عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 05-08-2022, 01:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,388
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ النِّسَاءِ
المجلد الخامس
صـ 1299 الى صـ 1306
الحلقة (224)

فالرياء كله شرك ، قال تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [الكهف: 110].

[ ص: 1299 ] أي كما أنه إله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء، المقيد بالسنة، وكان من دعاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، وهذا الشرك في العبادة يبطل العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك الأمر، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته خالصة قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء [البينة: من الآية 5].

فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به، فلا يصح ولا يقبل منه، ويقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه .

وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، وأكبر وأصغر، والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفورا.

فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب المخلوق كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا [البقرة: من الآية 165] الآية.

وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعتهم الجحيم: تالله إن كنا لفي ضلال مبين [الشعراء: 97]: إذ نسويكم برب العالمين [الشعراء: 97 - 98] ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والزرق والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى من خلق من التراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى [ ص: 1300 ] العبيد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوى الفقير بالذات، الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم - بالغني بالذات، القادر بالذات، الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟! فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأي حكم أشد جورا منه؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه، كما قال تعالى: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [الأنعام: 1] فعدل المشرك من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه!!!
فصل

ويتبع هذا الشرك الشرك به سبحانه في الأقوال والأفعال والإرادات والنيات ، فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره، وتقبيل الأحجار - غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض - أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله، وفي الصحيحين عنه أنه قال: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

وفي الصحيح عنه: [ ص: 1301 ] إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد .

وفي الصحيح أيضا عنه: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك .

وفي مسند الإمام أحمد - رضي الله عنه - وصحيح ابن حبان عنه - صلى الله عليه وسلم -: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج .

وقال: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

وقال: إن من كان قبلكم إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة .

فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر، فكيف حال من سجد للقبر بنفسه؟! وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم! لا تجعل قبري وثنا يعبد وقد حمى النبي جانب التوحيد [ ص: 1302 ] أعظم حماية حتى نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها ؛ لئلا يكون ذريعة إلى التشبيه بعباد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين، وسد الذريعة بأن منع الصلاة بعد العصر والصبح؛ لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس.

وأما السجود لغير الله فقال: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله .

و (لا ينبغي) في كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - - للذي هو في غاية الامتناع شرعا، كقوله تعالى: وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [مريم: 92] وقوله: وما علمناه الشعر وما ينبغي له [يس: من الآية 69] وقوله: وما تنـزلت به الشياطين [الشعراء: 210]: وما ينبغي لهم [الشعراء: من الآية 211] وقوله عن الملائكة: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء [الفرقان: من الآية 18].
[ ص: 1303 ] فصل

ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ، كالحلف بغيره، كما رواه أحمد وأبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من حلف بشيء دون الله فقد أشرك وصححه الحاكم وابن حبان .

ومن ذلك قول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت ، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده وهذا، مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة، كقوله: لمن شاء منكم أن يستقيم [التكوير: 28] - فكيف من يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك؟ وما لي إلا الله وأنت؟ وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك؟ والله لي في السماء وأنت لي في الأرض؟ أو يقول: والله! وحياة فلان، أو يقول: نذرا لله ولفلان، وأنا تائب لله ولفلان، وأرجو الله وفلانا ونحو ذلك، فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش؟ يتبين لك أن قائلها أولى لجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعله ندا لله بها فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الأشياء - بل لعله أن يكون من أعدائه - ندا لرب العالمين.

فالسجود والعبادة، والتوكل والإنابة، والتقوى والخشية، والتحسب والتوبة، والنذر والحلف، والتسبيح والتكبير، والتهليل والتحميد، والاستغفار [ ص: 1304 ] وحلق الرأس خضوعا وتعبدا، والطواف بالبيت، والدعاء - كل ذلك محض حق الله، لا يصلح ولا ينبغي لسواه، من ملك مقرب ولا نبي مرسل.

وفي مسند الإمام أحمد أن رجلا أتي به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذنب ذنبا، فلما وقف بين يديه قال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد . فقال: قد عرف الحق لأهله .
فصل

وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته.

والإخلاص: أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإراداته ونيته، وهذه هي الحنيفية، ملة إبراهيم، التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران: 85] وهي ملة إبراهيم عليه السلام، التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء.
فصل

وإذا عرفت هذه المقدمة انفتح لك باب الجواب عن السؤال المذكور، فنقول (ومن الله وحده نستمد الصواب): حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به، وهذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ووصف بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعكس من نكس الله قلبه وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر وجعل التوحيد تشبيها والتشبيه تعظيما وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء [ ص: 1305 ] والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا أفضل من غيره؛ تشبيها بمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد، فمن أقبح التشبيه تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.

ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة.

ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب مع غاية الذل: هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم، واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى، فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوافق فطرتهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نورا على نور، يهدي الله لنوره من يشاء.

إذا عرف هذا، فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به، ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا، فمن حلف بغيره فقد شبهه به، هذا في جانب التشبيه.

وأما [ ص: 1306 ] في جانب التشبه به فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم، والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء، والتجاء واستعانة - فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه غاية الهوان، ويذله غاية الذل ويجعله تحت أقدام خلقه.

وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته وإذا كان المصور - الذي يصنع الصورة بيده - من أشد الناس عذابا يوم القيامة؛ لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟! كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.82%)]