
24-05-2022, 11:14 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,260
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الثالث
صـ 761 الى صـ 766
الحلقة (145)
إن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابهه ، وإن لم يعلم تأويله ، ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا فقد أخبر ، ذما للمشركين ، أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور ، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك . وقوله : أن يفقهوه يعود إلى القرآن كله . فعلم أن الله يحب أن يفقه ، ولهذا قال الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عني بها . وما استثني من ذلك لا متشابها ولا غيره . وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات ، [ ص: 761 ] أقفه عند كل آية وأسأله عنها . فهذا ابن عباس حبر الأمة ، وهو أحد من كان يقول : لا يعلم تأويله إلا الله ، يجيب مجاهدا عن كل آية في القرآن ، وهذا هو الذي جعل مجاهدا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله : والراسخون في العلم فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل ، لأن مجاهدا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه . فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله . وأصل ذلك أن لفظ التأويل ، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف ، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين ، فبسبب الاشتراك في لفظ ( التأويل ) اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن .
ومجاهد إمام التفسير ، قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .
وأما التأويل فشأن آخر . ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال : هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أهل العلم والإيمان جميعهم . وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس ، وهذا لا ريب فيه ، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك ، فلقبوها ، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه ، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم ؟ فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية ، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء ، ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه . والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ . أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون وهؤلاء معتدون ، بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه . ومن المتأخرين من وضع المسألة [ ص: 762 ] بلقب شنيع فقال : لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا ، خلافا للحشوية ، وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له ، وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه . وبين نفي المعنى عند المتكلم ، ونفي الفهم عند المخاطب ، بون عظيم . ثم احتج بما يجري على أصله ، فقال : هذا عبث ، والعبث على الله محال ، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلا ، بل يجوز أن يفعل كل شيء ، وليس له أن يقول العبث صفة نقص ، فهو منتف عنه ، لأن النزاع في الحروف ، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال ، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة ، فلا نقل صريح ، ولا عقل صحيح .
ومثار الفتن بين الطائفتين ومحار عقولهم أن مدعي التأويل أخطؤوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل ، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه . فإن الأولين ، لعلمهم بالقرآن والسنن ، وصحة عقولهم ، وعلمهم بكلام السلف ، وكلام العرب ، علموا يقينا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن . فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر . وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر ، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء . وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ، ويتأولون آيات الصفات . وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات ، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر . وآخرون من أصناف الأمة ، وإن كان يغلب عليهم السـنة ، فقد يتأولون أيضا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه .
والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة ، وأكثر أهل الكلام والبدع ، رأوا أيضا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن . ورأوا عجزا وعيبا وقبيحا أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه . وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل ، لكن أخطؤوا في معنى التأويل الذي نفاه الله ، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك [ ص: 763 ] مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل ، وصار الآخرون أكثر كلاما وجدالا ، ولكن بفرية على الله ، وقول عليه ما لا يعلمونه ، وإلحاد في أسمائه وآياته ، فهذا هذا .
ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل ، فإن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو : صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف . فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول ، أو هو محمول على كذا ، قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل . والمتأول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه ، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر ، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل ، أو ذم التأويل ، أو قال بعضهم : آيات الصفات لا تؤول ، وقال الآخر : بل يجب تأويلها ، وقال الثالث : بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ، ويترك عند المصلحة ، أو يصح للعلماء دون غيرهم ، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع .
وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان :
أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا ، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله . ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية . ونحو ذلك ، ومراده التفسير .
والمعنى الثاني : في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام . فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب . وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به . وبين هذا المعنى والذي قبله بون . فإن الذي قبله يكون التأويل [ ص: 764 ] فيه من باب العلم ، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح ، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي . وأما هذا ، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة .
فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها . وهذا الوضع والعرف .
الثالث : هو لغة القرآن التي نزل بها وقد قدمنا التبيين في ذلك . ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وقوله : ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله وقول الملأ : أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين [ ص: 765 ] ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا
فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه ، كما قال يوسف : هذا تأويل رؤياي من قبل والعالم بتأويلها الذي يخبر به . كما قال يوسف : لا يأتيكما طعام ترزقانه أي : في المنام إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما أي : قبل أن يأتيكما التأويل . وقال الله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا قالوا : أحسن عاقبة ومصيرا . فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة ، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا ، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن ، وكذلك في سورة آل عمران . وقال تعالى في قصة موسى والعالم : قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا إلى قوله : وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا
فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم [ ص: 766 ] من خرق السفينة بغير إذن صاحبها . ومن قتل الغلام ، ومن إقامة الجدار . فهو تأويل عمل ، لا تأويل قول ، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوله يؤوله تأويلا ، مثل حول تحويلا ، وعول تعويلا . و ( أول يؤول ) تعدية ( آل يؤول أولا ) ، مثل حال يحول حولا وقولهم ( آل يؤول ) أي : عاد إلى كذا ورجع إليه ، ومنه المآل ، وهو ما يؤول إليه الشيء . ويشاركه في الاشتقاق الموئل ، فإنه وأل ، وهذا من أول ، والموئل المرجع ، قال تعالى : لن يجدوا من دونه موئلا

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|