
27-06-2022, 08:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 1001 الى صـ 1007
الحلقة (183)
الثاني : أنه مطابق للواقع، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح الذي أصابهم، ثم غم القتل ، ثم غم سماعهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم . وليس المراد غمين اثنين خاصة ، بل غما متتابعا لتمام الابتلاء والامتحان .
الثالث : أن قوله ( بغم ) من تمام الثواب، لا أنه سبب جزاء الثواب . والمعنى : أثابكم غما متصلا بغم، جزاء على ما وقع منكم من الهرب، وإسلامكم نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وترك استجابتكم له وهو يدعوكم، ومخالفتكم له في لزوم مركزكم، وتنازعكم في الأمر وفشلكم . وكل واحد من هذه الأمور يوجب غما يخصه، فترادفت عليهم الغموم، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها . ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرا آخر . ومن لطفه بهم، ورأفته ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم كانت من أمور الطباع، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيض لهم بلطفه أسبابا أخرجها من القوة إلى الفعل، فيترتب عليها آثارها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبة منها، والاحتراز من أمثالها، ودفعها بأضدادها، أمر متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشد حذرا بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها . وربما صحت الأجسام بالعلل .
لطيفة :
لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، ويجوز أيضا استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم : ثاب إليه عقله، أي : رجع إليه . قال تعالى : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس والمرأة تسمى ثـيبا لأن الواطئ عائد إليها . وأصل الثواب كل ما يعود إلى [ ص: 1002 ] الفاعل من جزاء فعله، سواء كان خيرا أو شرا، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير . فإن حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام ، وإن حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم، كما يقال : تحيته الضرب وعتابه السيف، أي : جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب على حد : فبشرهم بعذاب - قاله الرازي - .
تنبيه :
قال المفضل : لا ( زائدة) ، والمعنى : لتتأسفوا على ما فاتكم وعلى ما أصابكم عقوبة لكم، كقوله : ألا تسجد و : لئلا يعلم أي : أن تسجد وليعلم .
وعندي أنه بعيد، لا سيما مع تكرار لا في المعطوف، واستقامة المعنى الجيد على اعتبارها، فالوجه ما سلف .
والله خبير بما تعملون خيرا وشرا، قادر على مجازاتكم، وفيه أعظم زاجر عن [ ص: 1003 ] الإقدام على المعصية . ثم إنه تداركهم سبحانه برحمته، وخفف عنهم ذلك الغم، وغيبه عنهم بالنعاس الذي أنزله عليهم أمنا منه، كما قال : القول في تأويل قوله تعالى :
[ 154 ] ثم أنـزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور
ثم أنـزل عليكم من بعد الغم أمنة أي : أمنا . والأمنة ( بتحريك الميم ) مصدر، يقال : أمن أمنا وأمانا وأمنا وأمنة ( محركتين ) وفي حديث نزول عيسى عليه السلام، [ ص: 1004 ] وتقع الأمنة في الأرض، أي : الأمن . ومثله من المصادر العظمة والغلبة، وهو منصوب على المفعولية . وقوله تعالى : نعاسا بدل من : ( أمنة ) وقيل : هو المفعول، و : أمنة حال أو مفعول له : يغشى طائفة منكم وهم المخلصون، أهل اليقين والثبات والتوكل الصادق، والجازمون بأن الله - عز وجل - سينصر رسوله وينجز له مأموله . والنعاس في حال الحرب دليل على الأمان، كما قال في سورة الأنفال : إذ يغشيكم النعاس أمنة منه الآية .
وروى البخاري في التفسير عن أنس عن أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه . ورواه الترمذي والنسائي والحاكم . ولفظ الترمذي : قال أبو طلحة : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر ، وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس . فذلك قوله تعالى : ثم أنـزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا وقد ساق الرازي لذلك النعاس فوائد :
منها : أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم . وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى - انتهى - . ثم أخبر تعالى أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه ، لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه ، بقوله : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم أي : ما بهم إلا هم أنفسهم وقد [ ص: 1005 ] قصد خلاصها ، فلم يغشهم النعاس من القلق والجزع والخوف : يظنون بالله غير الحق أي : غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه : ظن الجاهلية كما قال تعالى في الآية الأخرى : بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا الآية . وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله ، وهذا شأن أهل الريب والشك ، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة ، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة .
قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وأنه يسلمه للقتل . وفسر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ، ولا حكمة له فيه . ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله ، ويظهره على الدين كله . وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح ، حيث يقول : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا وإنما كان هذا ظن السوء ، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل ، وظن غير الحق ، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وذاته المبرأة من كل سوء . بخلاف ما يليق بحكمته وحمده ، وتفرده بالربوبية والإلهية ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ، ولجنده بأنهم هم الغالبون . فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ، ولا يتم أمره ، ولا يؤيده ويؤيد جنده ، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ، ويظهرهم عليهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل [ ص: 1006 ] الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق ، إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا - فقد ظن بالله السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته . فإن عزته وحكمة إلهيته تأبى ذلك ، ويأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به ، العادلين به - فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ، ولا عرف صفاته وكماله ، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته ، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة ، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها ، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب ، وإن كانت مكروهة له ، فما قدرها سدى ، ولا أنشأها عبثا ، ولا خلقها باطلا : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ، ظن السوء ، فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم . ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته ، وعرف موجب حمده وحكمته . فمن قنط من رحمته ، وأيس من روحه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ، ويسوي بينهم وبين أعدائه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين من الأمر والنهي ولا يرسل إليهم رسله ، ولا ينزل عليهم كتبه ، بل يتركهم هملا كالأنعام فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله ، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد ، وأنه يعاقبه بما لا صنيع له فيه ، ولا اختيار له ، ولا قدرة ولا إرادة في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظن [ ص: 1007 ] أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ، يضلون بها عباده ، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته ، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين ، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين ، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق ، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل ، وترك الحق لم يخبر به ، وإنما رمز إليه رموزا بعيدة ، وأشار إليه إشارات ملغزة ، لم يصرح به ، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل ، ، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه ، وتأويله على غير تأويله ، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة ، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان ، وأحالهم في معرفة أسمائه ، وصفاته على عقولهم وآرائهم ، لا على كتابه ، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم ، مع قدرته أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل ، فلم يفعل ، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان - فقد ظن به ظن السوء . فإنه إن قال إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه - فقد ظن بقدرته العجز . وإن قال : إنه قادر ولم يبين ، وعدل عن البيان ، وعن التصريح بالحق ، إلى ما يوهم ، بل يوقع في الباطل المحال ، والاعتقاد الفاسد - فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء . وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله ، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم . وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال ، وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق ، وهذا من أسوأ الظن بالله .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|