
02-07-2022, 10:52 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (320)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 326 إلى صـ 332
وقال النسائي في سننه أيضا : أخبرنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا أبو التياح ، قال : حدثني موسى بن سلمة الهذلي ، أن ابن عباس قال : أمرت [ ص: 325 ] امرأة سنان بن سلمة الجهني ، أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أمها ماتت ولم تحج ، أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها ؟ قال : " نعم ، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها ؟ فلتحج عن أمها " ، وهذا الإسناد صحيح . وفي لفظ عند النسائي أيضا ، عن ابن عباس ، بإسناد آخر : أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبيها ، مات ولم يحج . قال : " حجي عن أبيك " وإسناده صحيح أيضا . وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس بإسناد آخر صحيح .
وقال المجد في المنتقى : وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : إن أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه ؟ " قال : نعم ، قال : " فاحجج عن أبيك " رواه الدارقطني . انتهى من المنتقى .
وقال الترمذي في سننه : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، نا عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أمي ماتت ولم تحج ، أفأحج عنها ؟ قال " نعم ، حجي عنها " . اهـ . ثم قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . اهـ . وأخرج البيهقي نحوه بإسناد صحيح .
وقال الشافعي في مسنده : أخبرنا سعيد بن سالم ، عن حنظلة ، سمعت طاوسا يقول : أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ، فقالت : إن أمي ماتت ، وعليها حج ، قال : " حجي عن أمك " ولا يخفى أن حديث الشافعي هذا مرسل ، ولكنه معتضد بما تقدم من الأحاديث ، وبما سيأتي إن شاء الله .
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : وحدثني علي بن حجر السعدي ، حدثنا علي بن مسهر أبو الحسن ، عن عبد الله بن عطاء ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال : بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أتته امرأة فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية ، وإنها ماتت قال : فقال " وجب أجرك وردها عليك الميراث ، قالت : يا رسول الله ، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها ، قالت : إنها لم تحج قط ، أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها " . انتهى من صحيح مسلم .
فهذه الأحاديث وأمثالها : هي حجة من قال : إن من وجب عليه الحج في الحياة ، وترك مالا وجب أن يحج عنه ، وليست كلها ظاهرة في ذلك . ولكن بعضها ظاهر فيه [ ص: 326 ] كتشبيهه بدين الآدمي ونحو ذلك مما تقدم . وأجاب المخالفون بأن الحج أعمال بدنية ، وإن كانت تحتاج إلى مال . والأعمال البدنية تسقط بالموت ، فلا وجوب لعمل بعد الموت ، والذي يحج عنه متطوع ، وفاعل خيرا . قالوا : ووجه تشبيهه بالدين انتفاع كل منهما بذلك الفعل ، فالمدين ينتفع بقضاء الدين عنه ، والميت ينتفع بالحج عنه ، ولا يلزم من قضاء الدين عن أحد ، أن القضاء عنه واجب ، بل يجوز أن يكون قضاؤه عنه غير واجب عليه .
واحتجوا أيضا بأن جميع الأحاديث الواردة بالحج عن الميت : واردة بعد الاستئذان في الحج عنه ، قالوا : والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الحظر ، فهو للإباحة ; لأن الاستئذان والحظر الأول كلاهما قرينة على صرف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة .
قال ابن السبكي في جمع الجوامع في مبحث الأمر : فإن ورد بعد حظر - قال الإمام : أو استئذان - فللإباحة . وقال أبو الطيب ، والشيرازي ، والسمعاني والإمام : للوجوب ، وتوقف إمام الحرمين . انتهى منه . فتراه صدر بأن الأمر بعد الاستئذان للإباحة ، والخلاف في المسألة معروف ، وقد ذكرنا فيه أقوال أهل العلم ، في أبيات مراقي السعود في أول سورة المائدة .
ومن أمثلة كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة : أن الصحابة رضي الله عنهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما اصطادوه بالجوارح ، واستأذنوه في أكله ، نزل في ذلك قوله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ 5 \ 4 ] فصار هذا الأمر بالأكل للإباحة ; لأنه وارد بعد سؤال واستئذان .
ومن أمثلته من السنة : حديث مسلم : أأصلي في مرابض الغنم ؟ قال " نعم " الحديث ، فإن معنى " نعم " هنا : صل فيها . وهذا الأمر بالصلاة فيها للإباحة ; لأنه بعد الاستئذان ، وخلاف أهل الأصول في مسألة الأمر بعد الحظر أو الاستئذان معروف .
