عرض مشاركة واحدة
  #238  
قديم 05-08-2022, 01:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,388
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1411 الى صـ 1418
الحلقة (238)



[ ص: 1411 ] القول في تأويل قوله تعالى:

وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [83]

وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أي: مما يوجب أحدهما أذاعوا به أي: أفشوه، فتعود إذاعتهم مفسدة من وجوه:

الأول: أن مثل هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير.

والثاني: أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن المنافقين كانوا يروون تلك الإرجافات عن الرسول، وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سببا للفتنة من هذا الوجه.

الثالث: أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام، وذلك سبب لظهور الأسرار، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة.

والرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار، فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك، فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار، فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم، وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئا للفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه، أفاده الرازي .

ولو ردوه أي: ذلك الأمر الذي جاءهم إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم هم كبراء الصحابة البصراء في الأمور - رضي الله عنهم - أو الذين يؤمرون منهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه أي: الأمر [ ص: 1412 ] الذين يستنبطونه أي: يستعلمونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون منهم أي: من الرسول وأولي الأمر، يعني لو أنهم قالوا: نسكت حتى نسمعه من جهة الرسول ومن ذكر معه ونعرف الحال فيه من جهتهم - لعلموا صحته وأنه هل هو مما يذاع أو لا؟ وإنما وضع الموصول موضع الضمير يعني لم يقل: (لعلموه) لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، أو لذمهم أو للتنبيه على خطئهم في الفحص عن استخراج وإظهار خفي ذلك الأمر.

قال الناصر في "الانتصاف": في هذه الآية تأديب لكل من يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذبا، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيرا أو غيره. انتهى.

وقد روى مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع .

وعند أبي داود والحاكم عنه: كفى بالمرء إثما ورواه الحاكم أيضا عن أبي أمامة .

هذا، ونقل الرازي وجها آخر في الموصول، وهو أن المعني به طائفة من أولي الأمر، قال: والتقدير: ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر، وذلك لأن أولي الأمر فريقان: بعضهم من يكون مستنبطا، وبعضهم من لا يكون كذلك.

فقوله (منهم) يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر.

فإن قيل: إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون، فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله: وإلى أولي الأمر منهم ؟ قلنا: إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر؛ لأن المنافقين [ ص: 1413 ] يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون.

ونظيره قوله تعالى: وإن منكم لمن ليبطئن [النساء: من الآية 72] وقوله: ما فعلوه إلا قليل منهم انتهى.

وعلى هذا الوجه يحمل قول السيوطي في "الإكليل": قوله تعالى: ولو ردوه الآية، هذا أصل عظيم في الاستنباط والاجتهاد.

وقول المهايمي : فلو وجدوا في القرآن ما يوهم الاختلاف لوجب عليهم استفسار الرسول والعلماء الذين هم أولو الأمر، ليعلمهم منهم المجتهدون في استنباط وجوه التوفيق.

وقال بعض الإمامية: ثمرة الآية أنه يجب كتم ما يضر إظهاره المسلمين، وأن إذاعته قبيحة، وأنه لا يخبر بما لم يعرف صحته، وتدل على تحريم الإرجاف على المسلمين، وعلى أنه يلزم الرجوع إلى العلماء في الفتيا، وتدل على صحة القياس والاجتهاد؛ لأنه استنباط. انتهى.
تنبيه:

ما نقله الزمخشري وتبعه البيضاوي وأبو السعود وغيرهم، من أن قوله تعالى: وإذا جاءهم عنى به طائفة من ضعفة المسلمين - فإن أرادوا بالضعفة المنافقين فصحيح، وإلا فبعيد غاية البعد كما يعلم من سباق الآية وسياقها، وكذا ما نوعوه من الأقوال في معناه، فكله لم يصب المرمى، والذي يعطيه الذوق السليم في الآية هو الوجه الأول، ولها إشعار بالوجه الثاني لا تأباه، فتبصر ولا تكن أسير التقليد.

ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لاتبعتم الشيطان بالكفر والضلال إلا قليلا أي: إلا قليلا منكم ممن تفضل الله عليه بعقل صائب فاهتدى به إلى الحق والصواب، وعصمه عن متابعة الشيطان، كمن اهتدى إلى الحق في زمن الفترة، كقس بن ساعدة وأضرابه، وهم عشرة، وقد أوضحت شأنهم في كتابي "إيضاح الفطرة في أهل الفترة " في: (الفصل [ ص: 1414 ] الرابع عشر) فانظره.

