شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الزكاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (185)
صـــــ(1) إلى صــ(15)
الجواب
تجب الزكاة على المستأجر؛ لأن رب الأرض لم يملك هذا الزرع لا أصوله ولا فروعه، وحينئذٍ الواجب إخراج الزكاة على من ملك الحب أصله وفرعه، وبناءً على ذلك: يجب عليه أن يخرج الزكاة من حبه ونتاجه الذي يتحصّل عليه منه.
فنقول: المستأجر هو المطالب بإخراج الزكاة، وتجب عليه الزكاة بنفس التفصيل الذي ذكرنا، ومن هنا قال المصنف: (ولا تجب الزكاة على رب الأرض وإنما تجب على المستأجر دون المالك).
أما في النخل فيتأتى ذلك بأن يؤجره الأرض عشرين عاماً، على القول بجواز إجارتها العشرين عاماً والثلاثين عاماً، فلو استأجرت أرضاً عشرين عاماً وأحببت أن تزرع فيها النخل فيستقيم حينئذٍ الكلام على إجارتها إذا كانت في النخيل، وتقع مسألة إجارة النخيل وإجارة الأرض، وتكون النخيل ملكاً للمستأجر، وحينئذٍ يطالب المستأجر ولا يطالب ربّ المال، فلو زرع فيها نخيلاً عشرة أعوام أو عشرين عاماً وخمسة عشر عاماً، استأجرها وزرع فيها نخيلاً، فإنه حينئذٍ تتحقق مسألتنا، فنقول: إنه تجب الزكاة على المستأجر دون رب الأرض ومالكها.
[وإذا أخذ من ملكه أو موات من العسل مائة وستين رطلاً عراقياً ففيه عشره].
العسل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه أثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصته مع رجلٍ من أهل اليمن سأله عن عسله.
أما حديث عمرو بن شعيب فقد سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يملك عسل نحلٍ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أد العشور، قال: احمها لي يا رسول الله، فحماها عليه الصلاة والسلام له لما أدى عشورها ) ، هذا الحديث تكلم العلماء على سنده، فمن قائل بثبوته كالإمام أحمد رحمة الله عليه ومن وافقه، وقوى هذا بما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما كتب له عامله عن العسل يسأله فيه، قال: (إن أدوا من كل عشر قرب قربة فاحمها لهم) وهذا يدل على أنه يرى الزكاة فيها بالعشر.
وجمهور العلماء على عدم وجوب الزكاة في العسل؛ لأنه لم تثبت عندهم أدلة صحيحة، وحديث عمرو بن شعيب عندهم متكلّم في سنده، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها، ولأن الذين قالوا بوجوب الزكاة في العسل لم يستطيعوا أن يبينوا دليلاً صحيحاً على تحديد نصاب العسل، أي: القدر الذي إذا بلغه العسل وجبت فيه الزكاة، فبعضهم يقول: ستمائة رطل، وبعضهم يقول: مائة وستون رطلاً، واختلفت أقوالهم، وكلهم ليس عنده أصل صحيح من الكتاب والسنة يحدد نصاب العسل، ومنهم من يقول: فيه العشر بغض النظر عن كونه بلغ أو لم يبلغ، ولذلك يقولون: هذا مما يدل على ضعف القول بوجوب الزكاة فيه.
ولا شك أن من أدى عشر ما يخرجه النحل من عسله أفضل وأحوط وأبرأ للذمة، خاصة لما فيه من الاهتداء بسنة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
الركاز وأحكامه
قال المصنف رحمه الله: [والركاز ما وُجِد من دفن الجاهلية ففيه الخمس في قليله وكثيره].
أصل الركز الدفن، ولذلك يقال للرمح: إنه مركوز، إذا دُفِن في الأرض؛ ومعنى رُكِزَ: غُرِز في الأرض ودفن فيها، ويشمل وصف الثبوت، وقد يطلق الرِّكز للصوت الخفي، ومنه قوله تعالى: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } [مريم:98] أي: هل تسمع لهم صوتاً ولو كان خفياً، فهذا أصل الركاز.
