عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 29-05-2022, 07:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي وقفات مع سورة القصص

وقفات مع سورة القصص
سيد ولد عيسى


تُمثل سورة القصص نموذجًا من نماذج الصراع بين الحق والباطل، نموذجًا خاصًّا خاليًا من أي مواجهة عسكرية بين الحق والباطل، نظرًا لضعف الحق في تلك الفترة، وهي بذلك تمثِّل بقصصها وتعقيباتها تسليةً مناسبةً للنبي صلى الله عليه وسلم في فترة مكة، وتطرَح قواعدَ كلية حرية بالتوقف والنظر والاعتبار.

والسورة تتألف من مقدمة وخاتمة يفصل بينهما متن السورة.

تبيِّن المقدمة واقع فرعون وغطرسته، وهو يسيطر على بني إسرائيل ويستكرههم ظلمًا وبغيًا وفسادًا وعدوانًا، ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4]، ويبيِّن القرآن في مقدمة هذه السورة أن إرادة الله تتجه إلى زوال هذا الظلم إلى الأبد، وإلى استخلاف المستضعفين في الأرض، وجعلهم الأئمة والورثة، والتمكين لهم في الأرض، وإراءة المتغطرسين في المستضعفين ما يَحذرون: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 5] [1].

وفي متن السورة قصتان يفصِل بينهما تعقيبٌ طويل نسبيًّا، يراعي ظروف تنزُّل السورة، والسياق الزماني للمخاطبين الأولين بها.

أما القصة الأولى، فقصة موسى وفرعون، وهي قصة حرية بالاعتبار والتوقف، وقد أكثر القرآن من ذكرها لما فيها من العبر.

وهي في هذه السورة تتألف من ثلاث مراحل مرحلة الطفولة، ومرحلة الرجولة، ومرحلة النبوة والرسالة[2].

تبدأ القصةُ ببيان إرادة الله في نجاة موسى من فرعون في العام الذي يَقتُل فيه الأبناء، وكيف دبَّر الله له ولأمه ما جعله يعيش في كنَف فرعون، وتحت رعاية فرعون، وكيف أصبحت أم موسى مأجورة على إرضاع ابنها والعناية به[3].

وكيف سخَّر الله امرأة فرعون للأمر ترشد، وتبيِّن المصلحة في إبقاء موسى: ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9].

والآيات تقتصر مِن ذكر طفولة موسى على هذا القدر، وكأنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت قريش قد واجهتك بعدما شبَّت، وكادوا لك بعدما كبرت، فإن الله قد أنجى أخاك موسى وقد بدأ الكيد له قبل ميلاده، فكل مآسي بني إسرائيل من قتل الأبناء كانت بسبب الخوف من موسى[4]، فكما أنجاه ربه، وهو بين أنياب فرعون، فربك قادرٌ على التمكين لك وأنت رجل قد بلغت الأربعين، وما يتهدَّدك ليس بملك مطاعٍ، ولا بفرعونٍ مدَّعٍ للألوهية[5] والربوبية[6].

ثم يبدأ المقطع الثاني من قصة موسى ببداية ظهور موسى رجلًا ينصُر المظلومين، ويعين المحتاجين، كما أنها لمحة مهمة في الربانية؛ حيث تبيَّن لنا أول تصريحات موسى الربانية: ﴿ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴾ [القصص: 15]، ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ﴾ [القصص: 16]، ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17].

وهذه الكتلة من الربانية مهمٌّ ظهورها في هذه اللحظة؛ إذ هي نتاج عناية إلهية سابقة، وتربية إيمانية قوية، فلو لم تكن عند موسى هذه التربية وقد سبقت له العناية لاستساغ قتل القبطي بسهولة باعتبار عموم الأقباط ظلمة، ولكن الحقيقة التربوية العميقة أن الأقباط قوم مستخفون[7] مظلومون في زي ظالمين، وأن موسى لم يكلف بالقتل[8]، فلا يحق له مهما كان أولئك ظالمون أن يقتُلَهم، وكأنه أدرك ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128].

قتل موسى النفس الأولى بوكزة، ثم تاب فتاب الله عليه، ثم لم يقتل النفس الأخرى، وذلك من تمام توبته، ولَما علم أن القوم يأتمرون به ليقتلوه، خرج إلى مدين يستعين بربانيَّته التي لم يخدشها عمرُه الطويل مع فرعون: ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21]، ﴿ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [القصص: 22]، وهي ربانية اقتضت منه أمرين:
نصرة المستضعفين، وقد قطع على نفسه عهدًا بها: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17].

وعون المحتاجين[9]، وقد طبقه عمليا، حين اختار كشف سبب انزواء المرأتين، وعونهما على التعرف على ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُامْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ [القصص: 23]، وهو في كل ذلك يجدد علاقته بالله ويتقوى به، ويُظهر له افتقاره إليه: ﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24].

