها خليل الرحمن إبراهيم- عليه السلام- على اسم الله- عز وجل- وحده لا شريك له، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127].

فامتنَّ الله- عز وجل- على هذه الأمة المحمدية بأن جعلهم أمة وسطًا، أي: عدولًا خيارًا بين الأمم في كل شيء، فلا هم أهل غلو وإفراط كالنصارى، ولا أهل جفاء وتفريط كاليهود، الذين حرَّفوا كتاب الله وكذَّبوا رسله وقتلوهم، بل هم خير الأمم وأفضلها وأعدلها، كما قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

ودينهم أكمل الأديان لا يقبل بعده من أحد سواه، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

وكتابهم القرآن الكريم المهيمن على جميع الكتب السماوية، وأكملها وأعظمها وأخلدها، كما قال تعالى ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48]، وقال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].

ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"[3].

وشريعتهم أيسر الشرائع، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].

وقبلتهم أعظم قبلة، البيت الحرام، قبلة أبيهم إبراهيم- عليه السلام.

قال ابن القيم[4]: "وظهرت حكمته في أن اختار لهم أفضل قبلة وأشرفها لتتكامل جهات الفضل في حقهم بالقبلة والرسول والكتاب والشريعة".

وقال السعدي[5]: "وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ، لإطلاق قوله ﴿ وَسَطًا ﴾ فلو قدر اتفاقهم على الخطأ لم يكونوا وسطًا إلا في بعض الأمور".

﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ كقوله تعالى: ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الحج: 78].

قوله: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ اللام للتعليل، أي: جعلناكم أمة عدولًا خيارًا؛ لأجل أن تكونوا ﴿ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾.

و"شهداء" جمع "شهيد" أي: تشهدون على الناس بأن الرسل بلغتهم رسالات الله، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، وذلك بما عندكم من العلم اليقيني بذلك بما جاءكم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يقوم مقام المعاينة والمشاهدة.

ولهذا لما قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حديث الإسراء وكذّبه مَن كذّبه شهد أبوبكر- رضي الله عنه- بصدقه، وقال: "صدقناه في خبر السماء، أفلا نصدقه في خبر الأرض"[6].

ونحو من هذا، قال خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: "لما شهد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى الفرس من الأعرابي، فجعل صلى الله عليه وسلم شهادته تعدل شهادة رجلين"[7].

وأيضًا: ليشهد بعضكم على أعمال بعض، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: مَروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت"، ثم مَروا بأخرى فأثنوا عليها شرًّا، فقال: "وجبت" فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض"[8].

وقد استدلَّ ابن القيم بهذه الآية على وجوب اتباع الصحابة، قال[9]: "ووجه الاستدلال بالآية: أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خيارًا عدولًا، هذه حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلها، في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم ونيَّاتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم، وأثنى عليهم، والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق، فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 86] ".

﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ معطوف على ما سبق و"ال" في الرسول في هذا الموضع والذي بعده للعهد الذهني، أي: ويكون الرسول المعهود محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا إشارة إلى أنه لا رسول بعده، أي: رسولكم الذي لا رسول بعده.

﴿ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ بأنه بلغكم رسالة ربه البلاغ المبين، وشهيدًا عليكم بأعمالكم، كما قال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41].

وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد"[10].

فأشهد صلى الله عليه وسلم ربه- عز وجل- على إقرار أمته له بالبلاغ.

وعن عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليَّ القرآن" قلت: أقرأ عليك وعليك أُنزِل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء، حتى أتيت على قوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41] قال: "حسبك" فنظرت إليه، فإذا عيناه تذرفان"[11].

وعن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتشهدون أنه قد بلّغ ﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ فذلك قوله- جل ذكره: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ والوسط: العدل"[12].

وفي رواية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك وأقل، فيُقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيُدعى قومه، فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون: لا. فيقال: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتدعى أمة محمد، فيقال: هل بلّغ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك: أن الرسل قد بلّغوا، فصدقناه، قال: فذلكم قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ "[13].

وعن جابر بن عبدالله- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وأمتي يوم القيامة على كَوْم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلّغ رسالة ربه- عز وجل"[14].