ونقل الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني ، أن المراد بفضل الله ورحمته هنا هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم: (فأفوز فوزا عظيما) أي: لولا تتابع النصرة والظفر لاتبعتم الشيطان، وتوليتم إلا القليل منكم من المؤمنين من أهل البصيرة الذي يعلمون أنه ليس مدار الحقية على النصر في كل حين، واستحسن هذا الوجه الرازي ، وقال: هو الأقرب إلى التحقيق، قال الخفاجي : لارتباطه بما بعده.

هذا وزعم بعضهم أن قوله تعالى: " إلا قليلا " مستثنى من قوله (أذاعوه) أو (لعلمه) واستدل به على أن الاستثناء لا يتعين صرفه لما قبله، قال: لأنه لو كان مستثنى من جملة (اتبعتم) فسد المعنى؛ لأنه يصير عدم اتباع القليل للشيطان ليس بفضل الله، وهو لا يستقيم، وبيان لزومه أن (لولا) حرف امتناع لوجود، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان بأنفسهم، ألا تراك إذا قلت (لمن تذكره بحقك عليه): لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله، لا في كله، ومن المحال أن يعتقد مسلم أنه عصم في شيء من اتباع الشيطان إلا بفضله تعالى عليه، هذا ملخص ما قرره صاحب الانتصاف، وهول فيه، ولا يخفى أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به لتبادره فيه أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه، واللازم ممنوع؛ لأن المراد بالفضل والرحمة معنى مخصوص، وهو ما بيناه، فإن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر، وقوله تعالى:
[ ص: 1415 ] القول في تأويل قوله تعالى:

فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا [84]

فقاتل في سبيل الله تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الالتفات، وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم، أي: إذا كان الأمر كما حكي من عدم طاعة المنافقين وكيدهم فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا، قاله أبو السعود .

لا تكلف إلا نفسك أي: إلا فعل نفسك، بالتقدم إلى الجهاد، فإن الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف، أي: ومن نكل فلا عليك منه ولا تؤاخذ به.

قال الرازي : دلت الآية على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال ؛ لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو - صلى الله عليه وسلم - موصوف بهذه الصفات، ولقد اقتدى به أبو بكر - رضي الله عنه - حيث حاول الخروج وحده إلى قتال [ ص: 1416 ] مانعي الزكاة، ومن علم أن الأمر كله بيد الله، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل ذلك عليه.

وروى ابن أبي حاتم ، عن أبي إسحاق قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل، فيكون ممن قال الله فيه: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ؟ قال: قد قال الله تعالى لنبيه: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك

ورواه الإمام أحمد أيضا عنه قال: قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، إن الله بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك إنما ذلك في النفقة.

وحرض المؤمنين أي: على الخروج معك وعلى القتال، ورغبهم فيه وشجعهم عليه، كما قال لهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وقد وردت [ ص: 1417 ] أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك، منها:

ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض .

عسى الله أن يكف أي: يمنع بأس أي: قتال الذين كفروا وهم كفار مكة أي: بتحريضك إياهم على القتال، تبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله، ومقاومتهم ومصابرتهم.

قال أبو السعود : وقوله تعالى: عسى إلخ عدة منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكروههم، فإن ما صدر بـ(لعل وعسى) مقرر الوقوع من جهته عز وجل، وقد كان كذلك، حيث روي في السيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعد أبا سفيان [ ص: 1418 ] بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج، وخرج في شعبان سنة أربع في سبعين راكبا، ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب، فرجعوا من مر الظهران. انتهى بزيادة.

وقال في ذلك عبد الله بن رواحة (وقيل: كعب بن مالك ):


وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا
لأبت ذميما وافتقدت المواليا تركنا بها أوصال عتبة وابنه
وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم
وأمركم السيئ الذي كان غاويا فإني وإن عنفتموني لقائل
فدى لرسول الله أهلي وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره
شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا


والله أشد بأسا أي: شدة وقوة من قريش وأشد تنكيلا أي: تعذيبا وعقوبة.

قال ابن كثير : أي: هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [محمد: من الآية 4]انتهى.

قال الخفاجي : والقصد التهديد أو التشجيع، ثم أشار تعالى إلى أن التحريض على القتال شفاعة في تكفير الكبائر ورفع الدرجات فقال:

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.92 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.72%)]