
05-07-2022, 10:36 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,686
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (2)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 363الى صــ 370
الحلقة (123)
قلت : الأظهر في حجته عليه السلام القران ، وأنه كان قارنا ، لحديث عمر وأنس المذكورين ، وفي صحيح مسلم عن بكر عن أنس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة معا . قال بكر : فحدثت بذلك ابن عمر فقال : لبي بالحج وحده ، فلقيت أنسا فحدثته بقول [ ص: 363 ] ابن عمر ، فقال أنس : ما تعدوننا إلا صبيانا ! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لبيك عمرة وحجا ، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال : أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بحج ، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه ، وحل بقيتهم . قال بعض أهل العلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا ، وإذا كان قارنا فقد حج واعتمر ، واتفقت الأحاديث ، وقال النحاس : ومن أحسن ما قيل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة ، فقال من رآه : تمتع ثم أهل بحجة ، فقال من رآه : أفرد ثم قال : لبيك بحجة وعمرة . فقال من سمعه : قرن ، فاتفقت الأحاديث ، والدليل على هذا أنه لم يرو أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفردت الحج ولا تمتعت ، وصح عنه أنه قال : قرنت كما رواه النسائي عن علي أنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : كيف صنعت قلت : أهللت بإهلالك . قال فإني سقت الهدي وقرنت . قال وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لو استقبلت من أمري كما استدبرت لفعلت كما فعلتم ولكني سقت الهدي وقرنت . وثبت عن حفصة قالت قلت : يا رسول الله ، ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم ولم تحلل أنت ؟ قال : إني لبدت رأسي وسقت هديي فلا أحل حتى أنحر ، وهذا يبين أنه كان قارنا ; لأنه لو كان متمتعا أو مفردا لم يمتنع من نحر الهدي .
قلت : ما ذكره النحاس أنه لم يرو أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أفردت الحج فقد تقدم من رواية عائشة أنه قال : وأما أنا فأهل بالحج ، وهذا معناه : فأنا أفرد الحج ، إلا أنه يحتمل أن يكون قد أحرم بالعمرة ، ثم قال : فأنا أهل بالحج ، ومما يبين هذا ما رواه مسلم عن ابن عمر ، وفيه : وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، فلم يبق في قوله : فأنا أهل بالحج دليل على الإفراد ، وبقي قوله عليه السلام : فإني قرنت ، وقول أنس خادمه إنه سمعه يقول : لبيك بحجة وعمرة معا نص صريح في القران لا يحتمل التأويل ، وروى الدارقطني عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لأنه علم أنه ليس بحاج بعدها .
[ ص: 364 ] الرابعة : وإذا مضى القول في الإفراد والتمتع والقران وأن كل ذلك جائز بإجماع فالتمتع بالعمرة إلى الحج عند العلماء على أربعة أوجه ، منها وجه واحد مجتمع عليه ، والثلاثة مختلف فيها . فأما الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله جل وعز : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج - على ما يأتي بيانها - وأن يكون من أهل الآفاق ، وقدم مكة ففرغ منها ثم أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، فإذا فعل ذلك كان متمتعا وعليه ما أوجب الله على المتمتع ، وذلك ما استيسر من الهدي ، يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة ، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام ، وسبعة إذا رجع إلى بلده - على ما يأتي - وليس له صيام يوم النحر بإجماع من المسلمين ، واختلف في صيام أيام التشريق على ما يأتي .
فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة ، ورابطها ثمانية شروط : الأول : أن يجمع بين الحج والعمرة . الثاني : في سفر واحد . الثالث : في عام واحد . الرابع : في أشهر الحج . الخامس : تقديم العمرة . السادس : ألا يمزجها ، بل يكون إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة . السابع : أن تكون العمرة والحج عن شخص واحد . الثامن : أن يكون من غير أهل مكة . وتأمل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها .
والوجه الثاني من وجوه التمتع بالعمرة إلى الحج : القران ، وهو أن يجمع بينهما في إحرام واحد فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها ، يقول : لبيك بحجة وعمرة معا ، فإذا قدم مكة طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا ، عند من رأى ذلك ، وهم مالك والشافعي وأصحابهما وإسحاق وأبو ثور ، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد وطاوس ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة . . . الحديث . وفيه : وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا أخرجه البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة يوم النفر ولم تكن طافت بالبيت وحاضت : يسعك طوافك لحجك وعمرتك في رواية : يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك . أخرجه مسلم - أو طاف طوافين وسعى سعيين ، عند من رأى ذلك ، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى ، وروي عن علي وابن مسعود ، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد ، واحتجوا [ ص: 365 ] بأحاديث عن علي عليه السلام أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل . أخرجهما الدارقطني في سننه وضعفها كلها ، وإنما جعل القران من باب التمتع ; لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة وإلى الحج أخرى ، ويتمتع بجمعهما ، ولم يحرم لكل واحد من ميقاته ، وضم الحج إلى العمرة ، فدخل تحت قول الله عز وجل : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ، وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين العلماء في جوازه . وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلا بسياق الهدي ، وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها . ومما يدل على أن القران تمتع قول ابن عمر : إنما جعل القران لأهل الآفاق ، وتلا قول الله جل وعز : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع . قال مالك : وما سمعت أن مكيا قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك ، وقال عبد الملك بن الماجشون : إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران من أجل أن الله إنما أسقط عن أهل مكة الدم والصيام في التمتع .
والوجه الثالث من التمتع : هو الذي توعد عليه عمر بن الخطاب وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج . وقد تنازع العلماء في جواز هذا بعد هلم جرا ، وذلك أن يحرم الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية ، فهذا هو الوجه الذي تواردت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ; فيه أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه هدي ولم يسقه وقد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة . وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم ولم يدفعوا شيئا منها ، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل لعلل فجمهورهم على ترك العمل بها ; لأنها عندهم خصوص خص بها رسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجته تلك . قال أبو ذر : ( كانت المتعة لنا في الحج خاصة ) أخرجه مسلم ، وفي رواية عنه أنه قال : ( لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة ، يعني متعة النساء ومتعة الحج ) والعلة في الخصوصية ووجه الفائدة [ ص: 366 ] فيها ما قاله ابن عباس رضي الله عنه قال : ( كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله ، أي الحل ؟ قال : الحل كله . أخرجه مسلم ، وفي المسند الصحيح لأبي حاتم عن ابن عباس قال : ( والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون : إذا عفا الوبر ، وبرأ الدبر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، فقد كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة ، فما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة إلا لينقض ذلك من قولهم ) ففي هذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فسخ الحج في العمرة ليريهم أن العمرة في أشهر الحج لا بأس بها ، وكان ذلك له ولمن معه خاصة ; لأن الله عز وجل قد أمر بإتمام الحج والعمرة كل من دخل فيها أمرا مطلقا ، ولا يجب أن يخالف ظاهر كتاب الله إلا إلى ما لا إشكال فيه من كتاب ناسخ أو سنة مبينة . واحتجوا بما ذكرناه عن أبي ذر وبحديث الحارث بن بلال عن أبيه قال قلنا : يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل لنا خاصة ، وعلى هذا جماعة فقهاء الحجاز والعراق والشام ، إلا شيئا يروى عن ابن عباس والحسن والسدي ، وبه قال أحمد بن حنبل . قال أحمد : لا أرد تلك الآثار الواردة المتواترة الصحاح في فسخ الحج في العمرة بحديث الحارث بن بلال عن أبيه وبقول أبي ذر . قال : ولم يجمعوا على ما قال أبو ذر ، ولو أجمعوا كان حجة ، قال : وقد خالف ابن عباس أبا ذر ولم يجعله خصوصا ، واحتج أحمد بالحديث الصحيح ، حديث جابر الطويل في الحج ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال : ( دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد ) لفظ مسلم ، وإلى هذا والله أعلم مال البخاري حيث ترجم [ باب من لبى بالحج وسماه ] وساق حديث جابر بن عبد الله : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول : لبيك بالحج ، فأمرنا [ ص: 367 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة ، وقال قوم : إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال كان على وجه آخر ، وذكر مجاهد ذلك الوجه ، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا فرضوا الحج أولا ، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا وينتظروا ما يؤمرون به ، وكذلك أهل علي باليمن ، وكذلك كان إحرام النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدل عليه قوله عليه السلام : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به ويأمر أصحابه بذلك ، ويدل على ذلك قوله عليه السلام : أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة في عمرة .
والوجه الرابع من المتعة : متعة المحصر ومن صد عن البيت ، ذكر يعقوب بن شيبة قال حدثنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا وهيب حدثنا إسحاق بن سويد قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يخطب يقول : أيها الناس ، إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ، ولكن التمتع أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج ، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم يتمتع بحله إلى العام المستقبل ثم يحج ويهدي .