هذا هو حاصل كلامهم في المستطيع بغيره ، ووجوب الحج عمن وجب عليه في الحياة ، ومات قبل أن يحج وترك مالا ، وقد علمت أدلتهم ومناقشتها .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأحاديث التي ذكرنا تدل قطعا على مشروعية الحج عن المعضوب والميت .
وقد قدمنا أن الأظهر عندنا وجوب الحج فورا ، وعليه فلو فرط ، وهو قادر على [ ص: 327 ] الحج حتى مات مفرطا مع القدرة ، أنه يحج عنه من رأس ماله ، إن ترك مالا ; لأن فريضة الحج ترتبت في ذمته ، فكانت دينا عليه ، وقضاء دين الله صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال : " فدين الله أحق أن يقضى " .
أما من عاجله الموت قبل التمكن ، فمات غير مفرط ، فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه ، ولا دين لله عليه ; لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته ، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وقد دلت الأحاديث المذكورة على جواز حج الرجل عن المرأة وعكسه ، وعليه عامة العلماء ، ولم يخالف فيه إلا الحسن بن صالح بن حي .
والأحاديث المذكورة حجة عليه ، وقد قدمنا أن مالكا رحمه الله ومن وافقوه ، لم يعملوا بظاهر هذه الأحاديث التي ذكرنا مع كثرتها وصحتها ; لأنها مخالفة عندهم لظاهر القرآن في قوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] . وقوله : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] والمعضوب والميت ليس واحد منهما بمستطيع ; لصدق قولك : إنه غير مستطيع بنفسه .
واعلم أن ما اشتهر عن مالك من أنه يقول : لا يحج أحد عن أحد ; معناه عنده : أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض .
والمعضوب عنده ليس بقادر ، وأحرى الميت ، فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا بوصية ، فإن أوصى به صح من الثلث ، وتطوع وليه بالحج عنه ، خلاف الأولى عنده ، بل مكروه .
والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج ، كأن يتصدق به عنه أو يعتق به عنه ونحو ذلك ، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه .
والحاصل : أن النيابة عن الصحيح في الفرض عنده ممنوعة ، وفي غير الفرض مكروهة ، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلا للحج .
قال خليل بن إسحاق في مختصره : ومنع استنابة صحيح في فرض ، وإلا كره . اهـ .
وقال شارحه الخطاب : ويدخل في قول المصنف : وإلا كره ، بحسب الظاهر ثلاث صور : استنابة الصحيح في النفل ، واستنابة العاجز في الفرض وفي النفل ، لكن في التحقيق ليس هنا إلا صورتان ; لأن العاجز لا فريضة عليه . اهـ .
واعلم أن بعض المالكية حمل الكراهة المذكورة على التحريم ، والأحاديث التي ذكرنا حجة على مالك ومن وافقه ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 328 ] تنبيه
اعلم أن ما عليه جمهور العلماء من جواز الحج عن المعضوب والميت محله فيما إذا كان الذي يحج عنهما قد حج عن نفسه حجة الإسلام ، خلافا لمن لم يشترط ذلك ، واحتج الجمهور القائلون بأن النائب عن غيره في الحج لا بد أن يكون حج عن نفسه حجة الإسلام بحديث جاء في ذلك .
