عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 03-08-2022, 11:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,047
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (3)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 59الى صــ 66
الحلقة (135)




فالمعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية ، وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسدي والقرظي محمد بن كعب وابن أبي ليلى وغيرهم ، قالوا : ( العفو ما فضل عن العيال ) ، ونحوه عن ابن عباس وقال مجاهد : صدقة عن ظهر غنى ، وكذا قال عليه السلام : خير الصدقة ما أنفقت عن غنى وفي حديث آخر : خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى . وقال قيس بن سعد : هذه الزكاة المفروضة . وقال جمهور العلماء : بل هي نفقات التطوع . وقيل : هي منسوخة . وقال الكلبي : [ ص: 59 ] كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره ، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوما وتصدق بالباقي ، حتى نزلت آية الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها . وقال قوم : هي محكمة ، وفي المال حق سوى الزكاة . والظاهر يدل على القول الأول .

الثالثة : قوله تعالى : كذلك يبين الله لكم الآيات قال المفضل بن سلمة : أي في أمر النفقة . لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها ، وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها .
قوله تعالى : في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم

قوله تعالى : " ويسألونك عن اليتامى " إلى قوله " حكيم " فيه ثمان مسائل :

الأولى : روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : ( لما أنزل الله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن و إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية ، انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له ، حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير الآية ، فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه ) ، لفظ أبي داود . والآية متصلة بما قبل ؛ لأنه اقترن بذكر الأموال الأمر بحفظ أموال اليتامى . وقيل : إن السائل عبد الله بن رواحة . وقيل : كانت العرب تتشاءم بملابسة أموال اليتامى في مؤاكلتهم ، فنزلت هذه الآية .

[ ص: 60 ] الثانية : لما أذن الله جل وعز في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر إليهم وفيهم كان ذلك دليلا على جواز التصرف في مال اليتيم ؛ تصرف الوصي في البيع والقسمة وغير ذلك ، على الإطلاق لهذه الآية . فإذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره جاز عليه فعله وإن لم يقدمه وال عليه ؛ لأن الآية مطلقة والكفالة ولاية عامة . لم يؤثر عن أحد من الخلفاء أنه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمتهم ، وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم .

الثالثة : تواترت الآثار في دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة فيه ، وفي جواز خلط ماله بماله دلالة على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء إذا وافق الصلاح ، وجواز دفعه مضاربة ، إلى غير ذلك على ما نذكره مبينا . واختلف في عمله هو قراضا ، فمنعه أشهب ، وقاسه على منعه من أن يبيع لهم من نفسه أو يشتري لها . وقال غيره : إذا أخذه على جزء من الربح بنسبة قراض مثله فيه أمضي ، كشرائه شيئا لليتيم بتعقب فيكون أحسن لليتيم . قال محمد بن عبد الحكم : وله أن يبيع له بالدين إن رأى ذلك نظرا . قال ابن كنانة : وله أن ينفق في عرس اليتيم ما يصلح من صنيع وطيب ، ومصلحته بقدر حاله وحال من يزوج إليه ، وبقدر كثرة ماله . قال : وكذلك في ختانه ، فإن خشي أن يتهم رفع ذلك إلى السلطان فيأمره بالقصد ، وكل ما فعله على وجه النظر فهو جائز ، وما فعله على وجه المحاباة وسوء النظر فلا يجوز . ودل الظاهر على أن ولي اليتيم يعلمه أمر الدنيا والآخرة ، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلمه الصناعات . وإذا وهب لليتيم شيء فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " النساء " إن شاء الله تعالى .

الرابعة : ولما ينفقه الوصي والكفيل من مال اليتيم حالتان : حالة يمكنه الإشهاد عليه ، فلا يقبل قوله إلا ببينة . وحالة لا يمكنه الإشهاد عليه فقوله مقبول بغير بينة ، فمهما اشترى من العقار وما جرت العادة بالتوثق فيه لم يقبل قوله بغير بينة . قال ابن خويزمنداد : ولذلك فرق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصي ينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته وكسوته ؛ لأنه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله ويلبسه في كل وقت ، ولكن إذا قال : أنفقت نفقة لسنة قبل منه ، وبين أن يكون عند أمه أو حاضنته فيدعي الوصي أنه كان ينفق عليه ، أو كان يعطي الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة .

الخامسة : واختلف العلماء في الرجل ينكح نفسه من يتيمته ، وهل له أن يشتري لنفسه [ ص: 61 ] من مال يتيمه أو يتيمته ؟ فقال مالك : ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة ، حتى قال في الأعراب الذين يسلمون أولادهم في أيام المجاعة : إنهم ينكحونهم إنكاحهم ، فأما إنكاح الكافل والحاضن لنفسه فيأتي في " النساء " بيانه ، إن شاء الله تعالى . وأما الشراء منه فقال مالك : يشتري في مشهور الأقوال ، وكذلك قال أبو حنيفة : له أن يشتري مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن المثل ؛ لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن . وقال الشافعي : لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع ؛ لأنه لم يذكر في الآية التصرف ، بل قال : إصلاح لهم خير من غير أن يذكر فيه الذي يجوز له النظر . وأبو حنيفة يقول : إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوج منه . والشافعي لا يرى في التزويج إصلاحا إلا من جهة دفع الحاجة ، ولا حاجة قبل البلوغ . وأحمد بن حنبل يجوز للوصي التزويج لأنه إصلاح . والشافعي يجوز للجد التزويج مع الوصي ، وللأب في حق ولده الذي ماتت أمه لا بحكم هذه الآية . وأبو حنيفة يجوز للقاضي تزويج اليتيم بظاهر القرآن . وهذه المذاهب نشأت من هذه الآية ، فإن ثبت كون التزويج إصلاحا فظاهر الآية يقتضي جوازه . ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى : ويسألونك عن اليتامى أي يسألك القوام على اليتامى الكافلون لهم ، وذلك مجمل لا يعلم منه عين الكافل والقيم وما يشترط فيه من الأوصاف .

فإن قيل : يلزم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع إذ جوز له الشراء من يتيمه ، فالجواب أن ذلك لا يلزم ، وإنما يكون ذلك ذريعة فيما يؤدى من الأفعال المحظورة إلى محظورة منصوص عليها ، وأما هاهنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة ، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله : والله يعلم المفسد من المصلح وكل أمر مخوف وكل الله سبحانه المكلف إلى أمانته لا يقال فيه : إنه يتذرع إلى محظور به فيمنع منه ، كما جعل الله النساء مؤتمنات على فروجهن ، مع عظيم ما يترتب على قولهن في ذلك من الأحكام ، ويرتبط به من الحل والحرمة والأنساب ، وإن جاز أن يكذبن . وكان طاوس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ : والله يعلم المفسد من المصلح . وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع نصحاؤه فينظرون الذي هو خير له ، ذكره البخاري . وفي هذا دلالة على جواز الشراء منه لنفسه ، كما ذكرنا . والقول الآخر أنه لا ينبغي للولي أن يشتري مما تحت يده شيئا ، لما يلحقه في ذلك من التهمة إلا أن يكون البيع في ذلك بيع سلطان في ملإ من الناس . وقال [ ص: 62 ] محمد بن عبد الحكم : لا يشتري من التركة ، ولا بأس أن يدس من يشتري له منها إذا لم يعلم أنه من قبله .

السادسة : قوله تعالى : وإن تخالطوهم فإخوانكم هذه المخالطة كخلط المثل بالمثل كالتمر بالتمر . وقال أبو عبيد : مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه ، ولا يجد بدا من خلطه بعياله فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله ، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان ، فجاءت هذه الآية الناسخة بالرخصة فيه . قال أبو عبيد : وهذا عندي أصل لما يفعله الرفقاء في الأسفار فإنهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية ، وقد يتفاوتون في قلة المطعم وكثرته ، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه ، فلما كان هذا في أموال اليتامى واسعا كان في غيرهم أوسع ، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس .

السابعة : قوله تعالى : فإخوانكم خبر لمبتدإ محذوف ، أي فهم إخوانكم ، والفاء جواب الشرط . وقوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح تحذير ، أي يعلم المفسد لأموال اليتامى من المصلح لها ، فيجازي كلا على إصلاحه وإفساده .

الثامنة : قوله تعالى : ولو شاء الله لأعنتكم روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس : ولو شاء الله لأعنتكم قال : ( لو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا ) . وقيل : لأعنتكم لأهلككم ، عن الزجاج وأبي عبيدة . وقال القتبي : لضيق عليكم وشدد ، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم . وقيل : أي لكلفكم ما يشتد عليكم أداؤه وأثمكم في مخالطتهم ، كما فعل بمن كان قبلكم ، ولكنه خفف عنكم . والعنت : المشقة ، وقد عنت وأعنته غيره . ويقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه : قد أعنته ، فهو عنت ومعنت . وعنتت الدابة تعنت عنتا : إذا حدث في قوائمها كسر بعد جبر لا يمكنها معه جري . وأكمة عنوت : شاقة المصعد . وقال ابن الأنباري : أصل العنت التشديد ، فإذا قالت العرب : فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادها يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه أداؤه ، ثم نقلت إلى معنى الهلاك . والأصل ما وصفنا .

قوله تعالى : إن الله عزيز أي لا يمتنع عليه شيء . حكيم يتصرف في ملكه بما يريد لا حجر عليه ، جل وتعالى علوا كبيرا .

ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون [ ص: 63 ]
قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم فيه سبع مسائل : الأولى : قوله تعالى : ولا تنكحوا قراءة الجمهور بفتح التاء . وقرئت في الشاذ بالضم ، كأن المعنى أن المتزوج لها أنكحها من نفسه . ونكح أصله الجماع ، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

الثانية : لما أذن الله سبحانه وتعالى في مخالطة الأيتام ، وفي مخالطة النكاح بين أن مناكحة المشركين لا تصح . وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي ، وقيل : في مرثد بن أبي مرثد ، واسمه كناز بن حصين الغنوي ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه ، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية يقال لها " عناق " فجاءته ، فقال لها : إن الإسلام حرم ما كان في الجاهلية ، قالت : فتزوجني ، قال : حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها ؛ لأنه كان مسلما وهي مشركة . وسيأتي في " النور " بيانه إن شاء الله تعالى .