كما تشهد الأمة بعضها على بعض، فعن أبي الأسود- رضي الله عنه قال: "قدمت المدينة، وقد وقع بها مرض، فجلست إلى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه، فمرت بهم جنازة، فأثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر- رضي الله عنه: وجبت. ثم مر بأخرى، فأثني على صاحبها خيرًا، فقال عمر- رضي الله عنه: وجبت، ثم مر بالثالثة، فأُثني على صاحبها شرًّا، فقال: وجبت. فقال أبوالأسود: فقلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، فقلنا: وثلاثة. قال: وثلاثة. فقلنا: واثنان. قال: واثنان. ثم لم نسأله عن الواحد"[15].

وعن أبي بكر بن زهير الثقفي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار" قالوا: بِم ذاك يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن، والثناء السيئ، أنتم شهداء الله بعضكم على بعض"[16].

وعن مصعب بن ثابت عن محمد بن كعب القرظي عن جابر بن عبدالله- رضي الله عنه- قال: "شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني سلمة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: والله يا رسول الله، لنعم المرء كان، لقد كان عفيفًا مسلمًا، وكان...، وأثنوا عليه خيرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: "أنت بما تقول؟" فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت". ثم شهد جنازة في بني حارثة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: يا رسول الله، بئس المرء كان، إن كان لَفَظًّا غليظًا، فأثنوا عليه شرًّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم: "أنت بالذي تقول؟" فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذي بدا لنا منه فذاك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت". قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾"[17].

وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يصلي عليها، فقال الناس: نعم الرجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت". وأتي بجنازة أخرى، فقال الناس: بئس الرجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت". قال أبي بن كعب: ما قولك وجبت؟ فقال: "قال الله عز وجل: ﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾"[18].

﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ﴾ الواو عاطفة، والجملة معطوفة على قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ﴾ [البقرة: 142] وما بينهما اعتراض.

و"ما" نافية، ﴿ جَعَلْنَا ﴾ من الجعل الشرعي، أي: وما شرعنا لك التوجه إلى القبلة التي كنت عليها وهي بيت المقدس أول أمرك، ثم صرفناك عنها إلى المسجد الحرام.

وفي هذا دلالة على أن استقباله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس في الصلاة كان بأمر من الله- عز وجل- لتأليف اليهود للإسلام، لكن لم ينجع ذلك فيهم.

﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾ "إلا" أداة حصر، أي: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها لأي حال من الأحوال، ولأي سبب من الأسباب ﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾.

واللام في قوله: ﴿ لِنَعْلَمَ ﴾ للتعليل، أي: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ﴾ إلا لأجل أن نعلم مَن يتبع الرسول أي: لهذا السبب وحده، أي: إلا لأجل أن نعلم علم ظهور يترتب عليه الجزاء والثواب والعقاب.

وقيل: إن الفعل "نعلم" ضمن معنى "نميّز" كما في قوله تعالى: ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [الأنفال: 37].

﴿ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾"من" موصولة، أي: إلا لنعلم الذي ﴿ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ﴾.

وأظهر في مقام الإضمار، ولم يقل: "من يتبعك"؛ تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم، وتأكيدًا لوجوب اتباعه، أي: إلا لأجل أن نعلم من يتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويتوجه في الصلاة حيث توجه صلى الله عليه وسلم.

﴿ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ "ممن" مركبة من حرف الجر "مِنْ" و"مَنْ" الموصولة، أي: من الذي يرجع على عقبيه، أي: يرجع عن دينه، شاكًّا مرتابًا، مكذبًا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أنزل الله عليه من الوحي، في تحويل القبلة، وغير ذلك.

وفي قوله: ﴿ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ ما فيه من المبالغة في التحذير والتنفير من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أشد وأبلغ مما لو قال: (ممن لم يتبع الرسول)؛ لأن المنقلب على عقبيه مع عدم اتباعه، لم يثبت مكانه، بل نكص على عقبيه، ورجع القهقرى، وسار على غير هدى، ومشى على غير بصيرة. وهذا كما قال تعالى في تبكيت وتوبيخ المكذبين المترفين: ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ﴾ [المؤمنون: 66].
يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.56 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]