
09-07-2022, 01:31 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,906
الدولة :
|
|
رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج --- متجدد

شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (2)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 411الى صــ 424
(69)
وَفِي خُرُوجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفَتْحِ مِنْ دُبُرِهَا، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجْهَ قَصْدِهِ.
فَصْلٌ
قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: فَإِذَا دَخَلَتَ الْحَرَمَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ هَذَا حَرَمُكَ وَأَمْنُكَ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُحَرِّمَ لَحْمِي وَدَمِي عَلَى النَّارِ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ عَذَابِكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ.
فَإِذَا دَخَلْتَ مَكَّةَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَالْبَلَدُ بَلَدُكَ جِئْتُ فَارًّا مِنْكَ إِلَيْكَ لِأُؤَدِّيَ فَرَائِضَكَ مُتَّبِعًا لِأَمْرِكَ، رَاضِيًا بِقَضَائِكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ إِلَى رَحْمَتِكَ الْمُشْفِقِ مِنْ عَذَابِكَ، الْخَائِفِ مِنْ عُقُوبَتِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَسْتَقْبِلَنِي الْيَوْمَ بِعَفْوِكَ، وَاحْفَظْنِي بِرَحْمَتِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنِّي بِمَغْفِرَتِكَ، وَأَعَنِّي عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِكَ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ.
وَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ مَكَّةَ لَيْلًا نَصَّ عَلَيْهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ دُخُولُهَا لَيْلًا، وَيَجُوزُ نَهَارًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَهَارًا، وَكَذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَعَامَ الْفَتْحِ، وَدَخَلَهَا فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ لَيْلًا .. . .
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا قَالَ: " كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ تَدْخُلُ الْحَرَمَ مُشَاةً حُفَاةً، وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَيَقْضُونَ الْمَنَاسِكَ حُفَاةً مُشَاةً " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

[مَسْأَلَةٌ يستحب دخول المسجد من باب بني شيبة]
مَسْأَلَةٌ: (وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: " «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلْنَا مَعَهُ مِنْ بَابِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّاسُ بَابَ بَنِي شَيْبَةَ، وَخَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بَابِ الْحَزْوَرَةِ، وَهُوَ بَابُ الْحَنَّاطِينَ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ.
وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ فِي دُخُولِ مَكَّةَ مِنْ أَعْلَاهَا؛ لِأَنَّ بَابَ بَنِي شَيْبَةَ أَقْرَبُ بَابٍ، إِذَا دَخَلَهُ الدَّاخِلُ اسْتَقْبَلَ وَجْهَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ أَبْعَدُ بَابٍ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ عَنِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَيَكُونُ مَمَرُّهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى مِنْ مَمَرِّهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ إِمَّا إِلَى نَاحِيَةِ الصَّفَا، أَوْ نَاحِيَةِ دَارِ النَّدْوَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ: مَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ.
[مَسْأَلَةٌ ما يستحب عند رؤية البيت]
مَسْأَلَةٌ: (فَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ اللَّهَ وَحَمَدَهُ وَدَعَا).
قَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: إِذَا رَأَيْتَ الْبَيْتَ فَارْفَعْ يَدَيْكَ بِبَاطِنِ كَفَّيْكَ وَقُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالْإِسْلَامِ، اللَّهُمَّ زِدْ بَيْتَكَ هَذَا تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَإِيمَانًا وَمَهَابَةً .. . .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: " سَمِعْتُ مِنْ عُمَرَ كَلِمَةً لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهَا غَيْرِي - حِينَ رَأَى الْبَيْتَ - قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ " وَفِي لَفْظٍ: " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ ". رَوَاهُ سَعِيدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمْ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: («كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْ بَيْتَكَ هَذَا تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً»). رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ.
وَأَمَّا الْمَكَانُ الَّذِي يُرَى مِنْهُ الْبَيْتُ: فَقَدْ كَانَ قَدِيمًا يُرَى مِنْ مَوْضِعٍ يُقَالُ: لَهُ رَأْسُ الرَّدْمِ - بَعْدَ أَنْ يُدْخَلَ مَكَّةَ بِقَلِيلٍ، وَيُقَالَ: كَانَ يُرَى قَبْلَ دُخُولِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْحُجُونِ. فَهَذَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ بِنَاءٌ أَعْلَى مِنَ الْكَعْبَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةُ مُنْخَفِضَةً.
فَأَمَّا الْيَوْمُ: فَإِنَّ الْبَيْتَ لَا يُرَى إِلَى أَنْ يَدْخُلَ الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ، وَكَذَلِكَ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ.
[مَسْأَلَةٌ الطواف تحية المسجد الحرام]

مَسْأَلَةٌ: (ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ إِنَّ كَانَ مُعْتَمِرًا، وَبِطَوَافِ الْقُدُومِ إِنَّ كَانَ مُفْرِدًا، أَوْ قَارِنًا).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِشَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ هَذَا هُوَ .. . الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَى الطَّوَافِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ، فَيُقَدِّمُ الْفَائِتَةَ عَلَى التَّحِيَّةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَعَلْنَا التَّحِيَّةَ قَبْلَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ إِلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ الْمُضِيِّ، فَيَبْدَأُ بِالْأَسْبَقِ فَالْأَسْبَقِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ تَحِيَّتُهُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَهِيَ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ.
وَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَمْ يَبْدَءُوا بِشَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ؛ فَرَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ: " لَهُ سَلْ لِي عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ رَجُلٍ يُهِلُّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ أَيَحِلُّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالَ لَكَ: لَا يَحِلُّ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا يَقُولُ ذَلِكَ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: لَا يَحِلُّ مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ إِلَّا بِالْحَجِّ، فَقُلْتُ: فَإِنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا قَالَ: فَتَصَدَّانِي الرَّجُلُ فَسَأَلَنِي فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا كَانَ يُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا شَأْنُ أَسْمَاءَ وَالزُّبَيْرِ فَعَلَا ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَمَا بَالُهُ لَا يَأْتِينِي بِنَفْسِهِ يَسْأَلُنِي، أَظُنُّهُ عِرَاقِيًّا، قُلْتُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ كَذَبَ، قَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ، وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ أَفَلَا يَسْأَلُونَهُ، وَلَا أَحَدَ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوَّلَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ، وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدِمَانِ لَا يَبْدَآنِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ يَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لَا يَحِلَّانِ، وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَقْبَلَتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ قَطُّ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا. قَدْ كَذَبَ فِيمَا ذَكَرَ» ". أَخْرَجَاهُ.
فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ ذَكَرَهَا حِينَ الدُّخُولِ، أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ: بَدَأَ بِهَا قَبْلَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهَا وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ حِينَ يَذْكُرُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَدْرَكَ مَكْتُوبَةً فِي جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَخْشَى فَوْتَ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَخْشَى فَوَاتَ الطَّوَافِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جَمَاعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ.
وَلَمْ يَسْتَثْنِ ابْنُ عَقِيلٍ إِلَّا الْفَرْضَ، وَاسْتَثْنَى الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: الْفَرِيضَةَ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ وَالْوَتْرَ إِذَا خَافَ فَوْتَ ذَلِكَ قَدَّمَهُ عَلَى الطَّوَافِ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَتْرَ مُؤَكَّدٌ، لَكِنَّ اسْتِثْنَاءَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ عَلَى أَصْلِنَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَلَّى الْفَجْرَ فَإِذَا خَافَ فَوْتَ سُنَّتِهَا فَهُوَ لِخَوْفِ الْمَكْتُوبَةِ أَشَدُّ، فَيَبْدَأُ بِالسُّنَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ، فَإِنْ يُؤَخِّرْ قَضَاءَ السُّنَّةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ صَلَاتِهَا قَبْلَ طُلُوعِهَا، فَلَا مَعْنَى لِخَوْفِ فَوَاتِهَا.
وَأَمَّا إِذَا خَافَ فَوْتَ سُنَّةِ الظُّهْرِ، أَوِ الْمَغْرِبِ بَعْدَهَا: فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يُقَدِّمُ الطَّوَافَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَتَى خَشِيَ فَوْتَ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ قَدَّمَهَا عَلَى الطَّوَافِ.
فَصْلٌ

