
27-06-2022, 08:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,146
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1008 الى صـ 1014
الحلقة (184)
فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء . ومن الظانين به غير الحق ، ظن الجاهلية . ومن ظن به يكون في [ ص: 1008 ] ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد ، عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ، ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه ، بائنا من خلقه ، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين ، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها ، وأنه أسفل كما أنه أعلى ، ومن قال سبحان ربي الأسفل ، كمن قال سبحان ربي الأعلى - فقد ظن به أقبح الظن .
ثم قال : وبالجملة فيمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ، ووصفه به ورسله ، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ، ووصفته به رسله - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويتوسلون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه ، فيدعونهم ، ويخافونهم ، ويرجونهم - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه .
ثم قال : ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه ، أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله - فقد ظن به ظن السوء . وظن به خلاف ما هو أهله .
ثم قال : ومن ظن به أنه إن عصاه أو أسخطه وأوضع في معاصيه ، ثم اتخذ من دونه وليا ، ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا ، يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ، ويخلصه من عذابه - فقد ظن به ظن السوء . وذلك زيادة في بعده من الله ، وفي عذابه . ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته وفي مماته ، وابتلاه بهم لا يفارقونه . فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيته ، وظلموا أهل بيته ، وسلبوهم حقهم ، وأذلوهم ، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائما من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق ، وهو يرى قهرهم لهم ، وغصبهم إياهم حقهم ، وتبديلهم دين نبيهم ، وهو يقدر على نصر أوليائه ، وحزبه وجنده ، ولا ينصرهم ولا يديلهم ، بل يديل أعداءهم [ ص: 1009 ] عليهم أبدا ، أو أنه لا يقدر على ذلك ، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته ، ثم جعل أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حضرته ، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت ( كما تظنه الرافضة ) - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه ، وسواء قالوا : إنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر ، أو أنه غير قادر على ذلك - فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده ، وذلك من ظن السوء به . ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك ، غير محمود عندهم ، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك ، لكن رفوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه ، واستجاروا من الرمضاء بالنار ، فقالوا : لم يكن هذا بمشيئة الله ، ولا له قدرة على دفعه ونصر أوليائه ، فإنه لا يقدر على أفعال عباده ، ولا يدخل تحت قدرته ، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم . وكل مبطل وكافر ومبتدع ومقهور مستذل - فهو يظن بربه هذا الظن ، وإنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه ، فأكثر الخلق ، بل كلهم ، إلا من شاء الله ، يظنون بالله غير الحق وظن السوء . فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ، ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ، ونفسه تشهد عليه بذلك ، وهو بلسانه ينكره ، ولا يتجاسر على التصريح به . ومن فتش نفسه ، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها - رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ، ولو فتشت من فتشـته ، لرأيت عنده تعتبا على القدر ، وملامة له ، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك :
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا
فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت ، من ظنه بربه ظن السوء . وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ، ومنبع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم ، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين ، [ ص: 1010 ] الغني الحميد ، الذي له الغنى التام ، والحمد التام ، والحكمة التامة ، المنزه عن كل سوء ، في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه . فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه ، وصفاته كذلك ، وأفعاله كذلك ، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل . وأسماؤه كلها حسنى . والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله تعالى : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية
ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل بقوله : يقولون هل لنا من الأمر من شيء أي : هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء ، استفهام على سبيل الإنكار . أي : ما لنا أمر يطاع . ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : لو أطاعونا ما قتلوا وذلك أن عبد الله بن أبي لما شاوره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الواقعة ، أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، ثم إن الصحابة ألحوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يخرج إليهم - كما تقدم - . ولما رجع عبد الله بن أبي بمن معه ، وأخبر بكثرة القتلى من بني الخزرج ، قال : هل لنا من الأمر شيء ؟ يعني : أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قولي حين أمرته بأن يبقى في المدينة ولا يخرج منها : قل إن الأمر كله لله أي : التدبير كله لله ، فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له .
قال الإمام ابن القيم - قدس الله روحه - : ليس مقصودهم بقولهم : هل لنا من الأمر من شيء وقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا إثبات القدر ، ورد الأمر كله إلى الله . ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه ، ولما حسن الرد عليهم بقوله : إن الأمر كله لله ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية . ولهذا ، قال غير واحد من المفسرين : إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر ، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تبعا لهم ، ويسمعون منهم ؛ لما أصابهم القتل ، ويكون النصر والظفر [ ص: 1011 ] لهم . فأكذبهم الله - عز وجل - في هذا الظن الباطل ، الذي هو ظن الجاهلية ، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل ، الذين يزعمون ، بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه ، أنهم كانوا قادرين على دفعه ، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء ، فأكذبهم الله بقوله : قل إن الأمر كله لله فلا يكون إلا ما سبق قضاؤه وقدره ، وجرى به علمه وكتابه السابق ، وما شاء الله كان ولا بد ، شاء الناس أم أبوا . وما لم يشأ لم يكن ، شاء الناس أو لم يشاؤوه . وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل ، فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه ، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن ، وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم ، لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد . سواء أن يكون لهم من الأمر شيء أو لم يكن . وهذا من أظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة ، الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاؤه الله ، وأن يشاء ما لا يقع - انتهى - .
