
تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
الحلقة (157)
صــ271 إلى صــ 275
يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب
قوله تعالى: لا تحلوا شعائر الله في سبب نزولها قولان .
أحدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إلام تدعو؟ فقال: "إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" فقال: إن لي أمراء خلفي أرجع إليهم أشاورهم ، ثم خرج ، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر ، وما الرجل بمسلم" ، فمر شريح بسرح لأهل المدينة ، فاستاقه ، فلما كان عام الحديبية ، خرج شريح إلى مكة معتمرا ، ومعه تجارة ، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . وقال السدي: اسمه الحطم ابن هند البكري . قال: ولما ساق السرح جعل يرتجز:
[ ص: 271 ]
قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم
خدلج الساقين ممسوح القدم
والثاني: أن ناسا من المشركين جاؤوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلين بعمرة ، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم ، فنزل قوله (ولا آمين البيت [ ص: 272 ] الحرام) . قال ابن قتيبة: وشعائر الله: ما جعله الله علما لطاعته .
وفي المراد بها هاهنا سبعة أقوال .
أحدها: أنها مناسك الحج ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ، ولا يطوفون بينهما ، فقال الله تعالى: لا تستحلوا ترك ذلك .
والثاني: أنها ما حرم الله تعالى في حال الإحرام ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثالث: دين الله كله ، قاله الحسن . والرابع: حدود الله ، قاله عكرمة ، وعطاء . والخامس: حرم الله ، قاله السدي .
والسادس: الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام ، قاله أبو عبيدة ، والزجاج .
والسابع: أنها أعلام الحرم ، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة ، ذكره الماوردي ، والقاضي أبو يعلى .
[ ص: 273 ] قوله تعالى: ولا الشهر الحرام قال ابن عباس : لا تحلوا القتال فيه .
وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال .
أحدها: أنه ذو القعدة ، قاله عكرمة ، وقتادة .
والثاني: أن المراد به الأشهر الحرم . قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل سنة فيقول: ألا إني قد أحللت كذا ، وحرمت كذا .
والثالث: أنه رجب ، ذكره ابن جرير الطبري . و "الهدي": كل ما أهدي إلى بيت الله تعالى من شيء . وفي القلائد قولان .
أحدهما: أنها المقلدات من الهدي ، رواه العوفي عن ابن عباس .
والثاني: أنها ما كان المشركون يقلدون به إبلهم وأنفسهم في الجاهلية ، ليأمنوا به عدوهم ، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلا في الأشهر الحرم ، فمن لقوه . مقلدا نفسه ، أو بعيره ، أو مشعرا بدنه ، أو سائقا هديا لم يتعرض له . قال ابن عباس : كان من أراد أن يسافر في غير الأشهر الحرم ، قلد بعيره من الشعر والوبر ، فيأمن حيث ذهب . وروى مالك بن مغول عن عطاء قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم ، فيأمنون به إذا خرجوا من الحرم ، فنزلت هذه الآية . وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من [ ص: 274 ] السمر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة شعر ، فلم يعرض له أحد .
وقال الفراء: كان أهل مكة يقلدون بلحاء الشجر ، وسائر العرب يقلدون بالوبر والشعر . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .
أحدها: لا تستحلوا المقلدات من الهدي . والثاني: لا تستحلوا أصحاب القلائد . والثالث: أن هذا نهي للمؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم ، فيتقلدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم ، رواه عبد الملك عن عطاء ، وبه قال مطرف ، والربيع بن أنس .
قوله تعالى: ولا آمين البيت الحرام "الآم": القاصد ، و "البيت الحرام": الكعبة ، و "الفضل": الربح في التجارة ، والرضوان من الله يطلبونه في حجهم على زعمهم . ومثله قوله: وانظر إلى إلهك الذي [طه: 97] وقيل: ابتغاء الفضل عام ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة .
قوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا لفظه لفظ الأمر ، ومعناه: الإباحة ، نظيره فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [الجمعة: 10] وهو يدل على إحرام متقدم .
[ ص: 275 ] قوله تعالى: ولا يجرمنكم وروى الوليد عن يعقوب "يجرمنكم" بسكون النون ، وتخفيفها . قال ابن عباس : لا يحملنكم ، وقال غيره: لا يدخلنكم في الجرم ، كما تقول: آثمته ، أي: أدخلته في الإثم . وقال ابن قتيبة: لا يكسبنكم يقال: فلان جارم أهله ، أي: كاسبهم ، وكذلك جريمتهم . وقال الهذلي ووصف عقابا:
جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا
والناهض: فرخها ، يقول: هي تكسب له ، وتأتيه بقوته . و "الشنآن": البغض ، يقال: شنئته أشنؤه: إذا أبغضته . وقال ابن الأنباري: "الشنآن": البغض ، و "الشنآن" بتسكين النون: البغيض . واختلف القراء في نون الشنآن ، فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي: بتحريكها ، وأسكنها ابن عامر ، وروى حفص عن عاصم تحريكها ، وأبو بكر عنه تسكينها ، وكذلك اختلف عن نافع .
