
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (2)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 214الى صــ 219
الحلقة (102)
قلت : هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم ، إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا ، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمر رحمه الله ، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة . وقد روى أبو داود عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل . وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة . قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم وذكر من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق ، فقال : من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه . قال فيه : حديث حسن . وفي [ ص: 214 ] حديث عمر رضي الله عنه : إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا . قال أبو عبيد قال أبو عمر : وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء ، فإن حملته بين يديك فهو ثبان ، يقال : قد تثبنت ثبانا ، فإن حملته على ظهرك فهو الحال ، يقال منه : قد تحولت كسائي إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك ، فإن جعلته في حضنك فهو خبنة ، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع ولا يتخذ خبنة . يقال منه : خبنت أخبن خبنا . قال أبو عبيد : وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شيء معه يشتري به ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته .
قلت : لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه ، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام ، أو كما هو الآن في بعض البلدان ، فذلك جائز ، ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة ، كما تقدم والله أعلم .
وإن كان الثاني وهو النادر في وقت من الأوقات ، فاختلف العلماء فيها على قولين : أحدهما : أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع ، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر ، وإذا وجد عنها غنى طرحها . قال معناه مالك في موطئه ، وبه قال الشافعي وكثير من العلماء ، والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده ، وحديث العنبر نص في ذلك ، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا من سفرهم وقد ذهب عنهم الزاد ، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم ، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر ، فقال أبو عبيدة أميرهم : ميتة . ثم قال : لا ، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم فكلوا . قال : فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا ، الحديث ، فأكلوا وشبعوا - رضوان الله عليهم - مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة ، وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حلال وقال : هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ، وقالت طائفة . يأكل بقدر سد الرمق . وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا : المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه ، والمسافر يتضلع ويتزود : فإذا وجد غنى عنها طرحها ، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا ، فإن الميتة لا يجوز بيعها .
الرابعة والعشرون : فإن اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف ، وإن كان [ ص: 215 ] بجوع أو عطش فلا يشرب ، وبه قال مالك في العتبية قال : ولا يزيده الخمر إلا عطشا . وهو قول الشافعي ، فإن الله تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا ، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة ، وقال الأبهري : إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها ; لأن الله تعالى قال في الخنزير فإنه رجس ثم أباحه للضرورة ، وقال تعالى في الخمر إنها رجس فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس ، ولا بد أن تروي ولو ساعة ، وترد الجوع ولو مدة .
الخامسة والعشرون : روى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال : يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر ، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل - وقاله ابن وهب - ويشرب البول ولا يشرب الخمر ; لأن الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ . نص عليه أصحاب الشافعي .
السادسة والعشرون : فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا ، فقيل : لا ، مخافة أن يدعي ذلك ، وأجاز ذلك ابن حبيب ; لأنها حالة ضرورة . ابن العربي : " أما الغاص بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى ، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها ، فيصدق إذا ظهر ذلك ، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا ، ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولحم ابن آدم أكل الميتة ; لأنها حلال في حال ، والخنزير وابن آدم لا يحل بحال ، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل ، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية ، وطئ الأجنبية لأنها تحل له بحال ، وهذا هو الضابط لهذه الأحكام ، ولا يأكل ابن آدم ولو مات ، قاله علماؤنا ، وبه قال أحمد وداود . احتج أحمد بقوله عليه السلام : كسر عظم الميت ككسره حيا ، وقال الشافعي : يأكل لحم ابن آدم ، ولا يجوز له أن يقتل ذميا لأنه محترم الدم ، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير ، فإن كان حربيا أو زانيا محصنا جاز قتله والأكل منه ، وشنع داود على المزني بأن قال : قد أبحت أكل لحوم الأنبياء فغلب عليه ابن شريح بأن قال : فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل الكافر . قال ابن العربي : الصحيح عندي ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه ، والله أعلم .
[ ص: 216 ] السابعة والعشرون : سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما ، فقال : إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا ويصدق في قوله ، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا ، وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى ، وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي ، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة .
الثامنة والعشرون : روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال رجل : إن ناقة لي ضلت فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت ، فقالت امرأته : انحرها ، فأبى فنفقت ، فقالت : اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله ، فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله ، فقال : هل عندك غنى يغنيك قال لا ، قال : فكلوها قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها فقال : استحييت منك . قال ابن خويز منداد : في هذا الحديث دليلان : أحدهما : أن المضطر يأكل من الميتة وإن لم يخف التلف ، لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه ، والثاني : يأكل ويشبع ويدخر ويتزود ; لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع . قال أبو داود : وحدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا الفضل بن دكين قال أنبأنا عقبة بن وهب بن عقبة العامري قال : سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما يحل لنا الميتة ؟ قال : ما طعامكم قلنا : نغتبق ونصطبح . قال أبو نعيم : فسره لي عقبة : قدح غدوة وقدح عشية قال : ذاك وأبي الجوع . قال : فأحل لهم الميتة على هذه الحال . قال أبو داود : الغبوق من آخر النهار والصبوح من أول النهار ، وقال الخطابي : الغبوق العشاء ، والصبوح الغداء ، والقدح من اللبن بالغداة ، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس ، وإن كان لا يغذي البدن ولا يشبع الشبع التام ، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة ، فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت . وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي . قال ابن خويز منداد : إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا ويتزودوا ، وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر : لا يجوز له أن يتناول من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه ، وإليه ذهب المزني . قالوا : لأنه لو كان في الابتداء بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا ، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها ، وروي [ ص: 217 ] نحوه عن الحسن . وقال قتادة : لا يتضلع منها بشيء ، وقال مقاتل بن حيان : لا يزداد على ثلاث لقم ، والصحيح خلاف هذا ، كما تقدم .