يخفون في أنفسهم أي : يضمرون فيها ، أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية : ما لا يبدون لك لكونه لا يرضاه الله تعالى . ثم بين ذلك بعد إجماله فقال : يقولون لو كان لنا من الأمر أي : المسموع . شيء ما قتلنا ها هنا أي : ما غلبنا ، أو ما قتل من قتل منا ، لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو . ولما أخبر تعالى بما أخفوه جهلا منهم ، ظنا أن الحذر يغني من القدر ، أمره تعالى بالرد عليهم بقوله : قل لو كنتم في بيوتكم أي : أجمع رأيكم على أن لا تبرحوا من منازلكم أنتم والمقتولون : لبرز أي : خرج : الذين كتب عليهم القتل في اللوح المحفوظ : إلى مضاجعهم أي : التي قدر الله قتلهم فيها ، ولم يثبتوا في ديارهم ، لأنه يوقع في قلوبهم الخروج إمضاء لقدره وحكمه المحتوم الذي لا يقع خلافه ولا يرد ، لقوله : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة ، حيث لم يقتصر على تحقيق [ ص: 1012 ] نفس القتل ، بل عين مكانه أيضا . وفي التعبير بـ (مضاجعهم ) من إجلالهم وتكريمهم ما لا يخفى على صاحب الذوق السليم وليبتلي الله ما في صدوركم أي : ليعاملكم معاملة الممتحن ، ليستخرج ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق ، ليجعله حجة عليكم ، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانا وتسليما ، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه ؛ وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية ، للإيذان بكثرتها . كأنه قيل : فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلي ... إلخ ، أو لفعل مقدر بعدها ، أي : وللابتلاء المذكور فعل ما فعل ، لا لعدم العناية بأمر المؤمنين . وجعلها عللا لـ ( برز ( يأباه الذوق السليم . فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول ، لا بيان حكمة البروز المفروض - أفاده أبو السعود - ثم ذكر تعالى حكمة أخرى بقوله : وليمحص ما في قلوبكم أي : يخلصه وينقيه ويهذبه ، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع ، وميل النفوس ، وحكم العادة ، وتزيين الشيطان ، واستيلاء الغفلة - ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى . فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ، ولم تتمحص منه ، فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن يقضي لها من المحن والبلاء ، ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء ، إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده ، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك . فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة ، وقتل من قتل منهم ، تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم . فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا . أفاده ابن القيم .
وقال القاشاني : البلاء سوط من سياط الله ، يسوق به عباده إليهم بتصفيتهم عن صفات نفوسهم ، وإظهار ما فيهم من الكمالات ، وانقطاعهم من الخلق إلى الحق . ولهذا كان متوكلا بالأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانا لفضله : « ما أوذي نبي مثل ما أوذيت » . كأنه قال : ما صفي نبي مثل ما صفيت . ولقد أحسن من قال :
[ ص: 1013 ]
لله در النائبات فإنها صدأ اللئام وصيقل الأحرار
إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده .
والله عليم بذات الصدور أي : الضمائر الملازمة لها ، وعد ووعيد . ثم أخبر تعالى عن تولي من تولى من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم ، وأنه بسبب كسبهم بقوله : القول في تأويل قوله تعالى :
[ 155 ] إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم
إن الذين تولوا منكم أي : عن القتال ومقارعة الأبطال : يوم التقى الجمعان أي : جمع المسلمين وجمع المشركين : إنما استزلهم الشيطان أي : حملهم على الزلل بمكر منه . مع وعد الله بالنصر : ببعض ما كسبوا أي : بشؤم بعض ما اكتسبوه من الذنوب ، كترك المركز ، والميل إلى الغنيمة ، مع النهي عنه ، فمنعوا التأييد وقوة القلب . قال ابن القيم : كانت أعمالهم جندا عليهم ازداد بها عدوهم قوة . فإن الأعمال جند للعبد ، وجند عليه ، ولا بد للعبد في كل وقت من سرية من نفسه تهزمه أو تنصره . فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها ، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه . فأعمال العبد تسوقه قسرا إلى مقتضاه من الخير والشر . والعبد لا يشعر ، أو يشعر ويتعامى . ففرار الإنسان من عدوه ، وهو يطيقه ، إنما هو بجند من عمله ، بعثه له الشيطان واستزله به ، ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم بقوله : ولقد عفا الله عنهم أي : بالاعتذار والندم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ، ولا شك أنه كان عارضا عفا الله عنه ، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها : إن الله غفور حليم أي : يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ، ويتجاوز عنهم .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|