
27-06-2022, 08:17 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1064 الى صـ 1070
الحلقة (192)
تنبيه :
هذه الآية ، وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم ، ففيها ترهيب للمؤمنين عما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها ومحبة المدح بما عرا عنه من الفضائل . ويدخل في ذلك المراؤون المتكثرون بما لم يعطوا ، كما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :« من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة » .
وفي الصحيحين أيضا : « المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور » . فليحذر من يأتي بما لا ينبغي ويفرح به ، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على الله تعالى .
فائدة :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأول وضمها في الثاني ، وفاعل الأول ( الذين يفرحون ) . وأما مفعولاه فمحذوفان اكتفاء بمفعولي : تحسبنهم لأن الفاعل [ ص: 1065 ] فيهما واحد . فالفاعل الثاني تأكيد للأول ، وحسن لما طال الكلام المتصل بالأول . والفاء زائدة ؛ إذ ليست للعطف ولا للجواب ، وثمة وجوه أخرى .
لطيفة :
تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور - للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة ، وقطع أطماعهم الفارغة ، حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة ، كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية ، وعليه كان مبنى فرحهم . وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - فللتعريض بحسبانهم المذكور ، لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه الصلاة والسلام - أفاده أبو السعود - .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 189 ] ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير .
ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير فهو قادر على عقابهم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 190 ] إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب
إن في خلق السماوات والأرض أي : في إيجادهما على ما هما عليه من الأمور المدهشة ، تلك في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها ، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابت وبحار ، وجبال وقفار وأشجار ، ونبات وزروع ، وثمار وحيوان ، ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص : واختلاف الليل والنهار أي : في تعاقبهما ، وكون كل منهما خلفة للآخر ، بحسب طلوع الشمس وغروبها ، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر ، وانتقاصه [ ص: 1066 ] بازدياده : لآيات أي : لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته ، وباهر حكمته . والتنكير للتفخيم كما وكيفا ، أي : كثرة عظيمة : لأولي الألباب أي : لذوي العقول المجلوة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائما كما قال :
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 191 ] الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار .
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم أي : فلا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله المفيد صفاء الظاهر المؤثر في تصفية الباطن . فالمراد : تعميم الذكر للأوقات ، وعدم الغفلة عنه تعالى . وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ، ليس لتخصيص الذكر بها ، بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الإنسان غالبا : ويتفكرون في خلق السماوات والأرض أي : في إنشائهما بهذه الأجرام العظام ، وما فيهما من عجائب المصنوعات ، وغرائب المبتدعات ، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى ، فيعلموا أن لهما خالقا قادرا مدبرا حكيما ، لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تعالى . كما قيل :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
روى ابن أبي الدنيا في ( كتاب التوكل والاعتبار ) عن الصوفي الجليل الشيخ أبي سليمان الداراني - قدس الله سره - أنه قال : إني لأخرج من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ، ولي فيه عبرة . وإنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته .
خرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن سلام : ( لا تفكروا في الله ، ولكن تفكروا فيما خلق ) . وله شواهد كثيرة .
[ ص: 1067 ] قال الرازي : دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم ، كما قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولما كان الأمر كذلك ، لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السماوات والأرض ، لأن دلالتها أعجب ، وشواهدها أعظم ، وكيف لا نقول ذلك ، ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة ، رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر ، حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة ، وأسرارا عجيبة ، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ، ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق ، حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها ، لعجز عنه . فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السماوات ، مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم . وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان - عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم . فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير - عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض ، وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام ، لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين . بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بالغة ، وأسرار عظيمة ، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها . وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : ربنا ما خلقت هذا باطلا على إرادة [ ص: 1068 ] القول بمعنى يتفكرون قائلين ذلك . وكلمة : ( هذا ) متضمنة لضرب من التعظيم ، أي : ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثا ، عاريا عن الحكمة ، خاليا عن المصلحة ، بل منتظما لحكم جليلة ، ومصالح عظيمة . من جملتها أن يكون دلالة على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك ، وأن يكون مدارا لمعايش العباد ، ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد .
لطيفة :
قال أبو البقاء : ( باطلا ) مفعول من أجله . والباطل ، هنا ، فاعل بمعنى المصدر ، مثل العاقبة والعافية . والمعنى : ما خلقتهما عبثا . ويجوز أن يكون حالا . تقديره ما خلقت هذا خاليا عن حكمة . ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أي : خلقا باطلا - انتهى - .
وقوله : سبحانك أي : تنزيها لك من العبث ، وأن تخلق شيئا بغير حكمة : فقنا عذاب النار قال السيوطي : فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء . ذكره النووي في ( الأذكار ) ا هـ . وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء ، وهو تقديم الثناء على الله تعالى أولا ، كما دل عليه قوله : سبحانك ثم بعد الثناء يأتي الدعاء ، كما دل عليه : فقنا عذاب النار
وعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - قال : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا يدعو في صلاته ، لم يمجد الله تعالى ، ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « عجل هذا » ، ثم دعاه فقال له أو لغيره : « إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه ، والثناء عليه ، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو بعد بما شاء » . رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث صحيح .
واعلم أنه لما حكى تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى ، وأبدانهم في طاعة الله ، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله - ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ، ثم أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، بقولهم :
[ ص: 1069 ]
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 192 ] ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار .
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته أي : أهنته وأظهرت فضيحته لأهل الموقف . وسر هذا الإتباع عظم موقع السؤال ، لأن من سأل ربه حاجة ، إذا شرح عظمها وقوتها كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل ، وإخلاصه في طلبه أشد ، والدعاء لا يتصل بالإجابة ، إلا إذا كان مقرونا بالإخلاص ، وهذا أيضا تعليم من الله تعالى فنا آخر من آداب الدعاء : وما للظالمين من أنصار تذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم ، ببيان خلود عذابهم ، بفقدان من ينصرهم ، ويقوم بتخليصهم . وغرضهم تأكيد الاستدعاء . ووضع ( الظالمين ) موضع ضمير المدخلين ، لذمهم ، والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ، ووضعهم الأشياء في غير مواضعها . وجمع ( الأنصار ) بالنظر إلى جمع الظالمين ، أي : ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار . والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر . فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة ، على أن المراد بالظالمين هم الكفار - أفاده أبو السعود - .
وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 193 ] ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .
ربنا إننا سمعنا مناديا حكاية لدعاء آخر لهم ، وتصدير مقدمة الدعاء بالنداء لإظهار كمال الضراعة والابتهال . والتأكيد للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة ، وكمال النشاط . والمراد بالمنادي : الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتنوين للتفخيم ، وهذا كقوله تعالى : وداعيا إلى الله وفي وصفه - صلى الله عليه وسلم - بـ ( المنادي ) دلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوى وتبليغها إلى [ ص: 1070 ] الداني والقاصي ؛ لما فيه من الإيذان برفع الصوت : ينادي للإيمان أي : لأجل الإيمان بالله . فإن قلت : فأي فائدة في الجمع بين ( المنادي ) و ( ينادي ) ؟ قلت : ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالإيمان تفخيما لشأن المنادي ؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان . ونحوه قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادي إذا أطلق ، ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء النائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ، ويهدي لسداد الرأي ، وغير ذلك . فإذا قلت : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام ، فقد رفعت من شأن المنادي والهادي ، وفخمته . ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ، وندبه له وإليه ، وناداه له وإليه ، ونحوه : هداه للطريق وإليه . وذلك أن معنى انتهاء الغاية ، ومعنى الاختصاص واقعان جميعا - أفاده الزمخشري - .
أن آمنوا بربكم فآمنا أي : فامتثلنا أمره ، وأجبنا نداءه ، و : ( أن ) إما تفسيرية ، أي : آمنوا ، أو مصدرية ، أي : بأن آمنوا : ربنا تكرير للتضرع ، وإظهار لكمال الخضوع : فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا أي : استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها ، وأذهب عنا سيئاتنا بتبديلها حسنات : وتوفنا مع الأبرار أي : معدودين في جملتهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة . والأبرار جمع بار أو بر ، وهو كثير البر ( بالكسر ) أي : الطاعة .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|