وهكذا لا يصح القولُ بتكفير كل القائلين بنفي صفة العلو لله سبحانه، فمن موانع التكفير: الجهل والتأويل، فلِنُفاةِ العلو شبهاتٌ كثيرة، وتأويلات فاسدة، وأوهام يظنونها أدلة عقلية، فأخطؤوا في تأويلهم وضلوا، وكثير منهم لم تقم عليهم الحجة، بل يظنون أنَّ قولهم هو عين الصواب، بل إنَّ بعض غلاتهم يُكفِّرون أو يُضَلِّلُون من يُثبت أنَّ الله سبحانه مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله!
فالغلو في التكفير موجود في جميع الطوائف، وقد نصح كثيرٌ من أهل العلم المنصفين بترك التوسع في التكفير، وبيَّنوا خطأ الغلو في تكفير المخالفين من المسلمين الموحِّدين[27].
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: "ولا ينبغي أن يُظن أنَّ التكفير ونفيه ينبغي أن يُدرك قطعًا في كل مقام، بل التكفير حكم شرعي، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدم، والحكم بالخلود في النار، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية، فتارة يُدرك بيقين، وتارة بظن غالب، وتارة يُتردد فيه، ومهما حصل تردد، فالوقف فيه عن التكفير أَولى، والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل"[28].
وقال الغزالي أيضًا: "والذي ينبغي أن يميل المحصِّل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلًا، فإنَّ استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم"[29].
وقال ابن تيمية رحمه الله: "أهل البدع فيهم المنافق الزنديق، فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإنَّ رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقًا أو عاصيًا، وقد يكون مخطئًا متأولًا مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه"[30].
وقال ابن القيم رحمه الله: "الله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يُعذِّب إلا من قامت عليه حجتُه بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أنَّ كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافرٌ، وأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية مع ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة، وهو مبني على أربعة أصول:
أحدها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يُعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 15]، وقال تعالى: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
الأصل الثاني: أنَّ العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادة العلم بها وبموجبها، الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.
الأصل الثالث: أنَّ قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئًا، ولا يتمكن من الفهم.
الأصل الرابع: أنَّ أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته... وهو الفعال لما يريد، وصدق الله وهو أصدق القائلين: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ [الأنبياء: 23] لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها، وأنَّه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يُسأل عنه كما يُسأل المخلوق، وهو الفعال لما يريد، ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة، فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور، ولا خلاف مقتضى حكمته، لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغني الحميد العليم الحكيم"[31].
واعلم أنَّه لا يجوز تهوينُ أمر البدع، ولا التساهل مع أهل الأهواء والضلال، فقد قال الله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159]، وتكفي هذه الآية الكريمة في الزجر عن جميع البدع، والتحذير الشديد لأهل البدع والأهواء المختلفة، والحث على إقامة الدين الذي رضيه الله لعباده، وعدم التفرق فيه، كما وصى الله بذلك عباده في قوله سبحانه: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
وإنَّ من الصراط المستقيم الاستقامة على السُّنَّة بلا إفراطٍ ولا تفريط، وإنَّ من السنة النبوية التيسير والتبشير، وترك الغلو والتشديد، والحذر من التوسع في التكفير والتبديع.
وهذه الرسالة نصيحةٌ صادقة لبعض المعاصرين المنتسبين إلى السلف الذين يُكفِّرون من وقع في بعض البدع الاعتقادية، وإن كانوا من كبار علماء الأمة الذين أفنَوا أعمارهم في التفسير أو الحديث أو القراءات أو الفقه، وصنَّفوا المصنفات العظيمة، ويستدلون على تكفيرهم بنقول عامة قالها بعض أئمة السلف، والعجيب أنهم يستدلون بتلك النقولات وكأنهم يستدلون بنصوص القرآن أو السنة!
فيجب الحذرُ من الغلو في التكفير، فإنَّ الجهل أو التأويل مانع من التكفير، قال ابن تيمية رحمه الله: "المتأوِّل الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر ولا يفسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد، فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويُكفِّرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية... وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارًا، لم يكونوا منافقين، فيكونوا من المؤمنين، فيُستَغفر لهم، ويُترحَّم عليهم، وإذا قال المؤمن: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10] يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوَّله فخالف السنة، أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارًا، بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يُخلَّدون في النار، فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته"[32].