قال أبو داود في سننه : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ، وهناد بن السري - المعنى واحد - قال إسحاق : ثنا عبدة بن سليمان ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة . قال " من شبرمة ؟ قال : أخ لي - أو : قريب لي - قال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال : حج عن نفسك ، ثم عن شبرمة " وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، ثنا عبدة بن سليمان ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شبرمة ؟ قال : قريب لي . قال : هل حججت قط ؟ قال : لا ، قال : فاجعل هذه عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة " ، وإسناد هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجه ، رجاله كلهم ثقات ، معروفون ، إلا عزرة الذي رواه عنه قتادة ، وقتادة روى عن ثلاثة كلهم اسمه : عزرة ، وعزرة المذكور في إسناد هذا الحديث ، عند أبي داود وابن ماجه ذكراه غير منسوب ، وجزم البيهقي بأنه عزرة بن يحيى ، وعزرة بن يحيى لم يذكره البخاري في التاريخ ، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ، ولم يخصه ابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة ، ولم يذكره الذهبي في الميزان ، وقد ذكره ابن حجر في التقريب ، وقال فيه : مقبول ، وقد روى هذا الحديث أيضا الدارقطني ، وابن حبان في صحيحه وروى البيهقي من طريق عبدة بن سليمان الكلابي ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : هذا إسناد صحيح ، ليس في هذا الباب أصح منه ، أخرجه أبو داود في السنن عن إسحاق بن إسماعيل ، وهناد بن السري ، عن عبدة ، وقال : يحيى بن معين : أثبت الناس سماعا ، عن سعيد عبدة بن سليمان ، ثم قال : قال الشيخ : وكذلك رواه أبو يوسف القاضي ، عن سعيد ، ثم ساق بإسناده رواية أبي يوسف ، وأورد متن الحديث كما سبق ، ثم قال : وكذلك روي عن محمد بن عبد الله الأنصاري ومحمد بن بشر ، عن ابن أبي عروبة ، ورواه غندر عن سعيد بن أبي عروبة موقوفا على ابن عباس ، ومن رواه مرفوعا حافظ ثقة ، فلا يضره خلاف من خالفه ، وعزرة هذا هو عزرة بن [ ص: 329 ] يحيى ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال : سمعت أبا علي الحافظ يقول ذلك ، وقد روى قتادة أيضا عن عزرة بن تميم ، وعن عزرة بن عبد الرحمن . اهـ من البيهقي ، وقد أورد روايات أخر عن ابن عباس تؤيد الحديث المذكور ، وذكره ابن حجر في التلخيص وأطال فيه الكلام ، وذكر كلام البيهقي في تصحيحه ، وكلام من لم يصححه وذكر طرقه ثم قال ما نصه : فيجتمع من هذا صحة الحديث . اهـ محل الغرض منه .
وقال النووي في شرح المهذب : وأما حديث ابن عباس في قصة شبرمة فرواه أبو داود ، والدارقطني ، والبيهقي ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، ثم ذكر لفظ أبي داود كما قدمنا ، ثم قال : وإسناده على شرط مسلم ، والظاهر أن النووي يظن أن عزرة المذكور في إسناده هو ابن عبد الرحمن ، وذلك من رجال مسلم ، والواقع خلاف ذلك ، وهو عزرة بن يحيى كما جزم به البيهقي ، ثم قال النووي : ورواه البيهقي بإسناد صحيح ، عن ابن عباس ، ثم ذكر بعض ما ذكرنا سابقا من تصحيح البيهقي للحديث ، وأن رفعه أصح من وقفه .
فتحصل من هذا كله : أن الحديث صالح للاحتجاج ، وفيه دليل على أن النائب في الحج لا بد أن يكون قد حج عن نفسه . وقاس العلماء العمرة على الحج في ذلك ، وهو قياس ظاهر ، والعلم عند الله تعالى .
وخالف في ذلك بعض العلماء كأبي حنيفة ومن وافقه ، فقالوا : يصح حج النائب عن غيره وإن لم يحج عن نفسه ، واستدلوا بظواهر الأحاديث التي ذكرناها في الحج عن المعضوب والميت ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها : " حج عن أبيك ، حج عن أمك " ، ونحو ذلك من العبارات ، ولم يسأل أحدا منهم هل حج عن نفسه أو لا . وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر تقديم الحديث الخاص الذي فيه قصة شبرمة ; لأنه لا يتعارض عام وخاص ، فلا يحج أحد عن أحد حتى يحج عن نفسه حجة الإسلام ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
قد علمت مما مر أن الحج واجب مرة في العمر ، وهل ذلك الوجوب على سبيل الفور أو التراخي ؟
اختلف أهل العلم في ذلك ، وسنبين هنا إن شاء الله أقوالهم وحججهم ، وما [ ص: 330 ] يرجحه الدليل عندنا من ذلك ، فممن قال : إن وجوبه على التراخي ; الشافعي وأصحابه . قال النووي : وبه قال الأوزاعي ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، ونقله الماوردي عن ابن عباس ، وأنس ، وجابر ، وعطاء ، وطاوس ، وممن قال إنه على الفور الإمام أحمد ، وأبو يوسف ، وجمهور أصحاب أبي حنيفة والمزني . قال النووي : ولا نص في ذلك لأبي حنيفة ، وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي : إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج ، قال : يحج ولا يتزوج ; لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده ، وهذا يدل على أنه على الفور . انتهى .
وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران ، كلاهما شهره بعض علماء المالكية .
أحدهما : أنه على الفور ، والثاني : أنه على التراخي ، ومحل الخلاف المذكور ما لم يحسن الفوات بسبب من أسباب الفوات ، فإن خشيه وجب عندهم فورا اتفاقا .
قال خليل بن إسحاق في مختصره في الفقه المالكي : وفي فوريته وتراخيه لخوف الفوات خلاف . اهـ .
