
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (297)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 166 إلى صـ 172
قوله تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وهب لإبراهيم ابنه إسحاق ، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وأنه جعل الجميع صالحين . وقد أوضح البشارة بهما في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] وقوله : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] وقد أشار تعالى في سورة " مريم " إلى أنه لما هجر الوطن والأقارب عوضه الله من ذلك قرة العين بالذرية الصالحة ، وذلك في قوله : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا [ 19 \ 49 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة : نافلة قال فيه ابن كثير : قال عطاء ومجاهد : نافلة : عطية . وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحكم بن عتيبة : النافلة : ولد الولد ، يعني أن [ ص: 166 ] يعقوب ولد إسحاق .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أصل النافلة في اللغة : الزيادة على الأصل ، ومنه النوافل في العبادات ؛ لأنها زيادات على الأصل الذي هو الفرض ، وولد الولد زيادة على الأصل الذي هو ولد الصلب ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :
فإن تك أنثى من معد كريمة علينا فقد أعطيت نافلة الفضل
أي أعطيت الفضل عليها ، والزيادة في الكرامة علينا ، كما هو التحقيق في معنى بيت أبي ذؤيب هذا ، وكما شرحه به أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري في شرحه لأشعار الهذليين . وبه تعلم أن إيراد صاحب اللسان بيت أبي ذؤيب المذكور مستشهدا به لأن النافلة الغنيمة - غير صواب ، بل هو غلط . مع أن الأنفال التي هي الغنائم راجعة في المعنى إلى معنى الزيادة ؛ لأنها زيادة تكريم أكرم الله بها هذا النبي الكريم فأحلها له ولأمته . أو لأن الأموال المغنومة أموال أخذوها زيادة على أموالهم الأصلية بلا ثمن .
وقوله : نافلة فيه وجهان من الإعراب ، فعلى قول من قال : النافلة العطية فهو ما ناب عن المطلق من " وهبنا " أي : وهبنا له إسحاق ويعقوب هبة . وعليه النافلة مصدر جاء بصيغة اسم الفاعل كالعاقبة والعافية . وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من " يعقوب " أي : وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق .
قوله تعالى : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين .
الضمير في قوله : جعلناهم يشمل كل المذكورين إبراهيم ، ولوطا ، وإسحاق ، ويعقوب ، كما جزم به أبو حيان في البحر المحيط ، وهو الظاهر .
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الله جعل إسحاق ويعقوب من الأئمة ، أي جعلهم رؤساء في الدين يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات . وقوله بأمرنا أي : بما أنزلنا عليهم من الوحي ، والأمر ، والنهي ، أو يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم ، بإرشاد الخلق ودعائهم إلى التوحيد .
وهذه الآية الكريمة تبين أن طلب إبراهيم الإمامة لذريته المذكور في سورة " البقرة " أجابه فيه بالنسبة إلى بعض ذريته دون بعضها ، وضابط ذلك أن الظالمين من ذريته لا ينالون الإمامة بخلاف غيرهم كإسحاق ويعقوب ، فإنهم ينالونها كما صرح به تعالى [ ص: 167 ] في قوله هنا : وجعلناهم أئمة [ 21 ] وطلب إبراهيم هو المذكور في قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] فقوله : ومن ذريتي أي : واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم في الخير . فأجابه الله بقوله : لا ينال عهدي الظالمين أي : لا ينال الظالمين عهدي بالإمامة ، على الأصوب . ومفهوم قوله : الظالمين أن غيرهم يناله عهده بالإمامة كما صرح به هنا . وهذا التفصيل المذكور في ذرية إبراهيم أشار له تعالى في " الصافات " بقوله : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأوحينا إليهم فعل الخيرات [ 21 ] أي : أن يفعلوا الطاعات ، ويأمروا الناس بفعلها . وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من جملة الخيرات ، فهو من عطف الخاص على العام . وقد قدمنا مرارا النكتة البلاغية المسوغة للإطناب في عطف الخاص على العام ، وعكسه في القرآن ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وقوله : وكانوا لنا عابدين أي : مطيعين باجتناب النواهي وامتثال الأوامر بإخلاص ، فهم يفعلون ما يأمرون الناس به ، ويجتنبون ما ينهونهم عنه كما قال نبي الله شعيب : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ 11 \ 88 ] .
وقوله : أئمة معلوم أنه جمع إمام ، والإمام : هو المقتدى به ، ويطلق في الخير كما هنا ، وفي الشر كما في قوله : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار [ 28 \ 41 ] وما ظنه الزمخشري من الإشكال في هذه الآية ليس بواقع كما نبه عليه أبو حيان . والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإقام الصلاة لم تعوض هنا تاء عن العين الساقطة بالاعتلال على القاعدة التصريفية المشهورة ؛ لأن عدم تعويضها عنه جائز كما هنا ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :
. . . . . . . . . . وألف الإفعال واستفعال أزل لذا الإعلال ، والتا الزم عوض
وحذفها بالنقل ربما عرض
وقد أشار في أبنية المصادر إلى أن تعويض التاء المذكورة من العين هو الغالب بقوله :
واستعذ استعاذة ثم أقم إقامة وغالبا ذا التا لزم
وما ذكره من أن التاء المذكورة عوض عن العين أجود من قول من قال : إن العين [ ص: 168 ] باقية وهي الألف الباقية ، وأن التاء عوض عن ألف الإفعال .
قوله تعالى : ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .
قوله : ولوطا [ 21 ] منصوب بفعل مضمر وجوبا يفسره آتيناه كما قال في الخلاصة :
فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا قال القرطبي في تفسير هذه الآية : الحكم : النبوة . والعلم : المعرفة بأمر الدين ، وما يقع به الحكم بين الخصوم . وقيل : علما : فهما . وقال الزمخشري : حكما : حكمة ، وهو ما يجب فعله ، أو فصلا بين الخصوم ، وقيل : هو النبوة .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أصل الحكم في اللغة : المنع كما هو معروف . فمعنى الآيات أن الله آتاه من النبوة والعلم ما يمنع أقواله وأفعاله من أن يعتريها الخلل . والقرية التي كانت تعمل الخبائث هي سدوم وأعمالها ، والخبائث التي كانت تعملها جاءت موضحة في آيات من كتاب الله :
منها : اللواط ، وأنهم هم أول من فعله من الناس ، كما قال تعالى : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين [ 7 \ 80 ] وقال : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] ومن الخبائث المذكورة إتيانهم المنكر في ناديهم ، وقطعهم الطريق ، كما قال تعالى : أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر الآية [ 29 \ 29 ] . ومن أعظم خبائثهم : تكذيب نبي الله لوط ، وتهديدهم له بالإخراج من الوطن كما قال تعالى عنهم : قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين [ 26 \ 167 ] وقال تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ 27 \ 56 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد بين الله في مواضع متعددة من كتابه أنه أهلكهم فقلب بهم بلدهم ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، كما قال تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 ] والآيات بنحو ذلك كثيرة . والخبائث : جمع خبيثة ، وهي الفعلة السيئة ، كالكفر واللواط ، وما جرى مجرى ذلك .
[ ص: 169 ] وقوله : قوم سوء أي : أصحاب عمل سيئ ، ولهم عند الله جزاء يسوءهم ، وقوله : فاسقين أي : خارجين عن طاعة الله . وقوله : وأدخلناه يعني لوطا في رحمتنا شامل لنجاته من عذابهم الذي أصابهم ، وشامل لإدخاله إياه في رحمته التي هي الجنة ، كما في الحديث الصحيح : " تحاجت النار والجنة " . الحديث . وفيه : " فقال للجنة : أنت رحمتي أرحم بها من أشاء من عبادي " .
قوله تعالى : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين .
قوله : ونوحا منصوب بـ " اذكر " مقدرا ، أي : واذكر نوحا حين نادى من قبل ، أي : من قبل إبراهيم ومن ذكر معه . ونداء نوح هذا المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين [ 37 - 77 ] وقد أوضح الله هذا النداء بقوله : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 26 - 27 ] وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر [ 54 \ 9 - 11 ] والمراد بالكرب العظيم في الآية : الغرق بالطوفان الذي تتلاطم أمواجه كأنها الجبال العظام ، كما قال تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال [ 11 \ 42 ] وقال تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة الآية [ 29 \ 15 ] إلى غير ذلك من الآيات . والكرب : هو أقصى الغم ، والأخذ بالنفس .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فنجيناه وأهله يعني إلا من سبق عليه القول من أهله بالهلاك مع الكفرة الهالكين ، كما قال تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول [ 11 \ 40 ] ومن سبق عليه القول منهم : ابنه المذكور في قوله : وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ 11 \ 43 ] وامرأته المذكورة في قوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح إلى قوله : ادخلا النار مع الداخلين . [ 66 \ 10 ] .
قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما .
[ ص: 170 ] قوله تعالى : وداود [ 21 \ 78 ] منصوب بـ " اذكر " مقدرا . وقيل : معطوف قوله : ونوحا إذ نادى من قبل [ 21 ] أي : واذكر نوحا إذا نادى من قبل وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية
وقوله : إذ بدل من " داود وسليمان " بدل اشتمال كما أوضحنا في سورة " مريم " وذكرنا بعض المناقشة فيه ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . وذكرنا في هذا الكتاب مسائل كثيرة من ذلك . فإذا علمت ذلك فاعلم أن جماعة من العلماء قالوا : إن حكم داود وسليمان في الحرث المذكور في هذه الآية كان بوحي ، إلا أن ما أوحي إلى سليمان كان ناسخا لما أوحي إلى داود .
وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي ، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده وإصابته ، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده ، ولم يستوجب لوما ولا ذما بعدم إصابته . كما أثنى على سليمان بالإصابة في قوله : ففهمناها سليمان [ 21 \ 79 ] وأثنى عليهما في قوله : وكلا آتينا حكما وعلما [ 21 \ 78 ] فدل قوله : إذ يحكمان على أنهما حكما فيها معا كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر ، ولو كان وحيا لما ساغ الخلاف . ثم قال : ففهمناها سليمان فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود ، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهما إياها كما ترى . فقوله : إذ يحكمان مع قوله : ففهمناها سليمان قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد ، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك .
والقرينة الثانية هي أن قوله تعالى : ففهمناها يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع . لا أنه أنزل عليه فيها وحيا جديدا ناسخا ؛ لأن قوله تعالى : ففهمناها أليق بالأول من الثاني كما ترى .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى :
اعلم أن هذا الذي ذكرنا أن القرينة تدل عليه في هذه الآية من أنهما حكما فيها باجتهاد ، وأن سليمان أصاب في اجتهاده - جاءت السنة الصحيحة بوقوع مثله منهما في غير هذه المسألة . فدل ذلك على إمكانه في هذه المسألة ، وقد دلت القرينة القرآنية على [ ص: 171 ] وقوعه ، قال البخاري في صحيحه ( باب إذا ادعت المرأة ابنا ) حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت لصاحبتها : إنما ذهب بابنك . فقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك . فتحاكمتا إلى داود عليه السلام ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما . فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله هو ابنها . فقضى به للصغرى . قال أبو هريرة : والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ ، وما كنا نقول إلا المدية " انتهى من صحيح البخاري . وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثني شبابة ، حدثني ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما . فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بابنك أنت . وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى : لا ، يرحمك الله " انتهى منه فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أنهما قضيا معا بالاجتهاد في شأن الولد المذكور ، وأن سليمان أصاب في ذلك ، إذ لو كان قضاء داود بوحي لما جاز نقضه بحال . وقضاء سليمان واضح أنه ليس بوحي ؛ لأنه أوهم المرأتين أنه يشقه بالسكين ؛ ليعرف أمه بالشفقة عليه ، ويعرف الكاذبة برضاها بشقه لتشاركها أمه في المصيبة فعرف الحق بذلك . وهذا شبيه جدا بما دلت عليه الآية حسبما ذكرنا وبينا دلالة القرينة القرآنية عليه . ومما يشبه ذلك من قضائهما القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان - عليه السلام - من تاريخه ، من طريق الحسن بن سفيان ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، وعن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، فذكر قصة مطولة ، ملخصها أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم ، فامتنعت على كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها . فشهدوا عند داود - عليه السلام - أنها مكنت من نفسها كلبا لها ، قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها ، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله ، فانتصب حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك وآخر بزي المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا ، فقال سليمان : فرقوا بينهم . فسأل أولهم : ما كان لون الكلب ؟ فقال : أسود ، فعزله . واستدعى الآخر فسأله عن لونه ؟ فقال : أحمر . وقال [ ص: 172 ] الآخر : أغبش . وقال الآخر : أبيض ، فأمر عند ذلك بقتلهم ، فحكي ذلك لداود عليه السلام ، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب فاختلفوا عليه ، فأمر بقتلهم . انتهى بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة . وكل هذا مما يدل على صحة ما فسرنا به الآية ؛ لدلالة القرينة القرآنية عليه . وممن فسرها بذلك الحسن البصري كما ذكره البخاري وغيره عنه . قال البخاري رحمه الله في صحيحه ، باب متى يستوجب الرجل القضاء : وقال الحسن : أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ، ولا يخشوا الناس ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا [ 2 \ 41 ] إلى أن قال - وقرأ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ 21 \ 78 - 79 ] فحمد سليمان ولم يلم داود . ولولا ما ذكره الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده . انتهى محل الغرض منه . وبه تعلم أن الحسن يرى أن معنى الآية الكريمة كما ذكرنا ، ويزيد هذا إيضاحا ما قدمناه في سورة " بني إسرائيل " من الحديث المتفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة - رضي الله عنهما - إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر كما قدمنا إيضاحه .
المسألة الثانية :
اعلم أن الاجتهاد في الأحكام في الشرع دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة ، منها هذا الذي ذكرنا هنا . وقد قدمنا في سورة بني " إسرائيل " طرفا من ذلك ، ووعدنا بذكره مستوفى في هذه السورة الكريمة وسورة الحشر ، وهذا أوان الوفاء بذلك الوعد في هذه السورة الكريمة . وقد علمت مما مر في سورة " بني إسرائيل " أنا ذكرنا طرفا من الأدلة على الاجتهاد فبينا إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ، وهو تنقيح المناط . وأوضحنا أنه لا ينكره إلا مكابر ، وبينا الإجماع أيضا على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بتحقيق المناط ، وأنه لا ينكره إلا مكابر ، وذكرنا أمثلة له في الكتاب والسنة ، وذكرنا أحاديث دالة على الاجتهاد ، منها الحديث المتفق عليه المتقدم ، ومنها حديث معاذ حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، وقد وعدنا بأن نذكر طرقه هنا إلى آخر ما ذكرنا هناك .