وقد مضى القول في حكم المحصر وما للعلماء في ذلك مبينا ، والحمد لله . فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدي يوم النحر ، ثم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجه بعمل عمرة ، والذي ذكره ابن الزبير خلاف عموم قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي بعد قوله : وأتموا الحج والعمرة لله ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلوا وحل ، وأمرهم بالإحلال .
واختلف العلماء أيضا لم سمي المتمتع متمتعا ، فقال ابن القاسم : لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج . وقال غيره : سمي متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين ، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر ، وحق الحج كذلك ، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا ، كالقارن الذي يجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد ، والوجه الأول أعم ، فإنه يتمتع بكل ما يجوز للحلال أن يفعله ، وسقط عنه السفر بحجه من بلده ، وسقط عنه الإحرام من ميقاته في الحج ، وهذا هو الوجه الذي كرهه عمر وابن مسعود ، وقالا أو قال أحدهما : يأتي أحدكم منى وذكره يقطر منيا ، وقد أجمع المسلمون على جواز هذا ، وقد قال جماعة من العلماء : إنما كرهه عمر لأنه أحب أن يزار البيت في العام [ ص: 368 ] مرتين : مرة في الحج ، ومرة في العمرة ، ورأى الإفراد أفضل ، فكان يأمر به ويميل إليه وينهى عن غيره استحبابا ، ولذلك قال : افصلوا بين حجكم وعمرتكم ، فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج .
الخامسة : اختلف العلماء فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ومنزله ثم حج من عامه ، فقال الجمهور من العلماء : ليس بمتمتع ، ولا هدي عليه ولا صيام ، وقال الحسن البصري : هو متمتع وإن رجع إلى أهله ، حج أو لم يحج . قال لأنه كان يقال : عمرة في أشهر الحج متعة ، رواه هشيم عن يونس عن الحسن ، وقد روي عن يونس عن الحسن : ليس عليه هدي . والصحيح القول الأول ، هكذا ذكر أبو عمر " حج أو لم يحج " ولم يذكره ابن المنذر . قال ابن المنذر : وحجته ظاهر الكتاب قول عز وجل : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ولم يستثن : راجعا إلى أهله وغير راجع ، ولو كان لله جل ثناؤه في ذلك مراد لبينه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد روي عن سعيد بن المسيب مثل قول الحسن . قال أبو عمر : وقد روي عن الحسن أيضا في هذا الباب قول لم يتابع عليه أيضا ، ولا ذهب إليه أحد من أهل العلم ، وذلك أنه قال : من اعتمر بعد يوم النحر فهي متعة ، وقد روي عن طاوس قولان هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن أحدهما : أن من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى دخل وقت الحج ، ثم حج من عامه أنه متمتع . هذا لم يقل به أحد من العلماء غيره ، ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الأمصار ، وذلك - والله أعلم - أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة ; لأن العمرة جائزة في السنة كلها ، والحج إنما موضعه شهور معلومة ، فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به ، إلا أن الله تعالى قد رخص في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمل العمرة في أشهر الحج للمتمتع وللقارن ولمن شاء أن يفردها ، رحمة منه ، وجعل فيه ما استيسر من الهدي ، والوجه الآخر قاله في المكي إذا تمتع من مصر من الأمصار فعليه الهدي ، وهذا لم يعرج عليه ، لظاهر قوله تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام والتمتع الجائز عند جماعة العلماء ما أوضحناه بالشرائط التي ذكرناها ، وبالله توفيقنا .
السادسة : أجمع العلماء على أن رجلا من غير أهل مكة لو قدم مكة معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة بها ثم أنشأ الحج من عامه فحج أنه متمتع ، عليه ما على المتمتع ، وأجمعوا في المكي يجيء من وراء الميقات محرما بعمرة ، ثم ينشئ الحج من مكة وأهله [ ص: 369 ] بمكة ولم يسكن سواها أنه لا دم عليه ، وكذلك إذا سكن غيرها وسكنها وكان له فيها أهل وفي غيرها ، وأجمعوا على أنه إن انتقل من مكة بأهله ثم قدمها في أشهر الحج معتمرا فأقام بها حتى حج من عامه أنه متمتع .
