
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (327)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 375 إلى صـ 381
المسألة السادسة
اعلم أن العلماء اختلفوا في طواف القارن والمتمتع إلى ثلاثة مذاهب :
الأول : أن على القارن طوافا واحدا وسعيا واحدا ، وأن ذلك يكفيه لحجه وعمرته ، وأن على المتمتع طوافين وسعيين ، وهذا مذهب جمهور العلماء ; منهم مالك والشافعي ، وأحمد في أصح الروايات .
الثاني : أن على كل واحد منهما سعيين وطوافين ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه .
الثالث : أنهما معا يكفيهما طواف واحد وسعي واحد ، وهو مروي عن الإمام أحمد . أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون بأن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف زيارة واحد ، وهو طواف الإفاضة ، وسعي واحد ، فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها .
منها : ما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله : حدثني محمد بن حاتم ، حدثنا بهز ، حدثنا وهب ، حدثنا عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها أهلت بعمرة ، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت ، فنسكت المناسك كلها ، وقد أهلت بالحج ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " يسعك طوافك لحجك وعمرتك " الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولا ، ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة ، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح بأنها قارنة حيث قال : " لحجك وعمرتك " ، ومع ذلك صرح بأنها يكفيها لهما طواف واحد .
وقال مسلم رحمه الله أيضا في صحيحه : وحدثني حسن بن علي الحلواني ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني إبراهيم بن نافع ، حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها حاضت بسرف ، فتطهرت بعرفة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك " . اهـ منه .
فهذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد .
ومنها : حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه ، قال البخاري رحمه الله في [ ص: 376 ] صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب عن نافع : أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل ابنه عبيد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال : إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال . فقال : فيصدوك عن البيت ، فلو أقمت ؟ فقال : قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، ثم قال : أشهدكم أني أوجبت مع عمرتي حجا ، قال : ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا .
حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له : إن الناس كائن بينهم قتال ، وإنا نخاف أن يصدوك ؟ فقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال : ما شأن الحج والعمرة إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي ، وأهدى هديا اشتراه بقديد ، ولم يزد على ذلك ، فلم ينحر ، ولم يحل من شيء حرم منه ، ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى منه ، وفي هذا الحديث الصحيح التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل . وبعض العلماء حمل الطواف المذكور ، على طواف الإفاضة ، وبعضهم حمله على الطواف بين الصفا والمروة . أما حمله على طواف القدوم فباطل بلا شك ; لأن النبي لم يكتف بطواف القدوم ، بل طاف طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج بإجماع المسلمين .
وقال الكرماني في شرح الحديث المذكور ، فإن قلت : ما المقصود من الطواف الأول إذ لا يجوز أن يراد به طواف القدوم ؟
قلت : يعني أنه لم يكرر الطواف للقران ، بل اكتفى بطواف واحد ، وقد أخرج حديث ابن عمر هذا مسلم في صحيحه من طرق متعددة ، وفي لفظ منها : أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة ، فانطلق حتى ابتاع بقديد هديا ، ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر . اهـ .
وقال النووي : معناه : حتى حل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة . وفي بعض روايات مسلم لحديث ابن عمر هذا : أشهدكم أني أوجبت حجا مع عمرتي ، وأهدى هديا اشتراه بقديد ، ثم انطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم [ ص: 377 ] يزد على ذلك ، ولم ينحر ، ولم يحلق ، ولم يقصر ، ولم يحلل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ، ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول . وقال ابن عمر : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى منه ، وهو صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن مراد ابن عمر في قوله : ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، في مسلم والبخاري ، هو الطواف بين الصفا والمروة ، ويدل على ذلك أمران :
الأول منهما : هو ما قدمنا في بعض روايات مسلم في صحيحه مما لفظه : ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة ، ومعلوم أن الحل بحجة لا يمكن بدون طواف الإفاضة . أما السعي في الحجة ، فيكفي فيه السعي الأول بعد طواف القدوم ، فيتعين أن الطواف الأول الذي رأى إجزاءه عن حجه وعمرته هو الطواف بين الصفا والمروة ، بدليل الرواية الصحيحة بأنه لم يحل منهما إلا بحجة يوم النحر ، وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة ، فبدونه لا تسمى حجة ; لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] .