وأما بالنسبة للمراد بالركاز في الشرع فهو دفن الجاهلية، والمراد بذلك ما يعثر عليه من النقود والأموال والجواهر التي كانت لأهل الجاهلية، ويعرف كونها من دفن الجاهلية إذا كانت عليها كتابات جاهلية أو عليها تواريخ جاهلية، فحينئذٍ تعرف بأنها من دفن الجاهلية؛ فيكون فيها الخمس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما ثبت في الصحيح: ( وفي الركاز الخمس ) أُعطي حكم الفيء، ولذلك يجب فيه الخمس ويلحق بالزكاة، ومصارفه مصارف الفيء، وستأتينا إن شاء الله تعالى في كتاب الجهاد في مباحث الغنيمة.
وهذا الركاز يشترط فيه أن يكون من دفن الجاهلية، أما لو وجدنا نقوداً وذهباً وفضة من دفن الإسلام، يعني: في زمان من بعد عصر النبوة، فإنه حينئذٍ يأخذ حكم اللقطة ويسري عليه ما يسري على اللقطة من أحكام.
فإذا كان عليه أمارات الجاهلية ومن أموال الجاهلية، فإنه ركاز، وفيه الخمس؛ فبمجرد ما يأخذه يُخرج خمسه، سواء كان قليلاً أو كان كثيراً.
فاختلف الركاز عن الزكاة بما يلي: أولاً: أنه لا يتحدد بنصاب، والزكاة تتحدد بنصاب.
ثانياً: مصارفه مصارف الفيء، أما الزكاة فمصارفها هم الذين سماهم الله عز وجل من الأصناف الثمانية، الذين حددهم من فوق سبع سماوات: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:60] وسيأتي إن شاء الله الكلام على هؤلاء الأصناف الثمانية الذين سماهم الله عز وجل في كتابه.
فبالنسبة للركاز يؤدي الخمس عن قليله وكثيره، فلو حصل على ألف غرام منه، أو حصل على مائة غرام منه فالحكم واحد، بل حتى لو حصل على عشرة غرامات، وهي من دفن الجاهلية، فعليه أن يخرج خمسها ومصرفها مصرف الفيء.
وذهب بعض العلماء -وهم الحنفية- إلى أن المعادن تأخذ حكم الركاز، والجمهور -المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية- على أن الركاز يختص بدفن الجاهلية.
الحنفية يقولون: المعادن حكمها حكم الركاز، ويجب عليه أن يخرج زكاتها، فيخرج منها الخمس، سواء كانت ذائبة أو كانت مما يحتاج إلى إذابة أو كانت جامدة، فالذائبة مثل أن يؤخذ الذهب والفضة ويذوّب فيلحق بالركاز وعليه الخمس، والجامدة مثل النورة (الجص) وغيرها مما يكون من المعادن التي تستخرج، فهذه فيها الخمس عندهم.
والصحيح: أن المعادن لا تأخذ حكم الركاز، وإنما لها حكم مستقل، ولا تدخل فيما سن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( وفي الركاز الخمس ) .
والركاز يشترط فيه وجود العلامة، أما إذا وجدت فيه علامة الإسلام، أو غلب على الظن أنه من دفن المسلمين، فإنه يأخذ حكم اللقطة، وسنبين هذه الأحكام بالتفصيل في باب اللقطة، وسيأتي إن شاء الله في باب المعاملات.
[ففيه الخمس في قليله وكثيره].
(ففيه الخمس في قليله وكثيره)، فلو كان الذي حصل عليه ألف غرام فإننا نوجب عليه خمُس الألف، وهو مائتان من الغرامات، فيجب عليه أن يؤديها، وشأنه في الأربعة الأخماس يفعل بها ما شاء، والركاز يملكه من وجده، فمن وجده في برِّية أو عمران ملكه، فإذا كان في عمران وهذا العمران ملكاً له فحينئذٍ لا إشكال، وإن كان ملكاً لغيره فهو لذلك الغير؛ لأن من ملك أرضاً ملك ما بباطنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين ) فجعل سافل الأرض تابعاً لأعلاها، وبناءً على ذلك قالوا: يكون لصاحب الأرض.