التاسعة والعشرون : وأما التداوي بها فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة ، فإن تغيرت بالإحراق فقال ابن حبيب : يجوز التداوي بها والصلاة ، وخففه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات ، وفي العتبية من رواية مالك في المرتك يصنع من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله . وإن كانت الميتة قائمة بعينها فقد قال سحنون : لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير ; لأن منها عوضا حلالا بخلاف المجاعة ، ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل ، وكذلك الخمر لا يتداوى بها ، قاله مالك ، وهو ظاهر مذهب الشافعي ، وهو اختيار ابن أبي هريرة من أصحابه ، وقال أبو حنيفة : يجوز شربها للتداوي دون العطش ، وهو اختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي ، وهو قول الثوري ، وقال بعض البغداديين من الشافعية : يجوز شربها للعطش دون التداوي ، لأن ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي ، وقيل : يجوز شربها للأمرين جميعا ، ومنع بعض أصحاب الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة ، لحديث العرنيين ، ومنع بعضهم التداوي بكل محرم ، لقوله عليه السلام : إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم ، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال ، إنما أصنعها للدواء ، فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء . رواه مسلم في الصحيح ، وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار ، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه ، والله أعلم .
الموفية ثلاثين : غير باغ غير نصب على الحال ، وقيل : على [ ص: 218 ] الاستثناء ، وإذا رأيت غير يصلح في موضعه " في " فهي حال ، وإذا صلح موضعها " إلا " فهي استثناء ، فقس عليه . وباغ أصله باغي ، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن ، فحذفت الياء والكسرة تدل عليها ، والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة غير باغ في أكله فوق حاجته ، ولا عاد بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها وقال السدي : غير باغ في أكلها شهوة وتلذذا ، ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع ، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما : المعنى غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم ، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله ، وهذا صحيح ، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد ، يقال : بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت ، قال الله تعالى : ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد . والعرب تقول : خرج الرجل في بغاء إبل له ، أي في طلبها ، ومنه قول الشاعر :
إن الأشائم كالأيا من والأيامن كالأشائم
الحادية والثلاثون : قوله تعالى : ولا عاد أصل عاد عائد ، فهو من المقلوب ، كشاكي السلاح وهار ولاث ، والأصل شائك وهائر ولائث ، من لثت العمامة ، فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات كما بينا ، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم .
الثانية والثلاثون : واختلف العلماء إذا اقترن بضرورته معصية بقطع طريق وإخافة سبيل ، فحظرها عليه مالك والشافعي في أحد قوليه لأجل معصيته ; لأن الله سبحانه أباح ذلك عونا ، والعاصي لا يحل أن يعان ، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل . وأباحها له أبو حنيفة والشافعي في القول الآخر له ، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته . قال ابن العربي : وعجبا ممن يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية ، وما أظن أحدا يقوله ، فإن قاله فهو مخطئ قطعا .
قلت : الصحيح خلاف هذا ، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه ، قال الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم وهذا عام ، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان ، وقد قال مسروق : من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار ، إلا أن يعفو الله عنه . قال أبو الحسن الطبري المعروف بإلكيا : وليس [ ص: 219 ] أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة ، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا ، وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا ، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا ، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء . قال : وهو الصحيح عندنا .
قلت : واختلفت الروايات عن مالك في ذلك ، فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى : أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية ولا يجوز له القصر والفطر وقال ابن خويز منداد : فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء ; لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر ، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما ، وليس كذلك الفطر والقصر ; لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر ، فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر فيه ، لأن هذه الرخصة تختص بالسفر ، ولذلك قلنا : إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر المعصية ; لأن التيمم في الحضر والسفر سواء . وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم لأجل معصية ارتكبها ، وفي تركه الأكل تلف نفسه ، وتلك أكبر المعاصي ، وفي تركه التيمم إضاعة للصلاة . أيجوز أن يقال له : ارتكبت معصية فارتكب أخرى ؟ أيجوز أن يقال لشارب الخمر : ازن ؟ وللزاني : اكفر ؟ أو يقال لهما : ضيعا الصلاة ؟ ذكر هذا كله في أحكام القرآن له ، ولم يذكر خلافا عن مالك ولا عن أحد من أصحابه . وقال الباجي : " وروى زياد بن عبد الرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة ، ويفطر في رمضان ، فسوى بين ذلك كله ، وهو قول أبي حنيفة ، ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن الأكل ، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب ، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه الفروض والواجبات من الصيام والصلاة ، بل يلزمه الإتيان بها ، فكذلك ما ذكرناه . وجه القول الأول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الأسفار لحاجة الناس إليها ، فلا يباح له أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه . قال ابن حبيب : وذلك بأن يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته ، وتعلق ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى : فمن اضطر غير باغ ولا عاد فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا ، والمسافر على وجه الحرابة أو القطع ، أو في قطع رحم أو طالب إثم - باغ ومعتد ، فلم توجد فيه شروط الإباحة ، والله أعلم .
قلت : هذا استدلال بمفهوم الخطاب ، وهو مختلف فيه بين الأصوليين ، ومنظوم الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد لا إثم عليه ، وغيره مسكوت عنه ، والأصل عموم الخطاب ، فمن ادعى زواله لأمر ما فعليه الدليل .
