
10-04-2022, 05:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,388
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 596 الى صـ 600
الحلقة (118)
فصل
وقال الإمام ابن القيم - أيضا - في " أعلام الموقعين ":
إن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة. كما ثبت ذلك في الصحيح عن ابن عباس. فروى مسلم في " صحيحه" عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. فلو أمضيناه عليهم ; فأمضاه عليهم. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا. قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقها؟ قال: طلقها ثلاثا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال نعم. قال: فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت، قال: فرجعها. كان ابن عباس يرى: إنما الطلاق عند كل طهر. وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه. ثم إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم يخف عليه. أن هذا هو السنة، وأنه توسعة من الله لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة. وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع كله جملة واحدة. كاللعان فإنه لو قال: أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين، كان مرة واحدة. ولو حلف في القسامة وقال: أقسم بالله خمسين يمينا إن هذا قاتله، كان يمينا واحدة. ولو قال المقر بالزنا: أنا أقر أربع مرات أني زنيت، كان مرة واحدة. فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك [ ص: 596 ] الإقرار إلا واحدا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « من قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» . فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة. وكذلك قوله: « من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين وكبره ثلاثا وثلاثين» .. الحديث، لا يكون عاملا به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة، لا يجمع الكل بلفظ واحد.. وكذلك قوله: « من قال في يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة كانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي» . لا يحصل هذا إلا بقولها مرة بعد مرة. وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء. كقوله تعالى: سنعذبهم مرتين إنما هو مرة بعد مرة. وكذا قول ابن عباس: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين، إنما هو مرة بعد مرة. وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ ص: 597 ] « لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» . فهذا هو المعقول من اللغة والعرف. فالأحاديث المذكورة، وهذه النصوص المذكورة وقوله تعالى: الطلاق مرتان كلها من باب واحد ومشكاة واحدة. والأحاديث المذكورة تفسر المراد من قوله تعالى: الطلاق مرتان فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسوله، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة كلهم معه في عصره، وثلاث سنين من عصر عمر رضي الله عنه، على هذا المذهب، فلو عدهم العاد لزادوا على الألف قطعا. ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة - ولله الحمد - على خلافه. بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن، وإلى يومنا هذا. فأفتى به من الصحابة ابن عباس والزبير وابن عوف. وعن علي وابن مسعود روايتان، ومن التابعين عكرمة وطاوس. ومن تابعيهم: محمد بن إسحاق وغيره. وممن بعدهم داود إمام أهل الظاهر، وبعض أصحاب مالك، وبعض الحنفية، وأفتى بعض أصحاب أحمد - حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه - قال: وكان الجد يفتي به أحيانا.
والمقصود أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم. ولم يأت بعده إجماع يبطله. ولكن رأى أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنه، أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم، ليعلموا أن أحدهم، إذا أوقعه جملة، بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق. فرأى عمر هذا مصلحة لهم في زمانه. ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق وصدرا من خلافته - كان اللائق بهم، لأنهم لم يتتابعوا فيه. وكانوا يتقون الله في الطلاق. وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا. فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم. فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة. ولم يشرعه كله مرة واحدة. فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى [ ص: 598 ] حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله. فهو حقيق أن يعاقب ويلزم بما التزمه، ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد ضيعها على نفسه. ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه، رحمة وإحسانا. واختار الأغلظ والأشد. فهذا ما تغيرت به البلوى لتغير الزمان، وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به، ثم قال: فلما تغير الزمان، وبعد العهد بالسنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس، فالواجب أن يرد الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته من الإفتاء بما يعطل سوق التحليل ويقللها ويخفف شرها. وإذا عرض على من وفقه الله وبصره بالهدى وفقهه في دينه. مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل، ووازن بينهما - تبين له التفاوت، وعلم أي المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين.
ثم قال عليه الرحمة: ويمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر رضي الله عنه من وجهين:
أحدهما: أن أكثرهم لا يعلم أن جمع الثلاث حرام، لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه، فكيف يعاقب من لم يرتكب محرما عند نفسه؟
الثاني: أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدودا على عهد الصحابة رضي الله عنهم. والعقوبة - إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه - كان تركها أحب إلى الله ورسوله. ولا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وصدر من خلافة عمر أولى من الرجوع إلى التحليل، والله الموفق.
[ ص: 599 ] فصل
وأما طلاق الغضبان ففي " أعلام الموقعين " ما نصه:
إن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به. والله سبحانه رفع المؤاخذة عمن حدث نفسه بأمر بغير تلفظ أو عمل، كما رفعها عمن تلفظ من غير قصد لمعناه ولا إرادة. ولهذا لم يكفر من جرى على لسانه لفظ الكفر سبقا من غير قصد، لفرح أو دهش أو غير ذلك، كما في حديث الفرح الإلهي بتوبة العبد، وضرب مثل ذلك: من فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فأيس منها ثم وجدها فقال: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، ولم يؤاخذ بذلك وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ. ومن هذا قوله تعالى: ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم قال السلف: هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب، لو استجابه الله تعالى لأهلكه وأهلك من يدعو عليه، ولكنه لا يستجيبه لعلمه أن الداعي لم يقصده. ومن هذا رفعه صلى الله عليه وسلم حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق. قال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية حنبل: هو الغضب.
[ ص: 600 ] وبذلك فسره أبو داود. وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق - أحد أئمة المالكية ومقدم فقهاء أهل العراق منهم - وهي عنده من لغو اليمين أيضا. فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق. وحكاه شارح أحكام عبد الحق عنه - وهو ابن بريرة الأندلسي - قال: وهذا قول علي وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما من الصحابة: أن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم. وفي " سنن الدارقطني " بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس يرفعه: لا يمين في غضب، ولا عتاق فيما لا يملك. وهو، إن لم يثبت رفعه، فهو قول ابن عباس. وقد فسر الشافعي (لا طلاق في إغلاق) بالغضب، وفسره مسروق به. فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل كلهم فسروا الإغلاق بالغضب. وهو من أحسن التفسير. لأن الغضبان قد أغلق عليه باب القصد لشدة غضبه. وهو كالمكره. بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره، لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر الذي هو دونه، فهو قاصد حقيقة. ومن ههنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه. وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون. فإن غول العقل يغتاله الخمر بل أشد. وهو شعبة من الجنون، ولا يشك فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه. ولهذا قال حبر الأمة - الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، بالفقه في الدين: إنما يقع الطلاق من وطر. ذكره البخاري في صحيحه، أي: عن غرض من المطلق في وقوعه. وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه، وإجابة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له ; إذ الألفاظ إنما تترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|