
27-06-2022, 08:16 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,690
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1057 الى صـ 1063
الحلقة (191)
وهذه النار التي نزلت من السماء جاء ذكرها في الفصل التاسع من سفر الأحبار وملخصه : أن موسى أمر هارون عليهما السلام أن يذبح قربانا ، فذبح عجلا وأحرق لحمه وجلده خارج المحلة ، وأما شحمه وكليتاه وزيادة كبده فقترها على المذبح ، ثم قرب تيسا وثورا وكبشا بكيفية خاصة ، ثم دخل موسى وهارون خباء المحضر ، فخرجت نار من عند الرب ، فأكلت المحرقة والشحوم التي على المذبح ، فنظر جميع الشعب وهتفوا مسبحين وسجدوا - انتهى - .
إذا علمت ذلك ، فقوله تعالى : تأكله النار بمعنى : أن يذبح على الكيفية المعروفة ، ثم تنزل نار من السماء فتأكله ، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها المحرقة ، كما ذكرنا . وفي عهد سليمان أيضا ، فقد جاء في الفصل التاسع من سفر أخبار الأيام الثاني : أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح ، وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار . انتهى .
وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 185 ] كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
كل نفس ذائقة الموت كقوله : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس ، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة أي : تعطون جزاء أعمالكم وافيا يوم القيامة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . قال الزمخشري : فإن قلت : فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ! قلت : كلمة التوفية تزيل هذا [ ص: 1058 ] الوهم ، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور .
وقال الرازي : بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم ، وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة ، لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم ، والسعادة بلا خوف الانقطاع . [ ص: 1059 ] وكذا القول في العقاب ، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة ، نعوذ بالله منه فمن زحزح أي : أبعد : عن النار التي هي مجمع الآفات والشرور : وأدخل الجنة الجامعة للذات والسرور : فقد فاز أي : حصل الفوز العظيم ، وهو الظفر بالبغية ، أعني : النجاة من سخط الله والعذاب السرمد ، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » . وأخرجه مسلم أيضا : وما الحياة الدنيا أي : لذاتها : إلا متاع الغرور المتاع : ما يتمتع وينتفع به ، والغرور : ( بضم الغين ) مصدر غره ، أي : خدعه وأطمعه بالباطل ، [ ص: 1060 ] وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنيه لذاتها من طول البقاء ، وأمل الدوام ، فتخدعه ثم تصرعه . قال بعض السلف : الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول . فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 186 ] لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور
لتبلون أي : لتختبرن : في أموالكم بما يصيبها من الآفات : وأنفسكم بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد . وهذا كقوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلى آخر الآيتين - أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله . وفي الحديث : « يبتلى المرء على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء » ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى [ ص: 1061 ] كثيرا بالقول والفعل : وإن تصبروا على ذلك : وتتقوا أي : مخالفة أمره تعالى : فإن ذلك أي : الصبر والتقوى : من عزم الأمور أي : من معزومات الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون . أي : مما يجب أن يعزم عليه كل أحد ، لما فيه من كمال المزية والشرف . أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه . يعني : أن ذلك عزمة من عزمات الله تعالى ، لا بد أن تصبروا وتتقوا . وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى . أفاده أبو السعود .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب الصبر . وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 187 ] وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وهم علماء اليهود والنصارى : لتبيننه للناس أي : لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته - صلى الله عليه وسلم - . وفي قوله تعالى : ولا تكتمونه من النهي عن الكتمان ، بعد الأمر بالبيان ، مبالغة في إيجاب المأمور به : فنبذوه أي : الميثاق : وراء ظهورهم أي : طرحوه ولم يراعوه ، ونبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به ، والإعراض عنه بالكلية . كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به : واشتروا به أي : استبدلوا به : ثمنا قليلا أي : شيئا حقيرا من حطام الدنيا : فبئس ما يشترون بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه .
قال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب إظهار الحق ، وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات وغير ذلك مما يجب إظهاره . وقد تقدم هذا ، وإن المراد بذلك إذا لم يؤد إلى مفسدة ، ويدخل في الكتم ؛ منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها .
[ ص: 1062 ] وقال العلامة الزمخشري - عليه الرحمة - : كفى بهذه الآية دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه ، وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة ، وتطييب لنفوسهم ، واستجلاب لمسارهم ، أو لجر منفعة وحطام الدنيا ، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة ، أو لبخل بالعلم ، وغيرة أن ينسب إليه غيرهم - انتهى - .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » - أخرجه الترمذي - ولأبي داود : « من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة » . وقال أبو هريرة : لولا ما أخذ الله - عز وجل - على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء . ثم تلا : وإذ أخذ الله الآية .
لطيفة :
قال العلامة أبو السعود : في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة ، لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ ، والإعراض عن المعطي ، والتعبير عن المشترى الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة - بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه ، وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون ، مصحوبا بـ ( الباء ) الداخلة على الآلات والوسائل - من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير ، على الشريف الخطير ، وتعكيسهم بجعلهم المقصد وسيلة ، والوسيلة مقصدا - ما لا يخفى جلالة شأنه ورفعة مكانه - انتهى - .
ثم أشار تعالى أنهم لا يرون قبح ذلك بل يفرحون به فقال :
[ ص: 1063 ]
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 188 ] لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم
لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا أي : بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان : فلا تحسبنهم بمفازة أي : بمنجاة : من العذاب ولهم عذاب أليم بكفرهم وتدليسهم .
روى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أن مروان قال : اذهب يا رافع ( لبوابه ) إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل ، لنعذبن أجمعون . فقال ابن عباس : ما لكم وهذه ، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب - إلى قوله : ولهم عذاب أليم وقال ابن عباس : سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه . وهكذا رواه البخاري في التفسير ، ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما ، وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه بنحوه . ورواه البخاري أيضا عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس - فذكره - وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1064 ] إلى الغزو وتخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت : ( ولا تحسبن ) الآية - وكذا رواه مسلم بنحوه .
ولا منافاة بين الروايتين ، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر ، ومعنى نزول الآية في ذلك وقوعها بعد ذلك ، لا أن أحد الأمرين كان سـببا لنزولها . كما حققناه غير مرة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|