وقد ذكر في ترجمته أنه إن قال في مختصره : خلاف ، فهو يعني بذلك اختلافهم في تشهير القول .
وقال الشيخ المواق في كلامه على قول خليل المذكور ما نصه الجلاب : من لزمه فرض الحج لم يجز له تأخيره إلا من عذر ، وفرضه على الفور دون التراخي والتسويف ، وعن ابن عرفة هذا للعراقيين ، وعزا لابن محرز والمغاربة وابن العربي ، وابن رشد : أنه على التراخي ما لم يخف فواته . وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه حججهم :
أما الذين قالوا : إنه على التراخي فاحتجوا بأدلة ، منها : أنهم قالوا : إن الحج فرض عام ست من الهجرة ، ولا خلاف أن آية : وأتموا الحج والعمرة لله الآية [ 2 \ 196 ] نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع في الحديبية من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهم محرمون بعمرة ، وذلك في ذي القعدة من عام ست بلا خلاف ، ويدل عليه ما تقدم في حديث كعب بن عجرة الذي نزل فيه : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ ص: 331 ] [ 2 \ 196 ] ، وذلك متصل بقوله : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا الآية [ 2 \ 196 ] ، ولذا جزم الشافعي وغيره بأن الحج فرض عام ست . قالوا : وإذا كان الحج فرض عام ست ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر ، فذلك دليل على أنه على التراخي ؛ إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج بعد نزول الآية . قالوا : ولا سيما أنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان ، واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يحج ، قالوا : واستخلف عتاب بن أسيد ، فأقام للناس الحج سنة ثمان ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه ، ولم يحجوا ، قالوا : ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع ، وانصرف عنها قبل الحج ، فبعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه ، فأقام للناس الحج سنة تسع ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرون على الحج ، غير مشتغلين بقتال ولا غيره ، ولم يحجوا ، ثم حج صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع ، قالوا : فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور ، بل على التراخي .
واستدلوا لذلك أيضا بما جاء في صحيح مسلم في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي رضي الله عنه : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاءه رجل من أهل البادية فقال : يا محمد صلى الله عليه وسلم ، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك . قال : صدق . قال : فمن خلق السماء ؟ قال : الله . قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله . قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : الله . قال : فبالذي خلق السماء ، وخلق الأرض ، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا ، قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا . قال : صدق . ثم ولى قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لئن [ ص: 332 ] صدق ليدخلن الجنة " . انتهى من صحيح مسلم ، قالوا : هذا الحديث الصحيح جاء فيه وجوب الحج ، وقد زعم الواقدي وغيره : أن قدوم الرجل المذكور وهو ضمام بن ثعلبة كان عام خمس ، قالوا : وقد رواه شريك بن أبي نمر عن كريب فقال فيه : بعث بنو سعد ضماما في رجب سنة خمس ، فدل ذلك على أن الحج كان مفروضا عام خمس ، فتأخيره صلى الله عليه وسلم الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي ، لا على الفور .
ومن أدلتهم على أنه على التراخي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر المحرمين بالحج أن يفسخوه في عمرة " فدل ذلك على جواز تأخير الحج ، وهو دليل على أنه على التراخي .
ومن أدلتهم أيضا : أنه إن أخر الحج من سنة إلى أخرى ، أو إلى سنين ، ثم فعله ; فإنه يسمى مؤديا للحج لا قاضيا له بالإجماع ، قالوا : ولو حرم تأخيره لكان قضاء لا أداء .
ومن أدلتهم على أنه على التراخي : ما هو مقرر في أصول الشافعية ، وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن ، لا يقتضي الفور ، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد . فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر .
ومن أدلتهم : أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة . قالوا : فهي على التراخي ، ويقاس الحج عليها ، بجامع أن كلا منهما واجب ليس له وقت معين .
ومنها : أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونهما على التراخي ، بجامع أن كليهما واجب ، ليس له وقت معين : قالوا : ولكن ثبتت آثار : أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة . هذا هو حاصل أدلة القائلين بأن وجوب الحج على التراخي لا على الفور . وأما الذين قالوا إنه على الفور فاحتجوا أيضا بأدلة ، ومنعوا أدلة المخالفين .
فمن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور آيات من كتاب الله تعالى يفهم منها ذلك ، وهي على قسمين :
قسم منها فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامره جل وعلا ، والثناء على من فعل ذلك .
والقسم الثاني : يدل على توبيخ من لم يبادر ، وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يمتثل ; لأنه قد يكون اقترب أجله ، وهو لا يدري .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|