الأسئلة
إخراج الزكاة مما زرع للعلف
السؤال
نحن نزرع الأعلاف للماشية ويأتي فيه الحب ويبلغ النصاب، ولكن نحصد الأعلاف ونعلف بها الماشية وفيها الحب في السنابل، هل يلزمنا الزكاة مع أننا لم نزرع للحب إنما للتعليف، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فتجب الزكاة على من ملك الخمسة الأوسق سواء زرعها لنفسه أو زرعها لدوابه علفاً، وحينئذٍ يجب عليكم إخراج ما أوجب الله من الزكاة على ظاهر الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب الزكاة في الحبوب.
والله تعالى أعلم.
حكم زكاة السويق
السؤال
السويق الذي يحصد قبل أن يشتد حبه ثم يطبخ فيشتد حبه بالطبخ، هل فيه زكاة، ومتى تكون زكاته، أثابكم الله؟
الجواب
بالنسبة للسويق إذا جُذ قبل بدو صلاحه وهو قبل الاشتداد، فلا تجب فيه الزكاة، وبناءً على ذلك يكون حكمه حكم الثمرة إذا قطعت قبل بدو صلاحها، فالثمر إذا قطع قبل بدو صلاحه لم تجب فيه زكاة، كأن يقطع ثمرة نخيله علفاً للدواب، أو يقطعها لأجل أن يتقوى النخل، فكل ذلك لا تجب فيه الزكاة، وعلى هذا فلو قصه قبل بدو صلاحه لم تجب فيه الزكاة، والفرق بين المسألة الأولى والمسألة الثانية واضح، وذلك أن الحاصد في المسألة الأولى قد استقر وجوب الزكاة عليه؛ لأنه حينما بدا صلاح الحب واشتد، فإنه وجب عليه أن يؤدي الزكاة، واستقر عليه الوجوب بالحصاد، وأما الحالة الثانية -وهي ما ذكر في السؤال الثاني- فحينما جُذ الثمر أو الحب قبل بدو صلاحه، فإنه لم يخاطب بالزكاة ولم تجب عليه الزكاة أصلاً؛ لأن شرط وجوبها أن يشتد الحب في سنابله، فإذا حصد قبل اشتداده في سنابله، فإنه لا تجب عليه الزكاة.
والله تعالى أعلم.
حكم الحب إذا وضع في البيدر فتلف
السؤال
إذا وضع الحب في البيدر وتلف بتعدٍ أو غير تعدٍ، فما الحكم، أثابكم الله؟
الجواب
إذا وضع في البيدر وتلف بتعدٍ وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لم يتعدّ ولم يفرِّط فلا ضمان عليه، وقد بينا هذا التعدي، كأن يرسل الماء عليه، أو يتساهل في وضعه على طريقة تؤدي إلى تلف الثمرة، أو يتركه للدواب والهوام، ويكون المكان الذي فيه البيدر فيه دواب وهوام تفسده، فحينئذٍ تعدى؛ لأنه عالم بوجود هذه المفاسد، ولم يتعاط أسباب الحفظ والصيانة، فيلزم بضمان ما تعدى فيه، وأما إذا كان فرّط فالتفريط أن يتساهل في تعاطي الأسباب للحفظ، كما ذكرنا أنه ترك الباب مفتوحاً فجاء السارق وأخذ، أو جعل مزرعته مفتوحة لكل من يدخل ويخرج بدون أن يحفظ الثمرة ويصونها، ويكون البيدر عليه ما يحفظه، فحينئذٍ يلزمه الضمان ولا يسقط ذلك وجوب الزكاة عليه.
والله تعالى أعلم.
حكم المزارعة بما يخرج من الثمر
السؤال
استأجر رجل أرضاً لزراعتها واتفق مع صاحب الأرض على ربع الخارج من ثمارها وحبوبها، فهل هذا جائز، أم لا؟ وما العمل فيما سبق، أثابكم الله؟
الجواب
استئجار الأرض بربع ما يخرج منها أو بنصف ما يخرج منها لا يجوز على أصح أقوال العلماء كما ذكرنا.