الأمر الثاني الدال على ذلك هو : أن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الروايات الصحيحة أنه اكتفى بسعيه بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم لحجه وعمرته ، وأنه بعد إفاضته من عرفات طاف طواف الإفاضة يوم النحر على التحقيق ، فحديث ابن عمر هذا نص صحيح متفق عليه ، على أن القارن يعمل كعمل المفرد ، وعلى هذا يحمل الطواف الواحد في حديث عائشة الآتي ، فيفسر بأنه الطواف بين الصفا والمروة ؛ لأن القارن لا يسعى لحجه وعمرته إلا مرة واحدة .
وقال ابن حجر في الفتح في كلامه على الروايتين اللتين أخرج بهما البخاري حديث ابن عمر المذكور - أعني اللتين سقناهما آنفا - ما نصه : والحديثان ظاهران في أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد ، وقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر أصرح من سياق حديثي الباب في الرفع ، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد " وأعله الطحاوي بأن [ ص: 378 ] الدراوردي أخطأ فيه ، وأن الصواب أنه موقوف ، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب ، والليث ، وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما في الباب ، من أن ذلك وقع لابن عمر ، وأنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو إعلال مردود ، فالدراوردي صدوق ، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره ، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين . انتهى كلام ابن حجر في الفتح .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا الحديث الذي نحن بصدده ليس بموقوف على كلا التقديرين ; لأن ابن عمر لما طاف لهما طوافا واحدا ، أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، وهذا عين الرفع ، فلا وقف البتة كما ترى ، وحديث ابن عمر هذا الذي ذكر ابن حجر في الفتح ، أن سعيد بن منصور أخرجه - أصرح من حديثي الباب عند البخاري ، قال فيه المجد في المنتقى : رواه أحمد وابن ماجه ، وفي لفظ : من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وفيه دليل على وجوب السعي ، ووقوف التحلل عليه .
ومنها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل منهما جميعا " الحديث ، وفيه : وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا . انتهى . وهو نص صريح متفق عليه دال على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته .
وقال بعض أهل العلم : إن المراد بالطواف في حديث عائشة هذا هو الطواف بين الصفا والمروة ، وله وجه من النظر ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .
ومنها : حديث جابر الذي قدمناه عند مسلم ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دخلت العمرة في الحج . مرتين " وتصريحه صلى الله عليه وسلم بدخولها فيه يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران ، وإن أوله جماعات من أهل العلم بتأويلات أخر متعددة .
والأحاديث الدالة على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد كفعل المفرد كثيرة ، وفيما ذكرنا هنا من الأحاديث الصحيحة كفاية لمن يريد الحق ، وهذا الذي ذكرناه بعض أدلة القائلين بالفرق بين القران والتمتع ، وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لعمرته وحجه . وقد رأيت ما ذكر من أدلتهم على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد .
[ ص: 379 ] أما أدلة هذه الطائفة على أن المتمتع لا بد له من طوافين وسعيين ، طواف وسعي لعمرته ، وطواف وسعي لحجه . فمنها : ما رواه البخاري في صحيحه قال : وقال أبو كامل فضيل بن حسين البصري : حدثنا أبو معشر ، حدثنا عثمان بن غياث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سئل عن متعة الحج ؟ فقال : أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ، وقال : " من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله " ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك ، جئنا فطفنا بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وقد تم حجنا وعلينا الهدي . الحديث .
فهذا الحديث الثابت في صحيح البخاري فيه الدلالة الواضحة على أن الذين تمتعوا وأحلوا من عمرتهم طافوا وسعوا لعمرتهم ، وطافوا وسعوا مرة أخرى لحجهم ، وهو نص في محل النزاع .
واعلم أن دعوى من ادعى من العلماء أن رواية البخاري في هذا الإسناد ، عن أبي كامل فضيل بن حسين البصري بلفظ : " وقال أبو كامل " لها حكم التعليق - غير مسلمة ، بل الذي عليه الجمهور من المتأخرين أن الراوي إذا قال : قال فلان ، فحكم ذلك كحكم ( عن فلان ) ونحو ذلك ، فالرواية بذلك متصلة ، لا معلقة إن كان الراوي غير مدلس ، وكان معاصرا لمن روى عنه بـ " قال " ونحوها ؛ ولذا غلطوا ابن حزم في حديث المعازف حيث قال : إن قول البخاري في أول الإسناد : وقال هشام بن عمار ، تعليق وليس الحديث بمتصل ، فغلطوه وحكموا للحديث بالاتصال ; لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري ، والبخاري غير مدلس ، فقوله عن شيخه : قال فلان ، كقوله : عن فلان ، وكل ذلك موصول لا معلق .
واعلم أن قول ابن حجر في تهذيب التهذيب : إن البخاري روى عن فضيل المذكور تعليقا ، مخالف لمذهب الجمهور من المتأخرين ; لأن قوله : وقال أبو كامل في حكم ما لو قال : عن أبي كامل ، وكل ذلك يحكم بوصله عند المحققين ، فقول ابن حجر في الفتح أقرب إلى الصواب من قوله في التهذيب . وقد قال في فتح الباري في كلامه على الحديث المذكور : ويحتمل أن يكون البخاري أخذه عن أبي كامل نفسه ، فإنه أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه ، ولم نجد له ذكرا في كتابه غير هذا الموضع . انتهى منه .
[ ص: 380 ] ومعلوم أن أبا كامل مات سنة سبع وثلاثين ومائتين . وله أكثر من ثمانين سنة والبخاري مات سنة ست وخمسين ومائتين ، وله اثنان وستون سنة ، وبذلك تعلم معاصرتهما زمنا طويلا ، وقد قال العراقي في ألفيته :
وإن يكن أول الإسناد حذف مع صيغة الجزم فتعليقا ألف ولو إلى آخره أما الذي
لشيخه عزا بـ " قال " فكذي عنعنة كخبر المعازف
لا تصغ لابن حزم المخالف
وإذا علمت أنه في هذه الأبيات صرح بأن قوله : قال فلان ، كقوله : عن فلان ، تبين لك أن كل ذلك من قبيل المتصل ، لا من قبيل المعلق ، وقد قال العراقي في ألفيته أيضا :
وصححوا وصل معنعن سلم من دلسه راويه واللقا علم
وبعضهم حكى بذا إجماعا ومسلم لم يشرط اجتماعا
لكن تعاصرا وقيل يشترط طول صحابة وبعضهم شرط
معرفة الراوي بالأخذ عنه وقيل كل ما أتانا منه
منقطع حتى يبين الوصل وحكم أن حكم عن فالجل
سووا وللقطع نحا البرديجي حتى يبين الوصل في التخريج
قال ومثله رأى ابن شيبة كذا له ولم يصوب صوبه
قلت الصواب أن من أدرك ما رواه بالشرط الذي تقدما
يحكم له بالوصل كيفما روى بقال أو عن أو بأن فوا
وما حكى عن أحمد بن حنبل وقول يعقوب على ذا نزل
وكثر استعمال عن في ذا الزمن إجازة وهو بوصل ما قمن
انتهى منه .
فترى العراقي رحمه الله جزم في الأبيات المذكورة باستواء : قال فلان ، و : عن فلان ، وأن فلانا قال كذا ، وأن الجميع من قبيل الوصل ، لا من قبيل المعلق بالشروط المذكورة . وحكى مقابله بصيغة التمريض في قوله :
وقيل كل ما أتانا عنه منقطع . . . إلخ
وبه تعلم أن قول البخاري : وقال أبو كامل فضيل بن حسين . . . إلخ من قبيل المتصل لا من قبيل المعلق .
