فقه النوازل (13)
سعد بن تركي الخثلان
أولا : لماذا يكره الاستقامة ؟! هل هو لأجل استقامتهم هل هو لأجل الدين ، أو يعني لسبب آخر ؟ فهؤلاء المستقيمين يجمعهم وصف وهو أنهم استقاموا على دين الله - عز وجل - كراهتهم معنى ذلك كراهة للدين ، والاستهزاء بهم في الحقيقة استهزاء بالدين ، ولهذا لما قال بعض المنافقين ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، يعنون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكذب ألسنا ولا أرغب بطونا ولا أجبن عند اللقاء ، ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء ، فقط قالوا هذه الكلمات ، أنزل الله - عز وجل - { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (1) لاحظ هنا أنهم استهزءوا بالقراء استهزءوا بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك قال الله تعالى : { أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) } (2) .
فالاستهزاء بالمستقيمين وأهل الخير والصلاح لأجل استقامتهم هو في الحقيقة استهزاء بالله وآياته ورسوله ، ولهذا فإنه كفر ولو كان على سبيل السخرية والهزل والمزاح ، وهذا يدل على خطورة هذه المسألة ، فكراهة المستقيمين قل له لماذا يكره هؤلاء المستقيمين ، هل هو لأجل استقامتهم ، أو لماذا ؟! فهذا يعني على خطر عظيم مثل هذه المقولة ، ومثل هذا الكلام ، بل إنه يحب هؤلاء المستقيمين وأهل التقى والصلاح ، ويكره ما يحصل عند بعضهم من بعض التجاوزات لأنهم بشر .
لكن أنه يقول بهذا اللفظ أنه يكره جميع المستقيمين وأهل الخير والصلاح ، لا شك أن هذا فيه خطورة على هذا الإنسان ، وأما قوله بسماع الأغاني فتقدم أنه محرم ، وأن الإنسان يكسب به أوزارا ، وآثاما ونكتفي بهذا القدر والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
عدم إجزاء الشعير في زكاة الفطر لمن لم يعد الشعير قوتا لهم
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، معنا في هذا الدرس جملة من المسائل المتعلقة بالنوازل والصيام ، وقبل أن نتكلم عنها أنبه على المسألة الأخيرة التي طرحناها في الدرس السابق ، وهي مسألة عدم إجزاء الشعير في زكاة الفطر لمن لم يعد الشعير قوتا لهم، هذه أشكلت على بعض الإخوة من جهة أن الشعير لا يزال قوتا في بعض البلدان .
نحن نقول نحن قيدنا كلامنا بالأمس بمن كان الشعير ليس قوتا لهم ، وإنما أصبح علفا للبهائم ، هؤلاء هم الذين لا يجزئ في حقهم إخراج الشعير ، أما الذين لا يزال الشعير قوتا لهم فلا شك في إجزاء الشعير في زكاة الفطر ، كلامنا بالأمس مقيد بمن كان الشعير لم يعد قوتا لهم ، وإنما أصبح علفا للدواب، وفي بعض البلدان لا يزال الشعير قوتا للناس ، حدثني أحد الإخوة أنه في بعض المناطق هنا في المملكة لا يزال الشعير قوتا للناس ، وحينئذ فيكون الحكم بناء على هذا التفصيل .
فإن قال قائل كيف تقولون بعدم إجزاء الشعير لمن لم يكن قوتا لهم مع أنه قد ورد به النص ؟
نقول : أولا لم يرد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم لو ورد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لربما نقول بأنه يصح مثل هذا الإيراد ، لكن ورد من وصف بعض الصحابة بأنه طعام الناس يومئذ كان التمر والأقط ، وذكروا الشعير ، فإذا تغير طعام الناس ولم يعد الشعير طعاما للناس وقوتا للناس ، فالحكم يدور مع علته .