فمن عقيدة أهل السنة والجماعة أنَّ من دخل النار من أهل البدع الموحِّدين فمآلهم إلى الجنة برحمة الله أرحم الراحمين؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 116]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ))؛ متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
قال ابن القيم رحمه الله: "أهلُ البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم، أقسام:
أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له، فهذا لا يُكَفَّر، ولا يُفَسَّق، ولا تُرد شهادته إذا لم يكن قادرًا على تعلُّم الهدى، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوًّا غفورًا.
القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق، ولكن يترك ذلك اشتغالًا بدنياه ورياسته، ولذته ومعاشه، وغير ذلك، فهذا مُفرِّط مستحق للوعيد، وآثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإنَّ غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السُّنَّة والهدى، رُدت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قُبِلت شهادته.
القسم الثالث: أن يسأل ويطلب، ويتبين له الهدى، ويتركه تقليدًا وتعصبًا أو بغضًا أو معاداةً لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقًا، وتكفيره محلُّ اجتهاد وتفصيل، فإن كان معلنًا داعية رُدت شهادته وفتاويه وأحكامه مع القدرة على ذلك، ولم تُقبل له شهادة ولا فتوى ولا حكم إلا عند الضرورة"[33].
والواجب الحذر من التكفير والتبديع بلا برهان، والخوف من الخوض في أعراض الناس بلا بينة، والعدل في الحكم على الناس، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
قال ابن تيمية رحمه الله في معرض رده على بعض أهل البدع والضلال: "ثم إنَّه ما مِن هؤلاء إلا من له مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف"[34].
وقال ابن القيم رحمه الله: "من قواعد الشرع والحكمة أنَّ من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يُحتمل له ما لا يُحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره، فإنَّ المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث"[35].
وقد سُئِل ابن باز رحمه الله عن حكم تبديع جملة من أئمة أهل السنة بحجة أنهم أخطؤوا في العقيدة مثل النووي وابن حجر وغيرهما؟ فقال: "من أخطأ لا يؤخذ بخطئه، الخطأ مردود، وكل عالم يُخطئ ويُصيب، فيُؤخذ صوابه، ويُترك خطؤه"[36].
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "هناك علماء مشهود لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة من أهل البدع، لكن في كلامهم شيء من كلام أهل البدع، مثل ابن حجر العسقلاني والنووي رحمهما الله، بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحًا تامًّا مطلقًا من كل وجه، فهذان الرجلان ما أعلم أن أحدًا قدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثلما قدماه، فكيف يُقال عنهما: إنهما مبتدعان ضالان، لا يجوز الترحم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما؟! من كان يستطيع أن يقدم للإسلام والمسلمين مثلما قدم هذان الرجلان إلا أن يشاء الله؟! فأنا أقول: غفر الله للنووي، ولـابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين"[37].
وما أحسن قول شيخنا مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله حين سُئِل: هل النووي وابن حجر مبتدعة، لكونهم قالوا بتأويل الصفات على طريقة الأشاعرة؟: "الله يغفر لهما، ولابن حزم، ولابن الجوزي، ولعلمائنا الآخرين الذين زلت أقدامهم... لا أستطيع أن أطلق عليهم بأنهم مبتدعة"، وقال رحمه الله: "نحن لا نُكفِّر مسلمًا إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قرأنا في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد أنَّ كثيرًا من السلف يقولون: من قال: إنَّ القرآن مخلوق فهو كافر، لكن أين الدليل على هذا؟! فمسألة تكفير المسلمين لا بد فيها من الدليل، بل نقول: إنَّه مبتدع"[38].
هذا ومن المسائل التي يدَّعي بعض طلاب العلم المعاصرين إجماع السلف عليها: دعوى إجماع السلف على الطعن في الإمام أبي حنيفة رحمه الله، مع أنَّ بعض علماء السلف أثنوا على أبي حنيفة وعلى فقهه كما في ترجمته، ومن الناس من يتعصبون في هذه المسألة، وينسبون من خالفهم فيها إلى مخالفة السلف، حتى ذكر ياقوت الحموي رحمه الله أنَّ أحدهم هجر شيخه الإمام ابن جرير الطبري، وطعن فيه، بسبب ثناء ابن جرير على الإمام أبي حنيفة بالعلم والورع والفقه[39]! نعم طعن كثيرٌ من كبار المحدثين في أبي حنيفة، وبالغوا في الطعن عليه، كما تجد ذلك في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي؛ وذلك لاعتقادهم أنَّه كان يتعمد مخالفة الأحاديث الصحيحة، ولبعض الأقوال الخاطئة التي نُقِلت عنه، ومعلوم عند العلماء المنصفين أنَّ بعض المسائل الفقهية الاجتهادية يكون الحق فيها مع أبي حنيفة، وقد أثنى عليه بعض العلماء في فقهه وورعه، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة"، وألَّف ابن تيمية رسالته النافعة رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وبيَّن فيها عذرُ الفقهاء في عدم الأخذ ببعض الأحاديث الصحيحة، فإهدار قول المثنين على أبي حنيفة، ونسبة الطعن فيه إلى جميع السلف، ليس من القول السديد، بل هو قول بعيد من الإنصاف.
قال الذهبي رحمه الله: "ما زال العلماء يختلفون، ويتكلم العالم في العالم باجتهاده، وكلٌّ منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع، فهو مأزور، وإلى الله تُرجع الأمور"[40].
فلا بد من أخذ العلم بإنصاف وتدقيق وتحقيق، ولا بد من التفريق بين ما أجمع عليه السلف الصالح وما اختلفوا فيه، ولا بد من معرفة فقه الخلاف، وأدب الاختلاف، قال الذهبي رحمه الله: "ولو أنَّ كل من أخطأ في اجتهاده - مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق - أهدرناه وبدَّعناه، لقَلَّ مَنْ يَسْلَم مِنَ الأئمة معنا!"[41]، وقال الشاطبي رحمه الله: "الابتداع من المجتهد لا يقع إلا فلتة، وبالعرض لا بالذات، وإنما تُسمى غلطة أو زلة؛ لأنَّ صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويل الكتاب، أي: لم يتبع هواه، ولا جعله عمدة، والدليل عليه أنَّه إذا ظهر له الحق أذعن له، وأقر به"[42].
وقد أمر الله نبيه محمدًا عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات، فقال سبحانه: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [محمد: 19]، وهذا يعم الذنوب الاعتقادية والعملية والقولية.
قال ابن عطية رحمه الله: "واجبٌ على كل مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات"[43].
﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.
[1] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] رواه أبو داود والترمذي وصححه من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
[3] رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (41/ 376).
[4] رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي (1292).
[5] تفسير القرطبي (8/ 238).
[6] رواه أحمد بن حنبل في مسنده (15529) وقوى إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9/101).
[7] فيض القدير (2/ 64).
[8] رواه أبو داود (4843) من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا، والصواب وقفه.
[9] النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 382).
[10] رواه النسائي وغيره من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما مرفوعا، وليس هو من حديث عبد الله بن عباس، كما أفاده الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه النكت الظراف (5427).
[11] نفائس الأصول (5/ 1952).
[12] المدخل (1/ 75).
[13] حلية طالب العلم (ص: 174).
[14] سير أعلام النبلاء (9/ 143).
[15] يُنظر تقرير ذلك مفصلا مطولا في كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم من (5/ 546) إلى (6/ 40).
[16] يُنظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2/ 127 - 130) و (6/ 83، 84) والمحلى بالآثار لابن حزم (1/ 367) و (4/ 304).
[17] منهاج السنة النبوية (4/ 543).
[18] يُنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 467 - 470، 538 - 544).
[19] يُنظر: تاريخ الإسلام للذهبي (2/ 1071 - 1078).
[20] نقله عنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 204).
[21] يُنظر: العلل ومعرفة الرجال عن أحمد بن حنبل رواية ابن عبد الله (2/ 492).
[22] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 157، 158).
[23] يُنظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (12/ 453 - 463)، طبقات الشافعيين لابن كثير (ص: 226)، المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد لبكر أبو زيد (1/ 362 - 366).
[24] مجموع الفتاوى (7/ 619) باختصار.
[25] بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 9، 10).
[26] مجموع الفتاوى (12/ 180).
[27] يُنظر مثلا: إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق لابن الوزير اليماني (ص: 385 - 406).
[28] فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة (ص: 66).
[29] الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 135).
[30] مجموع الفتاوى (3/ 353).
[31] طريق الهجرتين (ص: 412 - 414).
[32] منهاج السنة النبوية (5/ 239 - 241).
[33] الطرق الحكمية (ص 138، 139).
[34] درء تعارض العقل والنقل (2/102).
[35] مفتاح دار السعادة (1/ 176).
[36] مجموع فتاوى ابن باز (28/ 254).
[37] لقاء الباب المفتوح (43/ 15).
[38] غارة الأشرطة (ص: 295، 296، 306).
[39] معجم الأدباء (5/ 268).
[40] سير أعلام النبلاء (19/ 327).
[41] سير أعلام النبلاء (14/ 376).
[42] الاعتصام (ص: 114).
[43] المحرر الوجيز (5/ 116).