بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (281)
سُورَةُ طه
صـ 54 إلى صـ 60
وفي ( فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ) للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ، رحمه الله تعالى بعد أن أشار لكلام البخاري في [ ص: 54 ] التاريخ الذي ذكرنا ، ورواه البيهقي في الدلائل مطولا ، وفيه : فأمر به الوليد فسجن . فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة انتهى منه .
فهذه آثار عن ثلاثة من الصحابة في قتل الساحر : وهم عمر وابنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنهم جميعا ، وجندب ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ويعتضد ذلك بما رواه للترمذي ، والدارقطني عن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حد الساحر ضربه بالسيف " . وضعف الترمذي إسناد هذا الحديث وقال : الصحيح عن جندب موقوف ، وتضعيفه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو يضعف في الحديث . وقال في ( فتح المجيد ) أيضا في الكلام على حديث جندب المذكور : روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة وحده " ا ه منه .
وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر تضعيفه بإسماعيل المذكور : قلت قد رواه الطبراني من وجه آخر ، عن الحسن عن جندب مرفوعا ا ه . وهذا يقويه كما ترى .
فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكرها على من عمل بها مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور هي حجة من قال بقتله مطلقا . والآثار المذكورة والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر . لأن الساحر الذي قتله جندب رضي الله عنه كان سحره من نحو الشعوذة ، والأخذ بالعيون ، حتى إنه يخيل إليهم أنه أبان رأس الرجل ، والواقع بخلاف ذلك . وقول عمر " اقتلوا كل ساحر " يدل على ذلك لصيغة العموم . وممن قال بمقتضى هذه الآثار وهذا الحديث : مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد في أصح الروايتين ، وعمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وحفصة ، وجندب بن عبد الله ، وجندب بن كعب ، وقيس بن سعد ، وعمر بن عبد العزيز . وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن قدامة في ( المغني ) خلافا للشافعي ، وابن المنذر ومن وافقهما .
واحتج من قال : بأنه إن كان سحره لم يبلغ به الكفر لا يقتل بحديث ابن مسعود المتفق عليه " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث . . . " الحديث ، وقد قدمناه مرارا . وليس السحر الذي لم يكفر صاحبه من الثلاث المذكورة . قال القرطبي منتصرا لهذا القول : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف ، والله أعلم .
واحتجوا أيضا بأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها ، ولو وجب قتلها [ ص: 55 ] لما حل بيعها . قاله ابن المنذر ، وغيره . وما حاوله بعضهم من الجمع بين الأدلة المذكورة بحمل السحر على الذي يقتضي الكفر في قول من قال بالقتل ، وحمله على الذي لا يقتضي الكفر في قول من قال بعدم القتل لا يصح . لأن الآثار الواردة في قتله جاءت بقتل الساحر الذي سحره من نوع الشعوذة كساحر جندب الذي قتله ، وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام ، كما تقدم إيضاحه . فالجمع غير ممكن . وعليه فيجب الترجيح ، فبعضهم يرجح عدم القتل بأن دماء المسلمين حرام إلا بيقين . وبعضهم يرجح القتل بأن أدلته خاصة ، ولا يتعارض عام وخاص . لأن الخاص يقضي على العام عند أكثر أهل الأصول كما هو مقرر في محله .
قال مقيده - عفا الله عنه - : والأظهر عندي أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر ولم يقتل به إنسانا أنه لا يقتل . لدلالة النصوص القطعية ، والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح . وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتجرؤ على دم مسلم من غير دليل صحيح من كتاب أو سنة مرفوعة غير ظاهر عندي . والعلم عند الله تعالى ، مع أن القول بقتله مطلقا قوي جدا لفعل الصحابة له من غير نكير .
المسألة السابعة
اعلم أن الناس اختلفوا في تعلم السحر من غير عمل به . هل يجوز أو لا ؟ ، والتحقيق وهو الذي عليه الجمهور : هو أنه لا يجوز ، ومن أصرح الأدلة في ذلك تصريحه تعالى بأنه يضر ولا ينفع في قوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم [ 2 102 ] وإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيه ؟ !
وجزم الفخر الرازي في تفسيره في سورة " البقرة " بأنه جائز بل واجب . قال ما نصه :
( المسألة الخامسة ) في أن العلم بالسحر غير قبيح ، ولا محظور ، اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف ، وأيضا لعموم قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 9 ] ، ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، والعلم بكون المعجز معجزا واجب ، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب ، فهذا [ ص: 56 ] يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا ، وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا . انتهى منه بلفظه .