حكم الاعتماد على المراصد الفلكية في رؤية الهلال
معنا في هذا الدرس جملة من المسائل في كتاب الصيام ، وسنتكلم إن شاء الله تعالى أولا : عن حكم الاعتماد على المراصد الفلكية في رؤية الهلال ، ثم نتكلم عن حكم بخاخ الربو وأثره على تفطير الصائم ، وفي معناه أيضا الأكسجين ، استخدام الأكسجين بالنسبة للصائم ، والأقراص التي توضع تحت اللسان للعلاج وفي معناها اللاصقات من النيكوتين التي يستخدمها بعض من يريد الامتناع عن التدخين ، وأيضا استخدام المنظار وأثره على تفطير الصائم ، وغسيل الكلى وأثره على تفطير الصائم .
هذه كما ترون مسائل مستجدة وسوف نقف مع كل مسألة منها .
ونبدأ أولا بالمسألة الأولى : حكم الاعتماد على المراصد الفلكية في رؤية الهلال ، وهذه المراصد التي وجدت في الوقت الحاضر لم تكن موجودة من قبل على هذا النحو الذي هي موجودة عليه ، فهل يصح الاعتماد على هذه المراصد أم لا ؟ قبل أن نتكلم عن هذه المسألة نشير إلى مسألة أخرى تكلم عنها أهل العلم قديما وحديثا .
فهي ليست من النوازل ولكن لارتباطها بهذه المسألة التي بين أيدينا نشير لها إشارة مختصرة ، وهي حكم الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات دخول الشهر ، وللعلماء في ذلك قولان :
فأكثر أهل العلم قديما وحديثا على أنه لا يصح الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات دخول الشهر ، بل حكي إجماعا ، لكن حكاية الإجماع محل نظر ، إذ أن هناك من الفقهاء من خالف في هذه المسألة ، فقد خالف بعض فقهاء المالكية والشافعية ، كما حكى ذلك القرافي وغيره واشتهر عن ابن سريج من الشافعية ، أنه يعتمد على الحسابات الفلكية في إثبات دخول الشهر .
ومن أبرز من قال بهذا القول من المعاصرين ، الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- وله رسالة مشهورة في هذا ، ومن العلماء المعاصرين من قال إنه يعتمد على الحساب الفلكي في النفي دون الإثبات ، بمعنى : لو قال الفلكيون لا يمكن أن يرى الهلال هذه الليلة فيقول يعتمد على قولهم في هذا ، لكن لو قالوا يمكن أن يرى ، فلا يعتمد . وإنما يعتمد على الرؤية فإن رؤي أثبت دخول الشهر وإلا فلا ، وهذا قال به جمع من العلماء المعاصرين .
والذي يظهر في هذه المسألة -والله أعلم- هو قول الجمهور ، وهو أن الاعتماد إنما هو على الرؤية ، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا الشهر ثلاثين " .
ولكن مع ذلك ينبغي إذا دل الحساب على عدم إمكانية رؤية الهلال أن يتشدد في قبول الشهادة ، فلا تقبل إلا من إنسان موثوق في دينه وأمانته ، وأيضا من إنسان معروف بحدة البصر والخبرة في تحديد منازله ، إذ أن بعض الناس ، بعض من يدعي رؤية الهلال يغلب عليهم التسرع والعجلة والوهم ، وبعضهم ربما رأى كوكبا أو نجما يشبه الهلال فظنه هلالا .
وأذكر أنه في شهر شوال من العام الماضي عام ألف وأربعمائة وست وعشرين ادعى رؤية الهلال خمسة شهود ، ومع ذلك رد مجلس القضاء الأعلى هنا في المملكة جميع شهادة هؤلاء ، وكان الواقع هو كما رآه مجلس القضاء ، فالليلة التي بعدها لم ير الهلال ، يعني هؤلاء ادعوا رؤية الهلال ليلة الثلاثين من رمضان ، والليلة التي بعدها لم يستطع أحد رؤية الهلال حتى ولو بالمراصد الفلكية ، هذا أعطى مؤشرا على أن ما رآه المجلس هو الحق .
فيغلب ، بعض الناس ربما يكون ثقة لكنه يهم يرى شيئا يشبه الهلال ، فيقول إنه هلال ، ويشهد بناء على ذلك ، فأقول إن الحساب يمكن أن يعتبر قرينة لا يعتمد عليها ولكن يستأنس بها في دخول الشهر ، والحساب له عدة مجالات ، منها حساب وقت ولادة الهلال ، وحساب وقت غروب القمر ، وحساب مقدار درجات القمر فوق الأفق وقت غروب الشمس إلى غير ذلك من المجالات .
وأقوى هذه المجالات هو حساب وقت غروب القمر ، فإنه من المتفق عليه بين العلماء أنه لا يعتد برؤية الهلال ، إلا إذا رؤي بعد غروب الشمس ، أما لو رؤي قبل غروب الشمس ولو بدقيقة ثم لم ير بعد غروب الشمس ، فلا يعتد به بالإجماع ، وحينئذ فلو دل الحساب الفلكي على غروب القمر قبل غروب الشمس ثم أتى أحد فادعى رؤيته بعد غروب الشمس ، فما الحكم ؟
الواقع أن حساب وقت غروب القمر دقيق جدا ، وقد حدثني أحد المختصين في علم الفلك ، بأن معادلة غروب الشمس هي نفسها معادلة غروب القمر ، وقال : إن من يشكك في حساب غروب القمر فليشكك إذا في حساب غروب الشمس ؛ لأن المعادلة واحدة ، وقد جربت هذا بنفسي وراقبت غروب القمر لعدة شهور ، ووجدته دقيقا يغرب في نفس الدقيقة التي حددت في الحساب ، فهو كغروب الشمس في هذا .
فهذا هو من أقوى القرائن في الحساب الفلكي ، والواقع أنه في سنوات مضت يتقدم شهود فيدعون رؤية الهلال مع أن الحسابات قد دلت على أنه قد غرب ، بل إن بعض أنواع التلسكوبات تتجه مباشرة إلى الهلال ، إذا برمجت تتجه مباشرة إلى الهلال وتتابعه من أول النهار ، فإذا غرب الهلال اتجهت إلى الأرض ، أحيانا تتجه إلى الأرض وتعطي إشارة بغروب القمر ، ومع ذلك يأتي من يشهد برؤية الهلال ، فهل تقبل شهادة هؤلاء ؟
نحن قلنا إنه ينبغي أن يتشدد في قبول شهادتهم ، ولكن إذا كانوا أهل ديانة وأمانة وخبرة وحدة نظر ، فإنه من الصعب رد شهادتهم ؛ لأننا قررنا أنه لا يعتمد على الحساب في إثبات دخول الشهر ، بل إنه جاء في صحيح مسلم أن الناس تراءوا الهلال زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعضهم هو ابن ليلتين ، وقال بعضهم هو ابن ثلاث ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله أمده لكم لتروه " .
فظاهر هذا الحديث هو أن الله تعالى قد يمد الهلال لكي يراه الناس ، يكون في هذا خرقا لما هو معروف أو معلوم بالسنن ، والله تعالى أعلم ، ولهذا فنتمسك بظاهر النص في هذا ، فنقول المعول عليه هو الرؤية ، ولكن ينبغي أن يتشدد إذا دلت الحسابات الفلكية على عدم إمكانية الرؤية ، ينبغي أن يتشدد في ذلك ، ولا تقبل الشهادة إلا من عرف خبرته في هذا وحدة نظره مع دينه وأمانته .
وهذه المسألة أعني دخول الشهر ، تشكل في بعض البلاد خاصة في بعض البلاد غير الإسلامية والتي يكون فيها جالية إسلامية ، يختلفون اختلافا كثيرا في هذه المسألة ، فأقول إذا أمكن اتحاد المسلمين على رأي فهو المطلوب ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " الصوم يوم يصوم الناس ، والفطر يوم يفطر الناس " .
ولكن إذا اختلف الناس في البلد الواحد فحينئذ نقول : إنه ينبغي اتباع البلاد التي تعتمد على الرؤية في إثبات دخول الشهر ، خاصة إذا كان الناس في تلك البلاد في الغرب يعني بأن كانت البلاد التي يريدون اتباعها في الشرق ، فمثلا لو رؤي هلال هنا في المملكة فلا بد أن يرى في البلاد التي تقع غربها ، كبلاد إفريقيا وأوروبا وأمريكا .
البلاد التي تقع في الغرب لا بد أن يرى فيها الهلال ، لا يمكن أن يعني يرى الهلال هنا في المملكة ولا يمكن رؤيته في البلاد التي تقع في الغرب ، ما دام أن الرؤية صحيحة فلا بد أن يرى في البلاد التي تقع في الغرب ، ولا يلزم من ذلك رؤيته في الشرق ، فقد يتعذر رؤية الهلال في الشرق ويمكن رؤيته في الغرب .
هذه نبذة موجزة عن هذه المسألة ، ونعود لمسألتنا التي بين أيدينا وهي الاعتماد على المراصد الفلكية في إثبات الشهر ، هذه المسألة بحثها مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة قبل نحو ربع قرن ، وتحديدا عام 1403 للهجرة ، وشكل لجنة من الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- مع بعض المختصين .
ورأت اللجنة عدة أمور أقرها مجلس هيئة كبار العلماء :
ومنها : إنشاء المراصد كعامل مساعد على تحري رؤية الهلال لا مانع منه شرعا .
ومنها : إذا رؤي الهلال بالعين المجردة فالعمل بهذه الرؤية وإن لم ير بالمرصد .
ومنها إذا رؤي الهلال بالمرصد رؤية حقيقية تعين العمل بهذه الرؤية ، ولو لم ير بالعين المجردة ، وذلك لقول الله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (3) ولعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تصوموا حتى تروه ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " ولقوله عليه الصلاة والسلام : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " الحديث ، وهو من رأى الهلال عن طريق المرصد يصدق عليه أنه رأى الهلال ، ولأن المثبت مقدم على النافي .
وهذا الرأي اعتمده مجلس هيئة كبار العلماء ، وأصبح العمل عليه منذ ذلك الحين منذ عام 1403 ، وفي هذا رد على من يقول : إن العلماء لا يرون الاعتماد على المراصد الفلكية ، فهذا غير صحيح ، العلماء قرروا منذ ذلك الحين جواز الاعتماد على المراصد الفلكية ، لا مانع من الاعتماد عليها ، سواء كانت المراصد الفلكية الكبيرة الضخمة ، أو حتى عن طريق المنظار الصغير ، أو ما يسمى بالدربين ، ونحوه .
كل هذا يصح الاعتماد عليه ولو لم ير بالعين المجردة ، وسماحة رئيس مجلس القضاء الأعلى عندنا في المملكة صرح بهذا كثيرا بأن مجلس القضاء الأعلى يقبل الرؤية عن طريق المراصد الفلكية ، فما يثار من أن العلماء هنا في المملكة لا يقبلون الرؤية عن طريق المراصد غير صحيح البتة ، بل إن العلماء قرروا ذلك من نحو ربع قرن .
ولكن مع ذلك منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا لم ير الهلال عن طريق المراصد الفلكية ولو لمرة واحدة ، فما هو السبب في هذا ؟ يعني رغم أن العلماء أقروا هذا وهو الذي عليه العمل ، ومجلس القضاء متوجه لقبول الرؤية عن طريق المراصد الفلكية إلا أنه لم ير الهلال عن طريق المراصد منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا ولو لمرة واحدة ، فما هو السبب في هذا ؟
أحد المختصين في علم الفلك تكلم عن هذه المسألة وذكر السبب في هذا ، وقال : يظن الكثير أن المراصد الفلكية من تلسكوبات وغيرها أنها تحسن فرصة رؤية الهلال ، والواقع قد يكون العكس من ذلك ، ثم علل ذلك من الناحية العلمية ، قال : إن فكرة المراصد تقوم على زيادة كمية الضوء الواصلة من الجسم المراد رصده والمراد به هنا القمر ، لا تكبير حجم ذلك الجسم ، وإنما فقط زيادة كمية الضوء ؛ لأن أغلب الأجرام السماوية بعيدة جدا وإمكانية تكبيرها قد تكون صعبة بالنظر المباشر بالمرصد ، ولكن التكبير يحدث بتصويرها ضوئيا ، ومن ثم تكبير هذه الصورة إلى أقصاها .
__________
(1) - سورة التوبة آية : 65-66.
(2) - سورة التوبة آية : 65.
(3) - سورة البقرة آية : 185.