شرح سنن النسائي
- للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
- كتاب الجنائز
(356)
- (باب من قتله بطنه) إلى (باب ضمة القبر وضغطته)
من رحمة الله بهذه الأمة أنه لم يحصر أجر الشهادة بمن قتل في سبيل الله، بل ألحق به المطعون والمبطون والغريق وغيرهم، إلا أنهم لا يشاركونه في أحكام الدنيا، بل يغسلون، ويكفنون، ويصلى عليهم.
من قتله بطنه
شرح حديث: (... ألم يقل رسول الله: من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره؟ ...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من قتله بطنه. أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد عن شعبة أخبرني جامع بن شداد سمعت عبد الله بن يسار قال: (كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً توفي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره؟ فقال الآخر: بلى)].
يقول النسائي: باب من قتله بطنه، المراد من هذه الترجمة هو أن من جملة الشهداء الذين جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم شهداء المبطون، أي: الذي مات بوجع البطن، والذي جاء التعبير عنه في هذا الحديث وفي هذه الترجمة بأنه قتله بطنه، أي: مات بسبب البطن، وقد فسر المبطون بأنه الذي مات بسبب وجع البطن؛ إما إسهال، وإما استسقاء، فهذا وصف بأنه شهيد، وقد جاء في بعض الأحاديث التنصيص بلفظ المطعون والمبطون، المطعون أي: الذي أصابه الطاعون، وقد جاء أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر جماعة من الشهداء، وهم ليسوا شهداء معركة، ولكنهم وصفوا بأنهم شهداء، أي: أن أجرهم أجر الشهداء، وذكر الشهادة إنما هو في الفضل وعلو المنزلة، وليس بمعنى أنه تجري عليهم أحكام الشهداء، فإن الشهداء في المعركة لهم أحكام تخصهم، ولا يلحق بهم أمثال هؤلاء الذين جاء في بعض الأحاديث وصفهم بأنهم شهداء، فإن شهداء المعركة لا يغسلون، ويدفنون في ثيابهم، وبدمائهم، وأما من مات بغير المعركة، ووصف بأنه شهيد فإنه يغسل، ويصلى عليه.
وقد ذكر النووي رحمه الله في كتاب رياض الصالحين جملة من الأحاديث التي فيها ذكر جماعة من الشهداء، فقال: (باب ذكر جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة، ويغسلون، ويصلى عليهم)، يعني: أن وصفهم بأنهم شهداء إنما هو في ثواب الآخرة، وأما بالنسبة للأحكام الدنيوية التي تحصل للشهيد فإنها لا تكون لهم، فلا يدفنون في ثيابهم، ويصلى عليهم، فهؤلاء يدفنون في أكفان، ويكفنون في أكفان غير ثيابهم الذي ماتوا فيها، ويصلى عليهم بخلاف شهداء المعركة فإنهم يدفنون في ثيابهم، وبدمائهم، ولا يغسلون فيزال عنهم أثر الدم؛ لأنه قد جاء في بعض الأحاديث أنه يأتي يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك، فيكون دمه وبقاء دمه على جسده وفي ثيابه شهادة على قتله في سبيل الله، وأنه قاتل في سبيل الله حتى خرجت نفسه.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري، الذين ورد فيهم أحاديث ثابتة في وصفهم بأنهم شهداء، وأشار إليهم، وقال: جملة الذين ورد فيهم أحاديث جيدة تدل على أنهم شهداء، هم كذا، وسماهم، وأشار إلى الأحاديث التي وردت فيهم، والذي معنا في هذه الترجمة هو الذي قتله بطنه، هو واحد من هؤلاء الشهداء الذين هم شهداء في ثواب الآخرة، ولكنهم يغسلون، ويصلى عليهم، ولا تجري عليهم أحكام الشهداء في المعركة من حيث أنهم يدفنون في ثيابهم، ولا يغسلون.
ثم أورد النسائي حديث سليمان بن صرد أو خالد بن عرفطة الذي قال فيه واحد منهما للآخر: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: [(من قتله بطنه لم يعذب في قبره)] فقال الآخر: بلى، أي: أن الحديث ثابت عن كل واحدٍ من هذين الصحابيين؛ لأن واحداً منهم قال: ألم يقل، وهو للتقرير، وذاك أجابه بقوله: بلى، يعني: فكان الحديث عن الصحابيين، فكل واحد من أحدهما قال للآخر هذه المقالة، والثاني صدقه على ما قال، وأيده على ما قال، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(إن من قتله بطنه لم يعذب في قبره)]، فالحديث يدل على أن من قتله بطنه، أو مات بسبب وجع البطن أنه من جملة الشهداء الذين جاء ذكرهم في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفهم بأنهم شهداء.
ثم أيضاً ما جاء في الحديث من ذكر أنهما عند محاورتهما وكلامهما، كلام أحدهما على الآخر، أنهما يشتهيان أن يحضرا جنازته، أي: ذلك الشخص الذي مات بوجع البطن، وأن يشهدا جنازته، وهذا يدل على حرص الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على شهود الجنائز، لا سيما من ورد فيه فضل، وورد فيه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على فضله.
وفيه التذاكر بالعلم، والاستدلال بما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
تراجم رجال إسناد حديث: (... ألم يقل رسول الله: من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره؟ ...)
قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الأعلى].هو الصنعاني البصري، وهو ثقة، أخرج له مسلم، وأبو داود في كتاب القدر، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
[حدثنا خالد].
هو ابن الحارث البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن شعبة].
وهو: ابن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهذه من أعلى صيغ التعديل وأرفعها أن يوصف الشخص بأنه أمير المؤمنين في الحديث، يدل على تمكنه، وعلى علو منزلته، وعلى تقدمه في هذا الفن، وهذا الوصف حصل لجماعة من المحدثين، وهم قليلون، أي الذين وصفوا بهذا الوصف.
[أخبرني جامع بن شداد].
هو جامع بن شداد الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[سمعت عبد الله بن يسار].
هو الكوفي، ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي.
[سليمان بن صرد].
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
[وخالد بن عرفطة].
هو قضاعي صحابي، أخرج حديثه الترمذي، والنسائي.
الشهيد
شرح حديث: (... ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ ...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الشهيد. أخبرنا إبراهيم بن الحسن حدثنا حجاج عن ليث بن سعد عن معاوية بن صالح أن صفوان بن عمرو حدثه عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)].
أورد النسائي هذه الترجمة، وهي الشهيد، وأن الشهيد لا تحصل له فتنة القبر، وأنه كفاه ما حصل له عند خروجه من هذه الحياة، وعند مغادرته هذه الحياة، بخروج نفسه في سبيل الله، وكونه قتل شهيداً في سبيل الله، وأن صبره، وإرخاصه نفسه في هذا السبيل في قتال الأعداء، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم كفى بذلك فتنة، فـالنسائي ذكر الشهيد، وذكر تحته هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد، قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) يعني: أن ما حصل له من قتله في سبيل الله، وكون السيوف تبرق وتلمع على رأسه، وهو صابر محتسب يريد الشهادة أو النصر، ويريد إعلاء كلمة الله، ويريد إدخال الناس في دين الله، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فهو بين أمرين: إما أن يقتل ويكون شهيداً، وإما أن يسلم، ويبقى في هذه مدة؛ المدة التي شاء الله عز وجل، ويحصل بفعله نصرة هذا الدين، والدعوة إلى الخير، والهداية إلى الصراط المستقيم، قال عليه الصلاة والسلام: [(كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)] أي: أن الفتنة التي تحصل في القبر، وهي سؤال الناس في قبورهم، وامتحانهم، واختبارهم أن ذلك يحصل للمقبورين، ولكن الشهيد كفاه دليلاً على إيمانه، وعلى صدق يقينه، وصبره واحتسابه، ورخص خروج نفسه عليه في سبيل الله بحيث جاد بها وقدمها في سبيل الله عز وجل، فخرجت في قتال الأعداء.
وهذا يدلنا على فضل الشهداء، وعلى عظم شأنهم، وعلى قوة إيمانهم، وعلى صبرهم، ويقينهم، وإرخاصهم لأنفسهم في سبيل الله، وكونهم باعوها على الله عز وجل.
تراجم رجال إسناد حديث: (... ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ ...)
قوله: [أخبرنا إبراهيم بن الحسن].هو إبراهيم بن الحسن المصيصي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي.
[حدثنا حجاج].
هو حجاج بن محمد المصيصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
[عن ليث بن سعد].
هو ليث بن سعد المصري الثقة، الفقيه، الإمام المشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
[عن معاوية بن صالح].
هو ابن حدير الحمصي، وهو صدوق، له أوهام، وحديثه أخرجه البخاري في جزء القراءة، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[أن صفوان بن عمرو حدثه].
هو صفوان بن عمرو الحمصي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن راشد بن سعد].
ثقة، كثير الإرسال روى له البخاري في الأدب، وأصحاب السنن الأربعة.
[عن رجل من أصحاب النبي].
هذا النوع يقال له: المبهم، يعني: مثل رجل وامرأة، هذا يقال له: مبهم، أي: لم يسم، وأما إذا سمي، ولكنه احتمل عدة أشخاص فإنه يقال له: المهمل، وهو لا يؤثر في حق أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المجهول منهم في حكم المعلوم، ما دام نص على أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكفيه ذلك شرفاً، وفضلاً، ونبلاً أن ينسب إلى صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال الخطيب: إن العلماء اتفقوا على أنه يحتاج إلى معرفة الرجال وأنه لا بد من معرفة أعيانهم وأشخاصهم إلا الصحابي، فإنه لا يحتاج إلى ذلك، فإن المجهول منهم في حكم المعلوم؛ لأنهم كلهم عدول من تعديل الله عز وجل لهم وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم لهم، ولهذا لا يحتاج الصحابي إلى أن يُذكر شيء فوق كونه صحابي، اللهم إلا أن يَذكر شيئاً يتعلق بكونه شهد بدراً، أو شهد بيعة الرضوان أو ما إلى ذلك من الأشياء التي يحصل فيها تفاضل الصحابة، أما من حيث الاعتماد على ما يأتي عنه، والتعويل على ما يجيء من طريقه فإنه يعول على كل ما يأتي عن طريقهم رضي الله عنهم وأرضاهم، سواء عرفت أسماؤهم وأشخاصهم، أو لم تعرف؛ بأن اكتفي بأن يقال: رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما غير الصحابة فلا بد من معرفتهم، ولا بد من البحث في معرفة أسمائهم وأحوالهم، وما إلى ذلك مما يتعلق بهم، أما الصحابة فلا يحتاجون إلى ذلك؛ لأن إضافتهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام وصحبتهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام كافية عن أن يحتاج معها إلى تعديل المعدلين، وتوثيق الموثقين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
يتبع