
11-06-2022, 10:53 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,097
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 938 الى صـ 944
الحلقة (174)
[ 111 ] لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون
لن يضروكم إلا أذى أي : بألسنتهم لا يبالى به من طعن وتهديد : وإن يقاتلوكم [ ص: 938 ] أي : يوما من الأيام : يولوكم الأدبار يعني منهزمين مخذولين : ثم لا ينصرون يعني لا يكون لهم النصر عليكم ، بل تنصرون عليهم . وقد صدق الله ، ومن أصدق من الله قيلا ؟ لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك . قال ابن كثير : فإنهم يوم خيبر أذلهم الله ، وأرغم أنوفهم ، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، كلهم أذلهم الله . وكذلك النصارى بالشام ، كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين . ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم ، وهم كذلك ، ويحكم بملة الإسلام ، وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام .
لطائف :
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا جزم المعطوف في قوله : ثم لا ينصرون ؟
قلت : عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .
فإن قلت : فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى ؟
قلت : لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم ، كتولية الأدبار ، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعدها بجناح ، ولا يستقيم لهم أمر ، وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر .
فإن قلت : فما الذي عطف عليه هذا الخبر ؟
قلت : جملة الشرط والجزاء . كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون .
فإن قلت : فما معنى التراخي في ثم ؟
[ ص: 939 ] قلت : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .
قال الناصر بن المنير : وهذا من الترقي في الوعد عما هو أدنى إلى ما هو أعلى ، لأنهم وعدوا بتولية عدوهم الأدبار عند المقابلة ، ثم ترقى الوعد إلى ما هو أتم في النجاح من أن هؤلاء لا ينصرون مطلقا ، ويزيد هذا الترقي بدخول ثم دون الواو . فإنها تستعار ههنا للتراخي في الرتبة لا في الوجود ، كأنه قال : ثم ههنا ما هو أعلى في الامتنان ، وأسمح في رتب الإحسان ، وهو أن هؤلاء قوم لا ينصرون البتة - والله أعلم - .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 112 ] ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس أي : أحيط بهم الهوان والصغار كما يحيط البيت المضروب بساكنيه أينما وجدوا ، وقوله : إلا بحبل من الله في محل النصب على الحال بتقدير : إلا معتصمين أو متمسكين أو ملتبسـين بحبل من الله ، وهو استثناء من أعم عام الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ، يعني : ذمة الله وذمة المسلمين ، أي : لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية . كذا في ( الكشاف ) وباءوا بغضب من الله أي : استوجبوه : وضربت عليهم المسكنة أي : الفقر ، ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل : ذلك أي : ضربت المسكنة والذلة والغضب : بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله أي : استكبارا وعتوا : ويقتلون الأنبياء [ ص: 940 ] أي : الآتين من عند الله حقا . ولما كانوا معصومين دينا ودنيا قال : بغير حق أي : يبيح القتل : ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون أي : ضرب الذلة والمسكنة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة ، كما هو معلل بكفرهم وقتلهم الأنبياء ، فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى . وقيل : ذلك إشارة إلى علة العلة ، وهو الكفر والقتل ، أي : حصلا منهم بسبب عصيانهم واعتدائهم ، فإن الإقدام على المعاصي ، والاستهانة بمجاوزة الحدود يهون الكفر . قال الأصفهاني : قال أرباب المعاملات : من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن . ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفرائض ، ومن ابتلي بترك الفرائض وقع في استحقار الشرعية ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر .
قال برهان الدين البقاعي - رحمه الله تعالى - : والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا. وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم ، لأنه قال في السفر الثاني : وقال الله جميع هذه الآيات كلها أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق ولا يكون لك آلهة ، لا تعملن شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق ، وفي الأرض من تحت ، ومما في الماء أسفل الأرض ، لا تسجدن لها ولا تعبدنها ؛ لأني أنا الرب إلهك غيور آخذ الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحباري وحافظي وصاياي - انتهى - .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 113 ] ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون
ليسوا سواء جملة مستأنفة سيقت تمهيدا للثناء على من أقبل على الحق من أهل الكتاب ، وخلع الباطل ولم يراع سلفا ولا خلفا ، وتذكيرا لقوله تعالى : منهم المؤمنون أي : ليس أهل الكتاب متساوين ومتشاركين في المساوئ ، ثم استأنف قوله بيانا لعدم استوائهم : [ ص: 941 ] من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون
في قوله تعالى : قائمة وجوه :
الأول : أنها قائمة في الصلاة ، وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل كقوله تعالى : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما وقوله : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وقوله : قم الليل وقوله : وقوموا لله قانتين
والثاني : أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ، ملازمة له ، غير مضطربة في التمسك به ، كقوله : إلا ما دمت عليه قائما أي : ملازما للاقتضاء ، ثابتا على المطالبة . ومنه [ ص: 942 ] قوله تعالى : قائما بالقسط
الثالث : أنها مستقيمة عادلة من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام ، والآناء : الأوقات ، واحدها ( إنا ) مثل ( معى ) و ( أمعاء ) و ( إنى ) مثل ( نحى ) و ( أنحاء ) وقوله تعالى : وهم يسجدون جملة مستقلة مستأنفة ، وليست حالا من فاعل : يتلون لما صح في السـنة من النهي عن التلاوة في السجود ، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إلا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا ، فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم » . فمعنى الآية أنهم يقومون تارة ويسجدون أخرى ، يبتغون الفضل والرحمة كقوله تعالى : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما وقوله : أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ويحتمل أن يكون المعنى : وهم يصلون ، والصلاة تسمى سجودا وسجدة كما تسمى ركوعا وركعة وتسبيحا وتسبيحة . وعليه فالجملة يجوز فيها الوجهان ، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وتأكيده . ثم وصفهم تعالى بصفات أخر ، مبينة لمباينتهم اليهود من جهة أخرى ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 114 ] يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين
يؤمنون بالله واليوم الآخر أي : على الوجه الذي نطق به الشرع . وظاهر أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله . والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من [ ص: 943 ] المعاصي ، وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ، ولا يحترزون عن معاصي الله ، فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر تعريض بمداهنة اليهود في الاحتساب ، بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناس وصدهم عن سبيل الله ، فإنه أمر بالمنكر ونهي عن المعروف ، وقوله تعالى : ويسارعون في الخيرات صفة أخرى جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير . والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه . وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها ، بل بمبادرتهم إلى الشرور : وأولئك أي : المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة : من الصالحين أي : من عداد من صلحت أحوالهم عند الله تعالى واستحقوا رضاه ، والوصف بالصلاح دال على أكمل الدرجات . فهو غاية المدح ، ولذا وصفت به الأنبياء في التنزيل : القول في تأويل قوله تعالى :
[ 115 ] وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين
وما يفعلوا من خير فلن يكفروه أي : لن يعدموا ثوابه . وإيثار صيغة المجهول للجري على سنن الكبرياء . وقرئ الفعلان بالخطاب : والله عليم بالمتقين فيوفيهم أجورهم وهؤلاء الموصوفون هم المذكورون في آخر السورة وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنـزل إليكم وما أنـزل إليهم خاشعين لله الآية .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|