الحلّ في هذه الحالة: إذا استأجر وتمّ العقد، فإن القاعدة في الإجارات الفاسدة أنها تُفسخ إن أمكن الفسخ، بمعنى: أنه يقال لكل منهما أن يجدد العقد، وإذا أمكن ذلك فلا إشكال، أما لو زرع وخرج الزرع ومضت المدة، فالحكم حينئذٍ في القضاء والفتوى أن ذلك يردّ إلى أجرة المثل، فنقول: أنتم اتفقتم على وجه فاسد، فننظر كم أجرتها بالمعروف، فننظر في العرف في هذه القرية والمدينة أو المحلّ الذي فيه الأرض، لو أُجرت أرض مثل هذه الأرض بكم ستؤجر.
قالوا: كل شهر بألف -وقد مضت ستة أشهر مثلاً- فنقول للمستأجر: ادفع ستة آلاف وهي أجرة المثل، يجب عليك دفعها، وخذ الثمرة كاملة لك، فيكون حينئذٍ ليس لرب الأرض أن يشارك المستأجر في الثمرة، وتكون الثمرة بكاملها للمستأجر، وعليه أن يدفع لرب الأرض أجرة أرضه بالمعروف، ولذلك قال تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة:228] فالعرف يُرد إليه عند وجود ما يقتضي ذلك من الخلل في الإجارات أو فساد عقدها، فنقول: كم مضى من الأشهر؟ قالوا: شهران أو ثلاثة أو أربعة، فنقول: ادفع أجرة هذين الشهرين بالمعروف، فحينئذٍ لا ظلمنا رب الأرض ولا ظلمنا من استأجر الأرض، وأعطينا الأرض حقها، وكان في ذلك تحقيق للمصالح كلها، فالعامل في الأرض استفاد بالأجرة وأخذ حقه، والمستأجر استفاد بحبه الذي زرع في أرضه وما يكون منه من نتاج، وأعطيت الأرض حقها بدون ظلم، وهذا هو عين العدل الذي أمر الله به ورسوله.
والله تعالى أعلم.
الخراج بالضمان
السؤال
من اشترى بيتاً أو أرضاً ثم وجد فيها ركازاً، فهل هو للبائع، أم للمشتري، أثابكم الله؟
الجواب
من اشترى أرضاً أو اشترى بيتاً فوجد فيه ركازاً فالركاز لمن اشترى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أم المؤمنين عائشة عند أبي داود في السنن: ( الخراج بالضمان ) ومعنى الحديث: أن الربح لمن يضمن الخسارة، فكما أنه متحملٌ لخسارة أرضه؛ حيث إنه لو تلفت الأرض، أو جاءتها آفة، أو جاءها ضرر، لتحمّل المشتري المسئولية، فكما أنه يتحمل الغرم فله الغنم، والقاعدة في الشرع: أن الغنم بالغرم، تفريعاً على هذا الحديث الذي عمل به وأجمع العلماء على العمل به: ( الخراج بالضمان ) قال أئمة الحديث: أجمع العلماء على العمل بمتنه، أن الخراج بالضمان، وهي قاعدة الغنم بالغرم، فالذي يشتري أرضاً وبعد عقد البيع بلحظة واحدة افترقا ثم حفر ووجد الركاز، فإنه ملكٌ له، وهو الذي يأخذه ويستحقه.
والله تعالى أعلم.
زكاة العسل
السؤال
على القول بوجوب الزكاة في العسل، فهل يعتبر الشمع الموجود في العسل في الوزن أم لا، أثابكم الله؟
الجواب
يقولون: لا بد من تصفيته من شمعه، وإنما يجب منه بعد تصفيته؛ كالحب لا يجب فيه مع وجود قشره وما يصاحبه، كذلك إنما تجب الزكاة من صافي العسل.
عدم جواز الإجارة في تأبير النخل على جزء مما يخرج منه دون المساقاة
السؤال
استأجر رجلٌ عدداً من النخل يقوم بتلقيحها والمحافظة عليها في فترة الطلع فقط على عدد من الأقنية، قنوان لكل نخلة، فما الحكم فيها، أثابكم الله؟
الجواب
من يعمل في الأرض يسقيها ويؤبرها ويقوم على مصالحها بجزءٍ مما يخرج منها كربع الثمرة ونصف الثمرة، فهذه مساقاة شرعية، والأصل فيها حديث عبد الله بن عمر الثابت في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها ) هذا أصل عند العلماء في مشروعية المساقاة.
الحالة الثانية: أن يقول له: أبِّر النخل وقم بتأبيره ولك ربع الثمرة، فهذا لا يجوز؛ لأنها ليست بمساقاة شرعية، والمساقاة الشرعية يقول العلماء: إجارة مستثناة من الإجارة بالمجهول، فأصل المساقاة الجائزة استثناها الشرع من الإجارة بالمجهول، وتوضيح ذلك: أن الأصل في الإجارة في الشرع -وهذه قاعدة ينبغي أن يضعها كل طالب علم نصب عينيه- أنه لا بد فيها من تحديد العمل والأجرة، فيحدد العمل وتحدد الأجرة، يحدد العمل بالزمان وبالقدر، فتأتي للعامل وتقول له: اعمل عندي يوماً بمائة في زرع أو بناء، هذه تحدد بالزمان، فاليوم يرجع إلى العرف إن كان العرف ثمان ساعات استحق الأجرة بثمان ساعات، وإن كان العرف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، فإنه سيعمل من طلوع الشمس إلى غروبها، ويرتاح في وقت الراحة بالعرف، هذه إجارة محددة بالزمان، والعمل محدد بالزمان، كذلك تتحدد الإجارة بالمكان بالمسافات وبالأقدار، فتقول له: أستأجرك إلى مكة يعني: توصلني إلى مكة كالسيارات، فهذه إجارة بالمكان، وكما في الصحيحين من حديث عائشة : ( استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً ) فهذه إجارة للمكان، أنه استأجره لكي يأخذ به مكاناً بعيداً عن الأنظار حتى يبلغ به المدينة، وهذه إجارة محددة بالفعل.
كذلك أيضاً الأجرة لا بد أن تكون معلومة، فلو قال له: تعال واعمل عندي في العمارة يوماً مثلاً، قال: بكم؟ قال: ما نختلف سنتفق، سيكون الذي يرضيك سيكون الذي يسرُّك ما يهمك، لا يجوز، لماذا؟ لأنها مجهولة، فقد يكون الذي يرضي الرجل عند مالك العمل غير الذي يكون عند المستأجر، فيخدعه، ولذلك يحصل الضرر والفتنة، فيقول له: خذ مائة، يقول: لا، الذي يرضيني مائة وخمسون، أو يقول له: خذ خمسين، فيقول: الذي يرضيني مائة، فتقع الفتنة، والشريعة تريد من كل متعاقد أن يكون على بينة من أمره، فلا بد أن تحدد العمل والأجرة التي ترتبت على العمل، ولذلك جاء في حديث عبد الرزاق في المصنف: ( من استأجر أجيراً فليعلمه أجره ) فلا بد أن يكون الأجر معلوماً، وأجمع العلماء على حرمة الإجارة بالمجهولات.
نحن عرفنا أنك لا يجوز أن تستأجر إنساناً بشيء مجهول، لا على عمل مجهول ولا على أجرة مجهولة، مثلاً: لو قال له: ابن لي حائطاً، أو ابن لي بيتاً، لا يجوز حتى يحدد كم طول الحائط وكم عرضه، وكذلك أيضاً ما هي مواصفاته؛ لأنه لو بناه على طريقة فربما يقول صاحب البيت: كنت أريده على طريقة أخرى، وكنت أريده على وضع آخر، فتقع الفتنة، وكلّما تأملت منهج الشريعة في شروط الإجارات والمعاملات التي تقع بين الناس تجد تشديداً، لكن هذا التشديد حفظ لأموال الناس ولحقوقهم، فلا أحد يظلم أحداً، وكلما طُبقت هذه الشروط الشرعية وجدت الناس في مأمن، وكلٌ يعلم ما الذي له وما الذي عليه، لكن ابحث عن أي خصومة في الإجارات لا تجدها إلا إذا دخلتها الجهالة أو دخلها شيءٌ من الغرر والمخادعة، ولذلك تجد بعض العقود لا تصحح في الشريعة؛ لوجود الدَخَل والجهل.