[ ص: 381 ] وقال صاحب تدريب الراوي : أما ما عزاه البخاري لبعض شيوخه بصيغة : قال فلان ، و : زاد فلان ، ونحو ذلك ، فليس حكمه حكم التعليق عن شيوخ شيوخه ومن فوقهم ، بل حكمه حكم العنعنة من الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس ، كذا جزم به ابن الصلاح ، قال : وبلغني عن بعض المتأخرين من المغاربة أنه جعله قسما من التعليق ثانيا ، وأضاف إليه قول البخاري : وقال فلان ، وزاد فلان ، فوسم كل ذلك بالتعليق ، قال العراقي : وما جزم به ابن الصلاح هاهنا هو الصواب ، وقد خالف ذلك في نوع الصحيح فجعل من أمثلة التعليق : قال عفان كذا ، وقال القعنبي كذا ، وهما من شيوخ البخاري . والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد ، والمزي ، أن لذلك حكم العنعنة ، قال ابن الصلاح هنا : وقد قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري ، وهو أعرف بالبخاري : كل ما قال البخاري : قال لي فلان أو قال لنا فلان ، فهو عرض ومناولة . انتهى محل الغرض منه . والنيسابوري المذكور هو المراد بالحيري في قول العراقي في ألفيته .
ناولة
واعلم أن البخاري رحمه الله تعالى قد يقول : قال فلان مع سماعه منه لغرض غير التعليق .
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث المعازف المذكور ناقلا عن ابن الصلاح ، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر ، أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " من جهة أن البخاري أورده قائلا : قال هشام بن عمار ، وساقه بإسناده ، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام ، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف ، وأخطأ في ذلك في وجوه . والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح ، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا ، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع . انتهى منه .
وكون البخاري رحمه الله يعبر بـ " قال فلان " لأسباب كثيرة غير التعليق يدل دلالة واضحة على أن الجزم في مثل ذلك بالتعليق بلا مستند ، دعوى لم يعضدها دليل .
وقال ابن حجر في الفتح أيضا في شرح الحديث المذكور : وحكى ابن الصلاح في [ ص: 382 ] موضع آخر : أن الذي يقول البخاري فيه : قال فلان ، ويسمي شيخا من شيوخه ، يكون من قبيل الإسناد المعنعن . وحكي عن بعض الحفاظ أنه يفعل ذلك فيما تحمله عن شيخه مذاكرة . وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة . اهـ . وهو صريح في أن قوله : قال فلان لا يستلزم التعليق .
فإن قيل : توجد في صحيح البخاري أحاديث يرويها عن بعض شيوخه بصيغة : قال فلان ، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه لا مانع عقلا ولا عادة ، ولا شرعا من أن يكون روى ذلك الحديث عن الشيخ مباشرة ورواه عنه أيضا بواسطة مع كون روايته عنه مباشرة تشتمل على سبب من الأسباب المؤدية للتعبير بلفظة : قال ، المشار إليها آنفا ، والرواية عن الواسطة سالمة من ذلك .
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الصيغة المذكورة تقتضي التعليق ولا تقتضي الاتصال ، فتعليق البخاري بصيغة الجزم حكمه عند علماء الحديث حكم الصحيح ، كما هو معروف .
وقد قال ابن حجر في الفتح في الكلام على حديث المعازف ما نصه : وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم ، يكون صحيحا إلى من علق عنه ، ولو لم يكن من شيوخه . انتهى محل الغرض منه .
فتبين بما ذكرنا أن حديث ابن عباس المذكور الدال على أن المتمتع يسعى ويطوف لحجه بعد الوقوف بعرفة ، ولا يكتفي بطواف العمرة السابق وسعيها - نص صحيح على كل تقدير في محل النزاع .