الثالثة : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقالت طائفة : حرم الله نكاح المشركات في سورة " البقرة " ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب ، فأحلهن في سورة " المائدة " . وروي هذا القول عن ابن عباس ، وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري ، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي . وقال قتادة وسعيد بن جبير : لفظ الآية العموم في كل كافرة ، والمراد بها الخصوص في الكتابيات ، وبينت الخصوص آية " المائدة " ولم يتناول العموم قط الكتابيات . وهذا أحد قولي الشافعي ، وعلى القول الأول يتناولهن العموم ، ثم نسخت آية " المائدة " بعض العموم . وهذا مذهب مالك رحمه الله ، ذكره ابن حبيب ، وقال : ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقل مذموم . وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي : ذهب قوم فجعلوا الآية التي في " البقرة " هي الناسخة ، والتي في " المائدة " هي [ ص: 64 ] المنسوخة ، فحرموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية . قال النحاس : ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدثناه محمد بن ريان ، قال : حدثنا محمد بن رمح ، قال : حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال : حرم الله المشركات على المؤمنين ، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى ، أو عبد من عباد الله! . قال النحاس : وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة ؛ لأنه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة ، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة . ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك ، وفقهاء الأمصار عليه . وأيضا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة " البقرة " ناسخة للآية التي في سورة " المائدة " لأن " البقرة " من أول ما نزل بالمدينة ، و " المائدة " من آخر ما نزل . وإنما الآخر ينسخ الأول ، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه ؛ لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا ، فلما سمع الآيتين ، في واحدة التحليل ، وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف ، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه ، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل . وذكر ابن عطية : وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه : ( إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات ، وكل من على غير الإسلام حرام ) ، فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في " المائدة " وينظر إلى هذا قول ابن عمر في الموطأ : ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى . وروي عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب ، فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة . قال ابن عطية : وهذا لا يستند جيدا ، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن . وروي عن ابن عباس نحو هذا . وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب ، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس . وقال في آخر كلامه : ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك . وقال بعض العلماء : وأما الآيتان فلا تعارض بينهما ، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب ، لقوله تعالى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ، وقال : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، ففرق بينهم في اللفظ ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف [ ص: 65 ] والمعطوف عليه ، وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص ، وقوله تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب بعد قوله والمحصنات من المؤمنات نص ، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل . فإن قيل : أراد بقوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي أوتوا الكتاب من قبلكم وأسلموا ، كقوله وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية . وقوله : من أهل الكتاب أمة قائمة الآية . قيل له : هذا خلاف نص الآية في قوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وخلاف ما قاله الجمهور ، فإنه لا يشكل على أحد جواز التزويج ممن أسلم وصار من أعيان المسلمين . فإن قالوا : فقد قال الله تعالى : أولئك يدعون إلى النار فجعل العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار . والجواب أن ذلك علة لقوله تعالى : ولأمة مؤمنة خير من مشركة لأن المشرك يدعو إلى النار ، وهذه العلة مطردة في جميع الكفار ، فالمسلم خير من الكافر مطلقا ، وهذا بين .

الرابعة : وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحل ، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال : لا يحل ، وتلا قول الله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله صاغرون . قال المحدث : حدثت بذلك إبراهيم النخعي فأعجبه . وكره مالك تزوج الحربيات ، لعلة ترك الولد في دار الحرب ، ولتصرفها في الخمر والخنزير .

الخامسة : قوله تعالى : ولأمة مؤمنة خير من مشركة إخبار بأن المؤمنة المملوكة خير من المشركة ، وإن كانت ذات الحسب والمال . ولو أعجبتكم في الحسن وغير ذلك ، هذا قول الطبري وغيره . ونزلت في خنساء وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان ، فقال لها حذيفة : يا خنساء ، قد ذكرت في الملإ الأعلى مع سوادك ودمامتك ، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه ، فأعتقها حذيفة وتزوجها . وقال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ثم ندم ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ( ما هي يا عبد الله ) قال : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد الشهادتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه مؤمنة . فقال ابن [ ص: 66 ] رواحة : لأعتقنها ولأتزوجنها ، ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح أمة ، وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين ، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم ، فنزلت هذه الآية . والله أعلم .

السادسة : واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب ، فقال مالك : لا يجوز نكاح الأمة الكتابية . وقال أشهب في كتاب محمد ، فيمن أسلم وتحته أمة كتابية : إنه لا يفرق بينهما . وقال أبو حنيفة وأصحابه ، يجوز نكاح إماء أهل الكتاب . قال ابن العربي : درسنا الشيخ أبو بكر الشاشي بمدينة السلام قال : احتج أصحاب أبي حنيفة على جواز نكاح الأمة الكتابية بقوله تعالى : ولأمة مؤمنة خير من مشركة . ووجه الدليل من الآية أن الله سبحانه خاير بين نكاح الأمة المؤمنة والمشركة ، فلولا أن نكاح الأمة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما ؛ لأن المخايرة إنما هي بين الجائزين لا بين جائز وممتنع ، ولا بين متضادين . والجواب أن المخايرة بين الضدين تجوز لغة وقرآنا : لأن الله سبحانه قال : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا . وقال عمر في رسالته لأبي موسى : " الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل " . جواب آخر : قوله تعالى : ولأمة لم يرد به الرق المملوك وإنما أراد به الآدمية ، والآدميات والآدميون بأجمعهم عبيد الله وإماؤه ، قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجاني .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.36 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.53%)]