
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (3)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 11الى صــ 18
الحلقة (129)
[ ص: 11 ] قلت : أما من رمى من رعاء الإبل أو أهل السقاية بالليل فلا دم يجب ؛ للحديث ، وإن كان من غيرهم فالنظر يوجب الدم لكن مع العمد ، والله أعلم . التاسعة : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر على راحلته . واستحب مالك وغيره أن يكون الذي يرميها راكبا . وقد كان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمونها وهم مشاة ، ويرمي في كل يوم من الثلاثة بإحدى وعشرين حصاة ، يكبر مع كل حصاة ، ويكون وجهه في حال رميه إلى الكعبة ، ويرتب الجمرات ويجمعهن ولا يفرقهن ولا ينكسهن ، يبدأ بالجمرة الأولى فيرميها بسبع حصيات رميا ولا يضعها وضعا ، كذلك قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، فإن طرحها طرحا جاز عند أصحاب الرأي . وقال ابن القاسم : لا تجزئ في الوجهين جميعا ، وهو الصحيح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرميها ، ولا يرمي عندهم بحصاتين أو أكثر في مرة ، فإن فعل عدها حصاة واحدة ، فإذا فرغ منها تقدم أمامها فوقف طويلا للدعاء بما تيسر . ثم يرمي الثانية وهي الوسطى وينصرف عنها ذات الشمال في بطن المسيل ، ويطيل الوقوف عندها للدعاء . ثم يرمي الثالثة بموضع جمرة العقبة بسبع حصيات أيضا ، يرميها من أسفلها ولا يقف عندها ، ولو رماها من فوقها أجزأه ، ويكبر في ذلك كله مع كل حصاة يرميها . وسنة الذكر في رمي الجمار التكبير دون غيره من الذكر ، ويرميها ماشيا بخلاف جمرة يوم النحر ، وهذا كله توقيف رفعه النسائي والدارقطني عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي المسجد - مسجد منى - يرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو ، وكان يطيل الوقوف . ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فيقف مستقبل القبلة رافعا يديه ثم يدعو . ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينصرف ولا يقف عندها . قال الزهري : سمعت سالم بن عبد الله يحدث بهذا عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وكان ابن عمر يفعله ، لفظ الدارقطني .
العاشرة : وحكم الجمار أن تكون طاهرة غير نجسة ، ولا مما رمي به ، فإن رمى بما قد [ ص: 12 ] رمي به لم يجزه عند مالك ، وقد قال عنه ابن القاسم : إن كان ذلك في حصاة واحدة أجزأه ، ونزلت بابن القاسم فأفتاه بهذا .
الحادية عشرة : واستحب أهل العلم أخذها من المزدلفة لا من حصى المسجد ، فإن أخذ زيادة على ما يحتاج وبقي ذلك بيده بعد الرمي دفنه ولم يطرحه ، قاله أحمد بن حنبل وغيره .
الثانية عشرة : ولا تغسل عند الجمهور خلافا لطاوس ، وقد روي أنه لو لم يغسل الجمار النجسة أو رمى بما قد رمي به أنه أساء وأجزأ عنه . قال ابن المنذر : يكره أن يرمي بما قد رمي به ، ويجزئ إن رمى به ، إذ لا أعلم أحدا أوجب على من فعل ذلك الإعادة ، ولا نعلم في شيء من الأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل الحصى ولا أمر بغسله ، وقد روينا عن طاوس أنه كان يغسله .
الثالثة عشرة : ولا يجزئ في الجمار المدر ولا شيء غير الحجر ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق . وقال أصحاب الرأي : يجوز بالطين اليابس ، وكذلك كل شيء رماها من الأرض فهو يجزئ . وقال الثوري : من رمى بالخزف والمدر لم يعد الرمي . قال ابن المنذر : لا يجزئ الرمي إلا بالحصى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عليكم بحصى الخذف . وبالحصى رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرابعة عشرة : واختلف في قدر الحصى ، فقال الشافعي : يكون أصغر من الأنملة طولا وعرضا . وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : بمثل حصى الخذف ، وروينا عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة بمثل بعر الغنم ، ولا معنى لقول مالك : أكبر من ذلك أحب إلي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الرمي بمثل حصى الخذف ، ويجوز أن يرمى بما وقع عليه اسم حصاة ، واتباع السنة أفضل ، قاله ابن المنذر .
[ ص: 13 ] قلت : وهو الصحيح الذي لا يجوز خلافه لمن اهتدى واقتدى . روى النسائي عن ابن عباس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته : هات القط لي - فلقطت له حصيات هن حصى الخذف ، فلما وضعتهن في يده قال - : بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين . فدل قوله : ( وإياكم والغلو في الدين ) على كراهة الرمي بالجمار الكبار ، وأن ذلك من الغلو ، والله أعلم .
الخامسة عشرة : : ومن بقي في يده حصاة لا يدري من أي الجمار هي جعلها من الأولى ، ورمى بعدها الوسطى والآخرة ، فإن طال استأنف جميعا .
السادسة عشرة : قال مالك والشافعي وعبد الملك وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن قدم جمرة على جمرة : لا يجزئه إلا أن يرمي على الولاء . وقال الحسن ، وعطاء وبعض الناس : يجزئه . واحتج بعض الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم : من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج وقال : ( لا يكون هذا بأكثر من رجل اجتمعت عليه صلوات أو صيام فقضى بعضا قبل بعض ) . والأول أحوط ، والله أعلم .
السابعة عشرة : واختلفوا في رمي المريض والرمي عنه ، فقال مالك : يرمى عن المريض والصبي اللذين لا يطيقان الرمي ، ويتحرى المريض حين رميهم فيكبر سبع تكبيرات لكل جمرة وعليه الهدي ، وإذا صح المريض في أيام الرمي رمى عن نفسه ، وعليه مع ذلك دم عند مالك . وقال الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : يرمى عن المريض ، ولم يذكروا هديا . ولا خلاف في الصبي الذي لا يقدر على الرمي أنه يرمى عنه ، وكان ابن عمر يفعل ذلك .
الثامنة عشرة : روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قلنا : يا رسول الله ، هذه الجمار التي يرمى بها كل عام فنحسب أنها تنقص ، فقال : إنه ما تقبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال .
التاسعة عشرة : قال ابن المنذر : وأجمع أهل العلم على أن لمن أراد الخروج من الحاج من منى شاخصا إلى بلده خارجا عن الحرم غير مقيم بمكة في النفر الأول أن ينفر بعد زوال [ ص: 14 ] الشمس إذا رمى في اليوم الذي يلي يوم النحر قبل أن يمسي ؛ لأن الله جل ذكره قال : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه فلينفر من أراد النفر ما دام في شيء من النهار . وقد روينا عن النخعي والحسن أنهما قالا : من أدركه العصر وهو بمنى من اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغد . قال ابن المنذر : وقد يحتمل أن يكونا قالا ذلك استحبابا ، والقول الأول به نقول ؛ لظاهر الكتاب والسنة .
الموفية عشرين : واختلفوا في أهل مكة هل ينفرون النفر الأول ، فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : من شاء من الناس كلهم أن ينفروا في النفر الأول ، إلا آل خزيمة فلا ينفرون إلا في النفر الآخر . وكان أحمد بن حنبل يقول : لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة ، وقال : أهل مكة أخف ، وجعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر بن الخطاب : ( إلا آل خزيمة ) أي أنهم أهل حرم . وكان مالك يقول في أهل مكة : من كان له عذر فله أن يتعجل في يومين ، فإن أراد التخفيف عن نفسه مما هو فيه من أمر الحج فلا ، فرأى التعجيل لمن بعد قطره . وقالت طائفة : الآية على العموم ، والرخصة لجميع الناس ، أهل مكة وغيرهم ، أراد الخارج عن منى المقام بمكة أو الشخوص إلى بلده . وقال عطاء : هي للناس عامة . قال ابن المنذر : وهو يشبه مذهب الشافعي ، وبه نقول . وقال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي : ( من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج ، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج ) ، فمعنى الآية : كل ذلك مباح ، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا ، إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس ، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك . وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي أيضا : ( معنى من تعجل فقد غفر له ، ومن تأخر فقد غفر له ) ، واحتجوا بقوله عليه السلام : من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه . فقوله : فلا إثم عليه نفي عام وتبرئة مطلقة . وقال مجاهد أيضا : معنى الآية ، من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام المقبل . وأسند في هذا القول أثر . وقال أبو العالية في الآية : لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره ، والحاج مغفور له البتة ، أي ذهب إثمه كله إن اتقى الله فيما بقي من عمره . وقال أبو صالح وغيره : معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد ، وما يجب عليه تجنبه في الحج . وقال أيضا : لمن اتقى في حجه فأتى به تاما حتى كان مبرورا .
[ ص: 15 ] الحادية والعشرون : " من " في قوله : فمن تعجل رفع بالابتداء ، والخبر فلا إثم عليه . ويجوز في غير القرآن فلا إثم عليهم ؛ لأن معنى " من " جماعة ، كما قال جل وعز : ومنهم من يستمعون إليك وكذا ومن تأخر فلا إثم عليه . واللام من قوله : لمن اتقى متعلقة بالغفران ، التقدير المغفرة لمن اتقى ، وهذا على تفسير ابن مسعود وعلي . قال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود قال : إنما جعلت المغفرة لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي . وقال الأخفش : التقدير ذلك لمن اتقى . وقال بعضهم : لمن اتقى يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم . وقيل التقدير الإباحة لمن اتقى ، روي هذا عن ابن عمر . وقيل : السلامة لمن اتقى . وقيل : هي متعلقة بالذكر الذي في قوله تعالى : واذكروا أي الذكر لمن اتقى . وقرأ سالم بن عبد الله فلا اثم عليه بوصل الألف تخفيفا ، والعرب قد تستعمله . قال الشاعر :
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا
ثم أمر الله تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف .
قوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام
الأولى : قوله تعالى : ومن الناس من يعجبك قوله لما ذكر الذين قصرت همتهم على الدنيا - في قوله : فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا - والمؤمنين الذين سألوا خير الدارين ذكر المنافقين لأنهم أظهروا الإيمان وأسروا الكفر . قال السدي وغيره من المفسرين : نزلت في الأخنس بن شريق ، واسمه أبي ، والأخنس لقب لقب به ؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على ما يأتي في " آل عمران " بيانه . وكان رجلا حلو القول والمنظر ، فجاء بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام وقال : الله يعلم أنى صادق ، ثم هرب بعد ذلك ، فمر بزرع لقوم من المسلمين وبحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر . قال المهدوي : وفيه نزلت ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم [ ص: 16 ] و ويل لكل همزة لمزة . قال ابن عطية : ما ثبت قط أن الأخنس أسلم . وقال ابن عباس : ( نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع : عاصم بن ثابت ، وخبيب ، وغيرهم ، وقالوا : ويح هؤلاء القوم ، لا هم قعدوا في بيوتهم ، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم ) ، فنزلت هذه الآية في صفات المنافقين ، ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله . وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء : نزلت في كل مبطن كفرا أو نفاقا أو كذبا أو إضرارا ، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك ، فهي عامة ، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى : إن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر ، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين ، يشترون الدنيا بالدين ، يقول الله تعالى : أبي يغترون ، وعلي يجترئون ، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا . ومعنى ويشهد الله أي يقول : الله يعلم أني أقول حقا . وقرأ ابن محيصن ويشهد الله على ما في قلبه بفتح الياء والهاء في " يشهد " ، " الله " بالرفع ، والمعنى يعجبك قوله ، والله يعلم منه خلاف ما قال . دليله قوله : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . وقراءة ابن عباس : " والله يشهد على ما في قلبه " . وقراءة الجماعة أبلغ في الذم ؛ لأنه قوي على نفسه التزام الكلام الحسن ، ثم ظهر من باطنه خلافه . وقرأ أبي وابن مسعود : " ويستشهد الله على ما في قلبه " وهي حجة لقراءة الجماعة .
الثانية : قال علماؤنا : وفي هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأمور الدين والدنيا ، واستبراء أحوال الشهود والقضاة ، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم ؛ لأن الله تعالى بين أحوال الناس ، وأن منهم من يظهر قولا جميلا وهو ينوي قبيحا .
فإن قيل : هذا يعارضه قوله عليه السلام : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الحديث ، وقوله : فأقضي له على نحو ما أسمع ، فالجواب أن هذا كان في صدر الإسلام ، حيث كان إسلامهم سلامتهم ، وأما وقد عم الفساد فلا ، قاله ابن العربي .
قلت : والصحيح أن الظاهر يعمل عليه حتى يتبين خلافه ، لقول عمر بن الخطاب [ ص: 17 ] رضي الله عنه في صحيح البخاري : أيها الناس ، إن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه ، وليس لنا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه ، وإن قال إن سريرته حسنة .
الثالثة : قوله تعالى : وهو ألد الخصام الألد : الشديد الخصومة ، وهو رجل ألد ، وامرأة لداء ، وهم أهل لدد . وقد لددت - بكسر الدال - تلد - بالفتح - لددا ، أي صرت ألد . ولددته - بفتح الدال - ألده - بضمها - إذا جادلته فغلبته . والألد مشتق من اللديدين ، وهما صفحتا العنق ، أي في أي جانب أخذ من الخصومة غلب . قال الشاعر :
وألد ذي حنق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل
وقال آخر :
إن تحت التراب عزما وحزما وخصيما ألد ذا مغلاق
و الخصام في الآية مصدر خاصم ، قاله الخليل . وقيل : جمع خصم ، قاله الزجاج ، ككلب وكلاب ، وصعب وصعاب ، وضخم وضخام . والمعنى أشد المخاصمين خصومة ، أي هو ذو جدال ، إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل . وهذا يدل على أن الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء . وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم .
قوله تعالى : وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد
وقوله تعالى : وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها قيل : " تولى وسعى " من فعل القلب ، فيجيء " تولى " بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه . و " سعى " أي سعى بحيلته وإرادته [ ص: 18 ] الدوائر على الإسلام وأهله ، عن ابن جريج وغيره . وقيل : هما فعل الشخص ، فيجيء تولى بمعنى أدبر وذهب عنك يا محمد . و سعى أي بقدميه فقطع الطريق وأفسدها ، عن ابن عباس وغيره . وكلا السعيين فساد . يقال : سعى الرجل يسعى سعيا ، أي عدا ، وكذلك إذا عمل وكسب . وفلان يسعى على عياله أي يعمل في نفعهم .
قوله تعالى : " ويهلك " عطف على " ليفسد " . وفي قراءة أبي " وليهلك " . وقرأ الحسن وقتادة " ويهلك " بالرفع ، وفي رفعه أقوال : يكون معطوفا على " يعجبك " . وقال أبو حاتم : هو معطوف على " سعى " لأن معناه يسعى ويهلك ، وقال أبو إسحاق : وهو يهلك . وروي عن ابن كثير " ويهلك " بفتح الياء وضم الكاف ، " الحرث والنسل " مرفوعان ب " يهلك " ، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وأبي حيوة وابن محيصن ، ورواه عبد الوارث عن أبي عمرو . وقرأ قوم " ويهلك " بفتح الياء واللام ، ورفع الحرث ؛ لغة هلك يهلك ، مثل ركن يركن ، وأبى يأبى ، وسلى يسلى ، وقلى يقلى ، وشبهه . والمعني في الآية الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر ، قاله الطبري . قال غيره : ولكنها صارت عامة لجميع الناس ، فمن عمل مثل عمله استوجب تلك اللعنة والعقوبة . قال بعض العلماء : إن من يقتل حمارا أو يحرق كدسا استوجب الملامة ، ولحقه الشين إلى يوم القيامة . وقال مجاهد : المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل . وقيل : الحرث النساء ، والنسل الأولاد ، وهذا لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع القتال ، وفيه هلاك الخلق ، قال معناه الزجاج . والسعي في الأرض المشي بسرعة ، وهذه عبارة عن إيقاع الفتنة والتضريب بين الناس ، والله أعلم .
وفي الحديث : إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده . وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى .
