
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (158)
صــ276 إلى صــ 280
[ ص: 276 ] قال أبو علي: "الشنآن" ، قد جاء وصفا ، وقد جاء اسما ، فمن حرك ، فلأنه مصدر ، والمصدر يكثر على فعلان ، نحو النزوان ، ومن سكن ، قال: هو مصدر ، وقد جاء المصدر على فعلان ، تقول: لويته دينه ليانا ، فالمعنى في القراءتين واحد ، وإن اختلف اللفظان . واختلفوا في قوله: (أن صدوكم) فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالكسر . وقرأ الباقون بالفتح ، فمن فتح جعل الصد ماضيا ، فيكون المعنى من أجل أن صدوكم ، ومن كسرها ، جعلها للشرط ، فيكون الصد مترقبا . قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر ، كقوله: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل [يوسف: 77] وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت ، وأنشد أبو علي الفارسي:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا
[فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء ، والجزاء إنما يكون بالمستقبل ، فيكون المعنى: إن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة] قال ابن جرير: وقراءة من فتح الألف أبين ، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية ، وقد كان الصد تقدم .
فعلى هذا في معنى الكلام قولان .
أحدهما: ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن [ ص: 277 ] تعتدوا فيه ، فتقاتلوهم ، وتأخذوا أموالهم إذا دخلتموه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .
والثاني: لا يحملنكم بغض أهل مكة ، وصدهم إياكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين ، على ما سبق في نزول الآية .
قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى قال الفراء: ليعن بعضكم بعضا . قال ابن عباس : البر ما أمرت به ، و "التقوى": ترك ما نهيت عنه . فأما "الإثم": فالمعاصي . و "العدوان": التعدي في حدود الله ، قاله عطاء .
فصل
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين .
أحدهما: أنها محكمة ، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء ، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين: قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر ، ولا الهدي [ ص: 278 ] قبل أوان ذبحه . واختلفوا في "القلائد" فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر ، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلد من شجر الحرم ، فقيل لهم: لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم ، ولا تصدوا القاصدين إلى البيت .
والثاني: أنها منسوخة ، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال .
أحدها: أن جميعها منسوخ ، وهو قول الشعبي .
والثاني: أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلدون هداياهم ، ويظهرون شعائر الحج من الإحرام والتلبية ، فنهي المسلمون بهذه الآية عن التعرض لهم ، ثم نسخ ذلك بقوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة: 5] وهذا قول الأكثرين .
والثالث: أن الذي نسخ قوله: ولا آمين البيت الحرام نسخه قوله: فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [التوبة: 38] روي عن ابن عباس ، وقتادة .
والرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشهر الحرام ، وآمون البيت الحرام: إذا كانوا مشركين . وهدي المشركين: إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان ، قاله أبو سليمان الدمشقي .
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ ص: 279 ] قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة مفسر في (البقرة) ، فأما "المنخنقة" فقال: ابن عباس هي التي تختنق فتموت ، وقال الحسن ، وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره . قلت: والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك . قال ابن قتيبة: و "الموقوذة" التي تضرب حتى توقذ ، أي: تشرف على الموت ، ثم تترك حتى تموت ، وتؤكل بغير ذكاة ، ومنه يقال: فلان وقيذ ، وقد وقذته العبادة .
[ ص: 280 ] و "المتردية": الواقعة من جبل أو حائط ، أو في بئر ، يقال: تردى: إذا سقط .
و "النطيحة": التي تنطحها شاة أخرى ، أو بقرة ، "فعيلة" في معنى "مفعولة" (وما أكل السبع) وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، وابن أبي ليلى: السبع: بسكون الباء . والمراد: ما افترسه فأكل بعضه (إلا ما ذكيتم) أي: إلا ما لحقتم من هذا كله ، وبه حياة ، فذبحتموه .
فأما الاستثناء ففيه قولان .
أحدهما: أنه يرجع إلى المذكور من عند قوله: (والمنخنقة) .
والثاني: أنه يرجع إلى ما أكل السبع خاصة ، والعلماء على الأول .