السابعة : واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وأبو ثور على أن المتمتع يطوف لعمرته بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ، وعليه بعد أيضا طواف آخر لحجه وسعي بين الصفا والمروة ، وروي عن عطاء وطاوس أنه يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة ، والأول المشهور ، وهو الذي عليه الجمهور ، وأما طواف القارن فقد تقدم .
الثامنة : واختلفوا فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عمل لها في أشهر الحج ، فقال مالك : عمرته في الشهر الذي حل فيه ، يريد إن كان حل منها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع ، وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه ، وقال الشافعي : إذا طاف بالبيت في الأشهر الحرم للعمرة فهو متمتع إن حج من عامه ، وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف بالبيت ، وإنما ينظر إلى كمالها ، وهو قول الحسن البصري والحكم بن عيينة وابن شبرمة وسفيان الثوري ، وقال قتادة وأحمد وإسحاق : عمرته للشهر الذي أهل فيه ، وروي معنى ذلك عن جابر بن عبد الله ، وقال طاوس : عمرته للشهر الذي يدخل فيه الحرم ، وقال أصحاب الرأي : إن طاف لها ثلاثة أشواط في رمضان ، وأربعة أشواط في شوال فحج من عامه أنه متمتع ، وإن طاف في رمضان أربعة أشواط ، وفي شوال ثلاثة أشواط لم يكن متمتعا ، وقال أبو ثور : إذا دخل في العمرة في غير أشهر الحج فسواء أطاف لها في رمضان أو في شوال لا يكون بهذه العمرة متمتعا ، وهو معنى قول أحمد وإسحاق : عمرته للشهر الذي أهل فيه .
التاسعة : أجمع أهل العلم على أن لمن أهل بعمرة في أشهر الحج أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت ، ويكون قارنا بذلك ، يلزمه ما يلزم القارن الذي أنشأ الحج والعمرة معا . واختلفوا في إدخال الحج على العمرة بعد أن افتتح الطواف ، فقال مالك : يلزمه ذلك ويصير قارنا ما لم طوافه ، وروي مثله عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلا قبل الأخذ في الطواف ، وقد قيل : له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يركع ركعتي الطواف ، وكل ذلك قول مالك وأصحابه ، فإذا طاف المعتمر شوطا واحدا لعمرته ثم أحرم بالحج صار قارنا ، وسقط عنه باقي عمرته ولزمه دم القران ، وكذلك من أحرم بالحج في أضعاف طوافه أو بعد فراغه منه قبل ركوعه ، وقال بعضهم : له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة . قال أبو عمر : وهذا كله شذوذ عند أهل العلم ، وقال أشهب : إذا طاف [ ص: 370 ] لعمرته شوطا واحدا لم يلزمه الإحرام به ولم يكن قارنا ، ومضى على عمرته حتى يتمها ثم يحرم بالحج ، وهذا قول الشافعي وعطاء ، وبه قال أبو ثور .
العاشرة : واختلفوا في إدخال العمرة على الحج ، فقال مالك وأبو ثور وإسحاق : لا تدخل العمرة على الحج ، ومن أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشيء ، قاله مالك ، وهو أحد قولي الشافعي ، وهو المشهور عنه بمصر ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في القديم : يصير قارنا ، ويكون عليه ما على القارن ما لم يطف بحجته شوطا واحدا ، فإن طاف لم يلزمه ; لأنه قد عمل في الحج . قال ابن المنذر : وبقول مالك أقول في هذه المسألة .
الحادية عشرة : قال مالك : من أهدى هديا للعمرة وهو متمتع لم يجز ذلك ، وعليه هدي آخر لمتعته ; لأنه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته ، وحينئذ يجب عليه الهدي ، وقال أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق : لا ينحر هديه إلا يوم النحر ، وقال أحمد : إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه ، وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر ، وقاله عطاء وقال الشافعي : يحل من عمرته إذا طاف وسعى ، ساق هديا أو لم يسقه .
الثانية عشرة : واختلف مالك والشافعي في المتمتع يموت ، فقال الشافعي : إذا أحرم بالحج وجب عليه دم المتعة إذا كان واجدا لذلك ، حكاه الزعفراني عنه ، وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المتمتع يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة أو غيرها ، أترى عليه هديا ؟ قال : من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة فلا أرى عليه هديا ، ومن رمى الجمرة ثم مات فعليه الهدي . قيل له : من رأس المال أو من الثلث ؟ قال : بل من رأس المال .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : فما استيسر من الهدي تقدم الكلام فيه .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|