كانت قصة العون هذه فاتحة للخير على موسى، وكثيرًا ما وقَتْ مصانعُ المعروف مصارعَ السوء[10]، فجاء العرض على موسى بمجازاته على خدمته، ورغم إخلاصه فيما فعل أولًا، فإنه لم يرفض العرض، ولم ير الجزاء خادشًا في أصل العمل المخلَص[11]، فجاء والدَ المرأتين، وقص عليه القصص، ولقي منه التأمين، وجاء اقتراح إحدى المرأتين باستئجاره بناء على معطيات هي: القوة والأمانة.

ولا شك أن ملاحظة هاتين الميزتين يحتاج نباهة واضح أن المقترحة تحوز على القدر الكافي منها، فقدرته على السقي مصداق قوته، وعفَّته عنهما وعن غنمهما مصداق أمانته، فهي شهدت بما علِمت، وقدمت معلومات مهمة، وهو أمرٌ حري بالمؤمنين الانتباه له، وكشف معادن الناس من أول لقاء، والشهادة لهم بما يُعلم مصداقه، ويرى أثره دون إسراف ولا تقتير.

واستمر العقد على رعاية الغنم، وهي مهمة تواتر الأنبياء على القيام بها لِما بين قيادة الأمم ورعاية الشاء من الشبه، ومارَس خاتمهم صلى الله عليه وسلم هذه المهمة، فكان صلى الله عليه وسلم يرعى لقريش الغنم على قراريط[12].

وانتهت مهمة موسى بإكماله ما يليق به من الأجلين[13]، (ولا شك أن التعامل كان سمحًا)[14]، فسار بأهله، وهو لا يعرف الطريق[15] والجو بارد[16]، والأخبار قليلة[17]، فأبصر نارًا، واتجه إليها بحثًا عن شهاب قبس، أو خبر، أو هدى، فكان على ميعاد مع الله مقدَّر أزلًا.

ثم أُرسِل من تلك اللحظة لفرعون، ورغم جلالة الموقف فإنه لم يخجل من بيان حاله: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴾ [القصص: 33، 34]، فأمنه الله مما يخاف[18]، وأكرمه بإرسال أخيه معه.

ولقِي تدريبًا على الآيات المخيفة التي جاء يحملها لفرعون، حتى اطمأنَّ إلى عصاه ويده، وتعود على أمرهما، فلا يفاجئانه[19]، وهو أمرٌ مهم لكل موجَّهٍ إلى مهمة صعبة أن يُلقَّى عليها نوعَ تدريبٍ؛ لكي لا تثقل عليه، أو يفشل فيها عند الحاجة إلى النجاح والثبات، ولهذا الغرض جاءت قصص الأنبياء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ ﴾ [هود: 120].

وسورة القصص بسطَت طفولة موسى وفُتوَّته على نحو لم يكد يرِد في أي سورة أخرى[20]، ولكنها طوت عمومَ ما كان بين موسى وفرعون طيًّا، وبيَّنت فقط قوة فرعون ووفرة المال والوسائل عنده، حتى إنه ليهمُّ ببناء صرح ليبلغ أسباب السماوات؛ فاكتفت السورة هنا ببيان إعراض فرعون واستكباره، وأنه أُهلك منبوذًا في البحر، نبذَ مَن لا يكترث به ولا يهتم له، ليس هو فقط بل هو وجنوده.

والقرآن توجه إلى الخلاصات، وأهمها:
1- أن هذا القانون سار على كل ظالمٍ: ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 40]، وهذا أمر لا يتبدل ولا يتغيَّر[21]، ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 43].

2- أن الملك لله وحده لا شريك له، ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58].

3- فمن بعده مهما بلغ في الضلال مأموم لا إمام بالنسبة لفرعون، ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [القصص: 41]، وكذلك المتقون أئمة من يأتي بعدهم من المتقين في الخير ﴿ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 5].

4- أن كل المكذبين يعاملون الأنبياء نفس المعاملة ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾ [القصص: 48].

5- أن الطرق طريقان: طريق الحق، وطريق الهوى المكروه، ولا ثالث لهما، مهما كثرت التسميات والتصنيفات: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50]، أما الهوى المحمود فموجود، كمن كان هواه تبعًا لما جاء به الأنبياء[22].

6- أن الله لا يهلك الناس إلا بظلمهم: ﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القصص: 59].

7- أن المتع الدنيوية مهما كثُرت فلا خير فيها إذا لم تكن معينة على الآخرة، ﴿ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [القصص: 60].

8- أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق في نبوته ورسالته؛ إذ لم يكن حاضرًا لموسى، ولا علم لديه بما جرى له: ﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 44 - 46] [23]، ولا مصدر يتلقى منه المعلومات غير الوحي، فلم يكن يعلم كتابا قبله قراءة ولا كتابة، ولا سماعًا، كما في الآية الأخرى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 48]، وهذا وحده يكفيه آية، فكيف ومعه آية أخرى أن هذا العلم عند أهل الكتاب على هذا النحو ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 51، 52]، رغم أنه لم يتصل بهم، وليس بينه وبينهم أي لقاء قبل الرسالة، وعلمه بهذا كاف وحده دليلًا على صدق نبوته، كما في الآية الأخرى: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 51]، وينضاف إلى هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحلم بأن يوحى إليه بمثل هذا الكتاب: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ ﴾ [القصص: 86].

9- أن نعم الله ينبغي أن تقابل بالشكر، وذلك بأن تصرف في الطاعة لا أن تقابل بالكفر، وأن الخوف من المضايقة بسبب الإيمان، ينافي شكر النعم الجمة من الأمن والعيش الكريم رغم الكفر: ﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57].

10- أن الذين يخافون أن يؤدي امتثال أوامر الله إلى زوال النعم عنهم غافلون عن الحقائق الكونية في العمران: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58]، بل إن آيات أخرى بينت أن من أمارات الهلاك الإمداد لغير المطيعين، وأن التقوى سبب الرخاء الدنيوي: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56][24].

11- في ثنايا عرض القرآن لآيات الله الكونية الدالة على وحدانيته وتفرده بالألوهية والربوبية بين أن الليل والنهار آيتان من آيات الله لا يدعي غيره القدرة على الإتيان بهما، وأن الله خلقهما للخلق للانتفاع بهما، فأضاء النهار ليناسب المعايش، وأظلم الليل ليناسب السكن والراحة والهدوء، وكأن الآية -بعدم ذكرها للعبادة المحضة فيهما- تشير إلى أن من كان عابدا لله حق عبادته كان نومه عبادة، وسعيه في معاشه عبادة[25].

وتختم هذا التعقيب وتتخلله مشاهدُ القيامة، وكيف ضل عن المكذبين ما كانوا يعتمدون عليه، ولم يفلحوا في الإجابة على الأسئلة الموجهة إليهم: ﴿ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [القصص: 65، 66]، والعاجز عن الإجابة النافعة هنا (والسؤال سؤال توبيخ لا يتطلب جوابًا أصلًا)، هو المتجاهل للإجابة الفطرية عن السؤال البدهي في الدنيا: ﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [القصص: 61].

والقصة الثانية في هذه السورة شبيهة بالأولى في معانيها؛ إذ هي قصة استكبار مالي، وكثيرًا ما اقترن الاستكبار المالي بالاستكبار السياسي، وتشابهت أعراض المرضين، وتداخلت مصالح المريضين.

إنها قصة قارون الذي كان من قوم موسى، من المستضعفين، ممن أنجاهم الله من فرعون، فاستكبر وعلا، بسبب لعاعة من الدنيا، كبرت وزادت بين يديه، حتى أصبحت مفاتيح خزائنه ذات حجم ضخم، وإن كانت لا تزن بالنسبة لما عند الله جناح بعوضة، وبدل أن يقول كما قال نبي الله سليمان ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40]، قال: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: 78]، فأصبح فتنة للناس، يتمنى بعض العجزة حاله، ويستعيذ المؤمنون من حاله متذكرين ما عند الله، حتى جاء لحظة الخسف به، فهلك هو وما عنده، فلم يجد نصيرًا، ولا واليًا: ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 128]، وكان بإمكانه أن يستمتع بالطيب من ماله، لو أطاع مَن أرشدوه إلى أن:
1- يترك البغي والبطر: ﴿ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76].

2- وأن يجعل ماله وسيلة للآخرة: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾ [القصص: 77].

3- وأن يتعظ بما سيصْحبه من الدنيا عند الموت: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، أو أن يشكر بأن يرى أثر النعمة عليه[26].

4- وأن يُحسن إلى الناس جراء إحسان الله إليه: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77].

5- وأن يتورع عن الفساد: ﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، فاختار عصيان الناصحين، فأهلك بسبب الكبر والفساد، أهلك صاغرًا ذليلًا، وأُحيط بماله، وبه، فلم يجد ناصرًا ولا مستنصرًا، فرجع للناس بعض ما كان غاب عن أذهانهم من العقيدة الصحيحة الدالة على أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له: ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [القصص: 82].

وما أرشد إليه قارون هو ما يرشد الإسلام إليه كل ذي مال أعطاه الله نعمة المال؛ إذ "نعم المال الصالح للرجل الصالح"[27]، فالمال المأخوذ من حله المجعول في محله، مما يغبط عليه من أوتيه[28].

لذلك جاء التعقيب على قصته بأن الآخرة (أي جنتها ورحمتها): ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]، وفي هذا إشارة مهمة إلى أن من أراد العلو والفساد ومنعه العجز كمن وقع فيهما فعلًا، وأن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، وقال في الآية الأخرى: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]