وَالسُّنَّةُ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ .. . .
[مَسْأَلَةٌ معنى الاضطباع وحكمه]
مَسْأَلَةٌ: (وَيَضْطَبِعُ بِرِدَائِهِ، فَيَجْعَلُ وَسَطَهُ تَحْتَ عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَطَرَفَيْهِ عَلَى الْأَيْسَرِ).
الِاضْطِبَاعُ: افْتِعَالٌ مِنَ الضَّبْعِ وَهُوَ الْعَضُدُ، وَيُسَمَّى الْيَابِطَةُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ وَسَطَ الرِّدَاءِ تَحْتَ الْإِبِطِ وَيُبْدِئُ ضَبْعَهُ الْأَيْمَنَ.
وَقِيلَ: يُبْدِئُ ضَبْعَاهُ وَأَصْلُهُ اضْتِبَاعٌ، وَإِنَّمَا قُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً لِمُجَاوِرَةِ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ، كَمَا يُقَالُ: اضْطِبَاعٌ، وَاصْطِيَادٌ، وَاضْطِرَارٌ، وَاضْطِهَادٌ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: («أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اضْطَبَعَ، فَكَبَّرَ فَاسْتَلَمَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ كَانُوا إِذَا بَلَغُوا الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَتَغَيَّبُوا مِنْ قُرَيْشٍ مَشَوْا، ثُمَّ يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِمْ يَرْمُلُونَ، تَقُولُ قُرَيْشٌ: كَأَنَّهُمُ الْغِزْلَانُ»).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ سُنَّةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: («أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اعْتَمَرَ مِنْ جِعِرَّانَةَ، فَاضْطَبَعُوا وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ وَوَضَعُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، ثُمَّ رَمَلُوا»). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ، وَلِأَبِي دَاوُدَ: («أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ:اعْتَمَرُوا مِنْ جِعِرَّانَةَ، فَرْمَلُوا بِالْبَيْتِ وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، ثُمَّ فَذَفَوْهَا عَلَى عَوَاتِهِمُ الْيُسْرَى»).
وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: («أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمَّا قَدِمَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ مُضْطَبِعٌ بِبُرْدٍ لَهُ حَضْرَمِيٍّ»). رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ: («طَافَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضْطَبِعًا بِبُرَدٍ أَخْضَرَ») وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ: («طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا وَعَلَيْهِ بُرْدٌ») لَمْ يَقُلِ ابْنُ مَاجَهْ: بِالْبَيْتِ.
فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَّلُ مَا اضْطَبَعَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لِيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى الرَّمَلِ؛ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ قُوَّتَهُمْ، ثُمَّ اضْطَبَعَ فِي عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ اضْطَبَعَ فِي .. . .
وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: " فِيمَ الرَّمَلَانُ الْآنَ وَالْكَشْفُ عَنْ الْمَنَاكِبِ وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ شَيْئًا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تُشْرَعُ أَوَّلًا لِسَبَبٍ، ثُمَّ يَزُولُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَةً وَقُرْبَةً؛ كَمَا قَدْ رُوِيَ فِي الرَّمَلِ، وَالِاضْطِبَاعِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ.
وَأَوَّلُ مَا يَضْطَبِعُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَلِمَ فِيمَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ -: يَضْطَبِعُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ؛ لِأَنَّ الِاضْطِبَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ .. . .
وَيَضْطَبِعُ فِي جَمِيعِ الْأَشْوَاطِ السَّبْعَةِ، فَإِذَا قَضَى طَوَافَهُ سَوَّى ثِيَابَهُ، وَلَمْ يَضْطَبِعْ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الِاضْطِبَاعَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، هَكَذَا قَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ: إِنَّمَا يَضْطَبِعُ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يَرْمُلُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الِاضْطِبَاعَ إِنَّمَا هُوَ مَعُونَةٌ عَلَى الرَّمَلِ، وَإِنَّمَا فُعِلَ تَبَعًا لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَرْمُلْ: لَمْ يَضْطَبِعْ.
فَأَمَّا الِاضْطِبَاعُ فِي السَّعْيِ: فَقَالَ أَحْمَدُ: مَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا، قَالَ أَصْحَابُنَا .. . .

[مَسْأَلَةٌ السنة أن يبدأ الطواف من الحجر الأسود]
مَسْأَلَةٌ: (وَيَبْدَأُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمُهُ، وَيُقَبِّلُهُ، وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ السُّنَّةَ لِلطَّائِفِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمَهُ بِيَدِهِ، وَالِاسْتِلَامُ: هُوَ مَسْحُهُ بِيَدِهِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ؛. . .
وَالتَّقْبِيلُ بِالْفَمِ ... ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ - فِي صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: («حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا»)؛ وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ: («أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا»). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: («فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ - عِنْدَ الْمَقَامِ - رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ») مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
«وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ الْحَجَرَ)، وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ».
وَعَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ: («أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ»). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|