لابد أن نفرِّق بين الإجارة والمساقاة، فالمساقاة حينما قال رب الأرض للعامل: خذ نخلي -عنده مائة نخلة- اسقها وقم عليها وأصلحها وأبِّرها، فإذا أخرجت الثمرة فبيني وبينك، نصفها لك ونصفها لي، هذا في الأصل الشرعي لا يجوز، لماذا؟ لأن العمل مجهول، فلا ندري كم مدة الأيام، وكم مدة الشهور، وكم المدة التي سيستغرقها عمل العامل.
أيضاً: نفس العمل لا ندري كم قدره، المائة النخلة كلها قد تُطلع، وقد يُطلع نصفها، وقد يطلع ثلاثة أرباعها، وقد يطلع الثلث، لا ندري كم القدر، ثم لو أطلعت قد تطلع الجيد وقد تطلع بعدد كثير، وقد تطلع بالعدد القليل، وإذا أطلعت العدد الكثير أو الجيد، لا ندري هل يبقى صالحاً إلى الجذاذ أو لا، فإذاً المسألة كلها مبنية على الغرر، ومن هنا قال العلماء: المساقاة نوع من الإجارات المستثناة من الأصول.
لأن الأصول تقتضي عدم الجواز، فاستثنيت بقدر الحاجة، إذا ثبت أنه إذا قال له: اسق لي زرعي أو اسق لي النخل ولك نصفه أو ربعه، أن هذا في الأصل لا يجوز ولكن جاز لورود النص عن النبي صلى الله عليه وسلم رفقاً بالمزارعين وبالناس، وكأنه اغتفر وجود الجهالة في العمل لطيبة الأنفس، فهذا شيء ورد النص به.
هنا مسألةٍ لو قال له: قم على النخل أبِّر نخلي وخذ نصف الثمرة، فحينئذٍ ليست بمساقاة؛ لأن المساقاة قائمة على السقي، وقائمة على تطييب النخل، وإزالة الشوك عن الجريد حتى يتهيأ وضع الأقنية عليه، هو أجره فقط على التأبير، والتأبير شيء واستصلاح النخل بالسقي والقيام عليه شيءٌ آخر، فحينئذٍ رجعت إلى الأصل الذي يقتضي التحريم؛ لأنها إجارة بالمجهول، وحينئذٍ لا يصح هذا النوع من الإجارات، فنقول: إذا قال له: أبِّر النخل ولك نصف ما يخرج وارتفعا إلى القاضي، فإن القاضي يحكم بفساد الإجارة، ويأتي بأناس من أهل الخبرة، ويقول: قدروا عمل هذا الرجل في التأبير، كم نخلة أبَّر؟ قالوا: مائة نخلة، يسأل أهل الخبرة: كم يكون قيمة تأبير النخلة الواحدة؟ قالوا: كل نخلة تؤبَّر بعشرة ريالات مثلاً، هذه مائة نخلة معناه أن له ألف ريال يقول لرب الثمرة: أعطه ألف ريال ولك الثمرة خالصة، فأخذ العامل حظه، وأخذ رب المال ثمرته، وألغى هذا النوع من الإجارة الفاسدة.
فإذاً يشترط في صحة الإجارة بجزء الثمرة أن تكون مساقاة شرعية على الصفة المعتبرة، المساقاة الشرعية يتحمل تنظيف البئر واستصلاحه، ويقوم على جلب الماء من البئر سواء عن طريق الدلو أو عن طريق القيام على السواني ومراقبتها، وتشغيل السواني في الأوقات المعتبرة للسقي، ويعطي وجبات النخل بنفس القدر المعتبر في السقي، فإذا قام بالسقي يقوم بعد ذلك بتطييب النخل وتهيئته للطلوع عليه، ثم النخل تكون أعراشه وعراجينه على الجريد، وتحتاج إلى تنظيف الجريد من الشوك حتى يتمكن من جنيه، ثم يقوم على تأبيره، إلى غير ذلك مما يحتاج إليه لاستصلاح ثمر النخل، أما بالنسبة للإجارة على التأبير وحده فالحكم فيه ما ذكرنا.
والله تعالى أعلم.