عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31-07-2022, 03:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,749
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القيم الإنسانية في الخطاب الأدبي الإسلامي .. من المعنى إلى شعرية المعنى

من المنتظر أن ينهض احتجاج قد يكون حادا من مناصري الفلسفة المثالية والقائلين بمبدأ: الفن للفن، وهم يجدون أنفسهم أمام الربط المباشر بين الأدب والمصدر العقدي؛ انطلاقاً من رفضهم ارتهان الفن عموماً والأدب بالذات لأية سلطة خارجية غير الوفاء لأدبيته وجمالية بنائه، وهو ما عبّر عنه الناقد الإنجليزي تيري أجلتون قائلاً: إن (الأدب خطاب غير ذرائعي فهو لا يخدم أي غرض عملي مباشر)[30]، ومن وحي هذا الاحتجاج تمت مهاجمة الأدب الملتزم، وظهرت كتابات كثيرة تدفع باتجاه معارضته، وحرمانه من الانتساب إلى مفهوم الأدب أصلاً. فهل يخضع تصور (الأدب الإسلامي) لهذه النظرة الرافضة أو على الأقل المشككة؟.

من خلال التعريفات السابقة، وتعريفات غيرها كان هناك ميل عند المنظرين لفكرة الأدب الإسلامي إلى التشديد على ما أسماه الأستاذ سيد قطب: (الامتلاء بالمشاعر الإسلامية)، مما يعني أن التضامن مع فكرة الأدب الإسلامي ليس صادراً عن مقاربة عقلية فقط؛ ومن ثم الاقتناع بها، وإنما هي أيضاً مقاربة مؤسسة على الإحساس بالإسلام والشعور بقيمه، والتضامن مع معانيه الروحية، وهو لقاء صافٍ بين مكوِّن ذاتي في الإنسان مؤسس على الإحساس بالعاطفة والإدراك بالوجدان، وبين قيم مثالية وروحية كالخير والجمال والحق في العدل والمساواة والحرية، وهي قيم تُقارب من خلال حبها والتعلق بها والتشوُّف إليها، كما أنها تُقارب أيضاً من جهة القناعة بصوابها وصحتها وانسجامها مع منطق الأشياء. إن التزام الأدب الماركسي صادر عن مقاربة عقلية موضوعية لما جاء من مقولات في النظرية الماركسية، وقد كان التضامن مع هذه المقولات صادراً عن حسابات فكرية أكثر من أي شيء آخر، وعندما تم الاحتجاج على الأدب المادي المنادي بأطروحات الفكر الماركسي فإن ذلك كان كذلك؛ لأن هذا الأدب انصرف إلى شعارات إيديولوجية تبشر بتصورات وأنماط سلوكية محددة، في حين أن الخطاب الأدبي الإسلامي قد حرُص على الوفاء بأصل الظاهرة الأدبية القائم على المكوِّن الذاتي الروحاني؛ فكان اللقاء بين القيم الإنسانية التي تكوِّن نسقاً جوهرياً في بنية التصور الإسلامي وبين جمالية الأدب الذي حافظ على أدبيته على قول الأستاذ مأمون جرّار، فقد انصرف مجمل الخطاب الأدبي الإسلامي إلى التحسيس بالقيم والمبادئ الإنسانية السامية التي تنسجم مع الفطرة الإنسانية الصافية، و انطلق كل أديب من تجربة خاصة، ليجعل منها أفقاً إنسانياً عاماً[31] يلتقي فيه هذا الأديب مع الإنسان في كل مكان، سواء أكان مشاركاً له في العقيدة أم لا.

إن مبدأ التعاطي مع التصور الإسلامي من خلال المشاعر والأحاسيس يُعد إدراكاً مميزاً لطبيعة الأدب من جهة، ولطبيعة ما يُمكن أن يقع من نقاش جدلي حول ما أسماه الدكتور شاكر عبد الحميد في كتابه (التفضيل الجمال) بفكرة (الاستمتاع والانتفاع في الفن)؛ فالشعور بالتصور الإسلامي هو تضامن مع القيم الإنسانية التي احتواها هذا التصور، والتي تشكل مطلباً إنسانياً كونياً؛ جاء الإسلام لتوطينها في المجتمعات الإنسانية، وعندما تدرج هذه القيم الإنسانية في الخطاب الأدبي فإنها تحتفظ بجاذبيتها وإثارتها؛ لأنها - كما أسلفنا - مضامين إنسانية تلتقي حولها المشاعر الإنسانية دائماً[32].

لقد كان لي في عنوان محاولة هذه إشارة إلى ما أسميته (شعرية المعنى)، وهي إشارة مُربكة للوهلة الأولى؛ وذلك لأن مصطلح (الشعرية) يرتبط أساساً، في النقد الأدبي، بالمستوى البنائي للنص الأدبي (الشكل)، ويقترن بنظام هذا النص الفني، وعندما نقرِن هذا المصطلح بالمعنى فقد يتبادر للدهن أننا نصل بين مكونين متعارضين أصلاً: مكوِّن ينصرف إلى الشكل، وآخر يتعلق بالمضمون؛ وعندها لا يتأتى الانسجام المعرفي في هكذا كلام. ولكننا نقصد بشعرية المعنى شيئين: الشيء الأول: هو البناء المضموني للنص، وهو ما يكفل أدبيته من جهة ما يطرحه من معانٍ ومضامين؛ فنأخذ من مفهوم الشعرية البنائية فكرة النسق، وكأننا نقول إن جملة المعاني تشكِّل نسقاً داخلياً في النص الأدبي، وهو نسق يقوم على شرط مثالية هذه المعاني ورقيِّها وإطلاقها، فكما أن الشكل شرط في أدبية الأدب فإن المضمون أيضاً شرط فيها، وبما أن الشعرية نسق بنائي فإن هذا النسق قد يشكل محتوى النص كما قد يشكل بناءه الشكلي.

إن اختيار نماذج من الخطاب الأدبي الإسلامي لا يُعد أمراً يسيراً، بالنظر إلى المعيار الذي عليه نعتمد لإدراج هذا النص أو ذاك في الخطاب الأدبي الإسلامي؛ إذ نجد عديد النصوص الإبداعية شعراً أو قصة أو مسرحية مما يحمل خصائص تجعله أقرب لطبيعة الأدب الإسلامي على الرغم من أن كاتبيها لا يُصنّفون كتاباً للأدب الإسلامي بالنظر لمجمل أعمالهم الأدبية؛ ولذلك نميل إلى تبني حدٍ لاختيار النصوص الأدبية كنماذج للخطاب الإسلامي، يقوم على معيار: الكتّاب والمسلك الإبداعي، لا اعتماداً على النصوص الأدبية. فالكاتب الذي ينتج تراكماً أدبياً مهماً ينطق بتبني الرؤية الإسلامية فيما يُنجز من أعمال أدبية؛ فهذا يعني أنه كاتب يُسجل حضوره في الأدب الإسلامي. لقد كانت لنا محاولة في اختيار ثلاثة نصوص أدبية من أجناس أدبية مختلفة ولكتّاب عُرف عنهم بالاحتكام إلى التصور الإسلامي في كتاباتهم الأدبية، ومنهم من كان مشاركاً في التنظير للأدب الإسلامي، وترسيخ مفاهيمه كالدكتور وليد قصّاب. والنصوص التي اخترناها ممثلة للخطاب الأدبي الإسلامي هي: نص شعري للشاعر محمود مفلح بعنوان: (أمي)، ومسرحية للأديب وليد قصّاب بعنوان: (حديث اللحظات الأخيرة)، ونص قصصي قصير للأديب نعيم الغول بعنوان: (وميض أزرق بارد)، والحقيقة أقول إنني لم أتعمَّل كثيراً في التقاط هذه النصوص، ولم أعتمد معايير حادة في اختيارها؛ وإنما كان اختياري لها مؤسساً على الاستحسان السريع، والشعور بوفائها لمقتضيات السياق الذي أشتغل عليه الآن وإن كنت حريصاً منذ البداية على أن تكون النصوص الأدبية منتمية لأجناس أدبية مختلفة؛ لكي لا ينصرف القول إلى أن مقولات القيم الإنسانية تصلح مضامين لجنس أدبي دون آخر، وهو ما ليس بحقيقي؛ لأن هذه القيم تمثل مضامين وأفكارٍ تقبل الاندراج في أي جنس أدبي سواء أكان هذا الجنس الأدبي شعراً أم سرداً؛ فالشعرية التي نستهدف إظهارها في دراستنا هذه هي شعرية المعنى وليست شعرية الشكل، وشعرية البناء المضموني الذي يتجسد من خلال شعرية البناء والنظام الشكلي.

شعرية المعنى في قصيدة (أمي):
لقد افتتح الشاعر القصيدة هنا بمعانٍ جزئية اجتمعت في نسق الاستفهام الإنكاري الذي يُظهر الدهشة والارتباك اللذين داهما الشاعر؛ فانبرى يتجه إلى نفسه مخاطباً بنبرة لائمة ومُستهجِنة، وهو الذي اعتاد أن يوطِّن قيمة الجمال في سلوكه الوجودي من خلال إبداعه للشعر، ومن خلال امتلاكه لنفس حساسة مرهفة تميز شخصيات الشعراء عادة:
مالي سمعتُ كأن لم أسمعِ الخبرا
هل صار قلبيَ في أضلاعه حَجرا؟

مالي جمدت فلم تهتزَّ قافيتي
ولا شعرتُ ولا أبصرتُ من شعرا؟

كأنَّ كلَّ سواقي الشعر قد أسِنت
من جففَّ الشعرَ من الشعرِ قد غدرا؟

أنا الذي عزفت أوتارُه نغماً
هزَّ الورى والذُرا والطيرَ والشجرا

مالي سكتُ فلم أنطقْ بقافية
ولا رأيت بعيني الدمعَ منحدراً؟


لقد سكتت قوافي الشاعر، وتعطّلت عيناه عن أن تدمعا، وتحجّر العضو الصغير العظيم (القلب)؛ لأن الحدث استثنائي وهي أن تموت الأم وأن ترحل؛ لترحل معها كل معاني الرحمة والعطف والحنان، والتنفيس عمّا يعانيه الإنسان من قسوة العالم الخارجي، فالشاعر الذي اعتاد أن يكون من الداعين إلى قيمة الجمال، والذي عُرف بإحساسه بقيمة الحق والتضامن معها، ها هو يفقد أمه وهي قيمة عظمى احتوت قيماً تفصيلية عديدة، وبموتها تنحسر هذه القيم، ويُكابد الإنسان مرارة فقدانها. ماتت الأم التي ذهب بموتها ما يطلبه الشاعر في الزمن الحاضر والذي لن يتحقق لأن المُطالبة (الأم) ما عادت هنا:
هزّي سريري إني لم أزلْ ولداً
ودّثرينيَ إن الريحَ قد زأرا..

وجفّفي عَرَقي فالصيفْ ألهبني
وسلسلي الماءَ كي أقضي به وطرا

ما زال صوتك يا أماه يتبعني
يا ربُّ ردَّ حبيباً أدمنَ السفرا


وفكرة الأمومة مكوّن مهم من مكوّنات قيمة الخير الذي يطال الابن، وبغيابها تنأى هذه القيمة تحت ضغط ممارسات الشر في المجتمع البشري.
يا ربِّ صُنْهُ من الأشرارِ كلهمُ
ورُدَّ عنه الأذى والكيْد والخطرا

واجبرْ إلهي كسْراً، حلَّ في ولدي
فأنتَ تجبرُ يا مولاي ما انكسرا


ويجد الشاعر في حديثه عن الأمومة المرتبطة بقيمة الخير مناسبة لاستحضار أناسٍ أحاط بهم الشر، وكأنه إيحاء بأن هذه الروح الخيِّرة الماثلة في (الأمومة) هي روح شاملة يمكن لها أن تدرأ الشر الذي يفتك بالزوج الباحث عن قيمة الحق:
وارحم إلهيَ زوْجاً غاص عائلها
في ظلمة السجن لم تُبصرْ له أثرا




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.51 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]