ولا يخفى سقوط هذا الكلام وعدم صحته . وقد تعقبه ابن كثير في تفسيره بعد أن نقله عنه بلفظه الذي ذكرنا بما نصه :
وهذا الكلام فيه نظر من وجوه : أحدها قوله : " العلم بالسحر ليس بقبيح " إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا ، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعا ففي هذه الآية الكريمة يعني قوله تعالى ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم تبشيع لعلم السحر . وفي السنن " من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " ، وفي السنن " من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر " وقوله " ولا محظور ، اتفق المحققون على ذلك " كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرنا من الآية ، والحديث ، واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم . وأين نصوصهم على ذلك ! !
ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 9 ] فيه نظر . لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ، ولما قلت إن هذا منها ! ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد . لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا . ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة ، والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ، ويفرقون بينه وبين غيره ، ولم يكونوا يعلمون السحر ، ولا تعلموه ، ولا علموه ، والله أعلم . انتهى .
ولا يخفى أن كلام ابن كثير هذا صواب ، وأن رده على الرازي واقع موقعه ، وأن تعلم السحر لا ينبغي أن يختلف في منعه . لقوله جل وعلا : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم [ 2 102 ] . وقول ابن كثير في كلامه المذكور : وفي الصحيح " من أتى عرافا أو كاهنا . . إلخ " إن كان يعني أن الحديث بذلك صحيح فلا مانع ، وإن كان يعني أنه في الصحيحين أو أحدهما فليس كذلك . وبذلك كله تعلم أن قول ابن حجر في ( فتح الباري ) : وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأمرين : إما لتمييز ما فيه كفر من غيره . وإما لإزالته عمن وقع فيه .
فأما الأول : فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد ، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء [ ص: 57 ] بمجرده لا تستلزم منعا . كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان . لأن كيفية ما يعلمه الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل ، بخلاف تعاطيه ، والعمل به .
وأما الثاني : فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا ، وإلا جاز للمعنى المذكور . ا ه خلاف التحقيق ، إذ ليس لأحد أن يبيح ما صرح الله بأنه يضر ، ولا ينفع ، مع أن تعلمه قد يكون ذريعة للعمل به ، والذريعة إلى الحرام يجب سدها كما قدمناه . قال في المراقي :
سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم
هذا هو الظاهر لنا . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة
اعلم أن العلماء اختلفوا في حل السحر عن المسحور . فأجازه بعضهم ، ومنعه بعضهم . وممن أجازه سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى . قال البخاري في صحيحه ( باب هل يستخرج السحر ) : وقال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته ، أيحل عنه ، أو ينشر ؟ قال : لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح . فأما ما ينفع فلم ينه عنه ا ه . ومال إلى هذا المزني . وقال الشافعي : لا بأس بالنشرة . قاله القرطبي . وقال أيضا : قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه : أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل . فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله انتهى منه .
وممن أجاز النشرة وهي حل السحر عن المسحور : أبو جعفر الطبري ، وعامر الشعبي ، وغيرهما . وممن كره ذلك : الحسن . وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سحره لبيد بن الأعصم : هلا تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني وكرهت أن أثير على الناس شرا " .
قال مقيده - عفا الله عنه - : التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة : أن استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين ، وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك . وإن كان بسحر أو بألفاظ عجمية ، أو بما لا يفهم معناه ، أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع . وهذا واضح وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى .
[ ص: 58 ] وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : ( تكميل ) قال ابن القيم : من أنفع الأدوية ، وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية : من الذكر ، والدعاء ، والقراءة . فالقلب إذا كان ممتلئا من الله ، معمورا بذكره ، وله ورد من الذكر ، والدعاء ، والتوجه ، لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له . قال : وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة . ولهذا غالب ما يؤثر فيه النساء ، والصبيان ، والجهال . لأن الأرواح الخبيثة إنما تنشط على الأرواح ، تلقاها مستعدة لما يناسبها انتهى ملخصا . ويعكر عليه حديث الباب ، وجواز السحر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع عظيم مقامه ، وصدق توجهه ، وملازمة ورده ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب ، وإنما وقع به - صلى الله عليه وسلم - لبيان تجويز ذلك ، والله أعلم انتهى من فتح الباري .
المسألة التاسعة
اعلم أن العلماء اختلفوا في تحقيق القدر الذي يمكن أن يبلغه تأثير السحر في المسحور ، واعلم أن لهذه المسألة واسطة وطرفين : طرف لا خلاف في أن تأثير السحر يبلغه كالتفريق بين الرجل وامرأته ، وكالمرض الذي يصيب المسحور من السحر ونحو ذلك ، ودليل ذلك القرآن ، والسنة الصحيحة . أما القرآن فقوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 102 ] فصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة بأن من تأثير السحر التفريق بين المرء وزوجه . وأما السنة فما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها بألفاظ متعددة متقاربة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن . فقال : " يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب ، قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف اليهودي كان منافقا ، قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاطة ؟ قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راعوفة فيبئر ذروان " قالت : فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - البئر حتى استخرجه ، فقال : " هذه البئر التي أربتها ، وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين ، فاستخرج " قالت فقلت : أفلا أي : تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا " ا ه هذا لفظ البخاري في بعض رواياته لهذا الحديث . والقصة مشهورة صحيحة . ففي هذا الحديث الصحيح : أن تأثير السحر فيه - صلى الله عليه وسلم - سبب له [ ص: 59 ] المرض . بدليل قوله " أما الله فقد شفاني " وفي بعض الروايات الثابتة في صحيح البخاري ، وغيره بلفظ : فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال مطبوب . أي : مسحور . وهو تصريح بأن السحر سبب له وجعا . ونفي بعض الناس لهذه القصة مستدلا بأنها لا تجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - ، لقوله تعالى عن الكفار منكرا عليهم . إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] ساقط ؛ لأن الروايات الصحيحة الثابتة لا يمكن ردها بمثل هذه الدعاوى . وسترى في آخر بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى إيضاح وجه ذلك . وطرف لا خلاف في أن تأثير السحر لا يمكن أن يبلغه كإحياء الموتى ، وفلق البحر ونحو ذلك .
قال القرطبي في تفسيره : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام . فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون لا يفعله الله عند إرادة الساحر . قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه انتهى كلام القرطبي .
وأما الواسطة فهي محل خلاف بين العلماء ، وهي هل يجوز أن ينقلب بالسحر الإنسان حمارا مثلا ، والحمار إنسانا ؟ وهل يصح أن يطير الساحر في الهواء ، وأن يستدق حتى يدخل من كوة ضيقة . وينتصب على رأس قصبة ، ويجري على خيط مستدق ، ويمشي على الماء ، ويركب الكلب ونحو ذلك . فبعض الناس يجيز هذا . وجزم بجوازه الفخر الرازي في تفسيره ، وكذلك صاحب رشد الغافل ، وغيرهما . وبعضهم يمنع مثل هذا .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما بالنسبة إلى أن الله قادر على أن يفعل جميع ذلك ، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب وإن لم تكن هناك مناسبة عقلية بين السبب ، والمسبب كما قدمناه مستوفى في سورة " مريم " فلا مانع من ذلك ، والله جل وعلا يقول وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ 2 102 ] . وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع . لأن غالب ما يستدل عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول ، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة ، والأخذ بالعيون ، لا قلب الحقيقة مثلا إلى حقيقة أخرى . وهذا هو الأظهر عندي ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 60 ] تنبيه
اعلم أن ما وقع من تأثير السحر في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستلزم نقصا ، ولا محالا شرعيا حتى ترد بذلك الروايات الصحيحة . لأنه من نوع الأعراض البشرية ، كالأمراض المؤثرة في الأجسام ، ولم يؤثر البتة فيما يتعلق بالتبليغ . واستدلال من منع ذلك زاعما أنه محال في حقه - صلى الله عليه وسلم - بآية إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] مردود كما سنوضحه إن شاء الله في آخر هذا البحث .
قال ابن حجر في الفتح : قال المازري : أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث ، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها . قالوا : وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل . وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع ، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ، ثم وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه شيء . قال المازري : هذا كله مردود . لأن الدليل قد قام على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله تعالى ، وعلى عصمته في التبليغ . والمعجزات شاهدات بتصديقه . فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل . وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ، ولا كانت الرسالة من أجلها ، فهو في ذلك عرضة لما يعتري البشر كالأمراض . فغير بعيد أن يخيل الله في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين . قال : وقد قال بعض الناس : إن المراد بالحديث : أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن وهذا كثير ما يقع تخيله للإنسان في المنام . فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة .
