بين الحَكَمَيْن
بعد مشاورات كثيرة ومحاورات، واختلاف في الرأي على أساس القضية، فكان أبو موسى الأشعري يؤيد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في أنه تجب له البيعة من معاوية، ومن معه، وبعد أن تستقر الأمور يُؤخذ الثأر من قتلة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، ولكن عمرو بن العاص طالب بقتلهم أولًا، أو تسليمهم إليهم ليقتلوهم، وبعدها يبايعون، فلما تحدثا في هذا الأمر كثيرًا، ولم يصلا إلى شيءٍ، اتفقا على أن يُترك أمر تحديد الخلافة إلى مجموعة من الصحابة الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ، وهم أعيان وكبار الصحابة، وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه من السابقين الأولين، ولا يكون فيهم معاوية بن أبي سفيان، ولا عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ لأنهما ليسا من السابقين، ويُستعان برأيهما إن رأى القوم أن يستعينوا برأيهما، وإن لم يروا فلا يستعينوا برأيهما.
واتفقوا بحضور الشهود على أن يكون هذا الاجتماع في العام المقبل في دومة الجندل، وذلك بعد أن يذهب هؤلاء الأعيان، ويتباحثون في الأمر ويرون الأولى به، وقد يكون الأولى به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو الأقرب إلى الاحتمال، خاصة وأن هذه المجموعة هي التي اختارت عليًا - رضي الله عنه - ابتداءً، وليس عندهم اعتراض على شخصيته، ولكن عمرو بن العاص رأى أنه ربما تغيّرت الآراء بعد ما جرى من أحداث.
وإلى أن يحين موعد هذا الاجتماع يحكم كلٌ من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - ما تحت يده في الدولة الإسلامية، وبعد تعيين الخليفة الجديد على الجميع أن يطيع الخليفة الجديد سواءً رأى قتل قتلة عثمان أولًا أو رأى تأخير ذلك.
ومن الواضح أن الحكم في ظاهره لصالح علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، خاصة وأن معاوية وعمرو بن العاص قد خرجا من الأمر تمامًا، ولم يكن لهما رأي في اختيار الخليفة الجديد.
وتفرق المسلمون على هذا الأمر، وهم راضون تمامًا حتى يجتمع كبار الصحابة لتحديد الخليفة، ولما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - رضي به، وكذلك عندما وصل إلى معاوية - رضي الله عنه -.
لكن الرواية الشيعية الكاذبة تقول: إن عليًا لما بلغه هذا الأمر غضب، وجهّز الجيوش لمحاربة معاوية ومن معه، وهذا ما لم يحدث على الإطلاق.
مقتل الإمام علي وعام الجماعة
مقدمة
بعد أن تم أمر التحكيم اشتد أمر الخوارج، وأرسلوا رجلين منهم فقالا له:يا علي لا حكم إلا لله.
فقال: نعم، لا حكم إلا لله.
وقد قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قبل ذلك: إن هذه كلمة حق أُريد بها باطل، فالخوارج يؤولونها على غير ما يراد بها.
فقال له هذان الرجلان من الخوارج: تب من خطيئتك، واذهب بنا إليهم نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: قد كتبنا بيننا وبين القوم عهودًا، وقد قال الله - تعالى -: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) [النحل: 91].
فقال أحدهما: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله، لأقاتلنك، أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه.
فقال علي - رضي الله عنه -: تبًا لك، ما أشقاك، كأني بك قتيلًا تسفي عليك الريح.
فقال الرجل: وددت أن قد كان ذلك.
فقال علي: إنك لو كنت محقًا كان في الموت تعزية لك عن الدنيا، ولكن الشيطان استهواكم.
فخرجا من عنده يحرّضان الناس تحريضًا على الخروج على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وأعلنوا صراحة تكفيرهم لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وتكفيرهم لمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وعمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهم - جميعًا، وكفّروا كل من رضي بالتحكيم، ومن كفر وجب قتله؛ لأنه أصبح مرتدًا، وبهذا استباحوا دماء من رضي بالتحكيم، واجتمعوا في بيت عبد الله بن وهب الراسبي، وهو أحد زعمائهم، فخطبهم خطبة بليغة زهّدهم في الدنيا، ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال لهم:
فاخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد.
الخوارج ويوم النهروان
اجتمعوا هؤلاء جميعًا في مكان يُسمّى النهروان، وبدءوا يدعون من على شاكلتهم من الطوائف الأخرى، وقالوا: يجب أن نخرج منكرين لهذا التحكيم.
ثم قام زعيم آخر من زعمائهم وقال: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون.
وقام لهم زيد بن حصن الطائي، وتلا عليهم آيات كثيرة من القرآن الكريم منها: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ) [ص: 26].
وهو يقصد بهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأرضاه، وقال أيضًا: قال الله - تعالى -: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) [المائدة: 44].
وكفّر عليًّا ومن معه، ومعاوية ومن معه، وأخذوا يئولون الآيات حسب ما يريدون، ثم قام آخر فحثّهم على الجهاد في سبيل الله، فبكى منهم رجل يُقال أنه عبد الله بن سخبرة السلمي تأثرًا بهذه الكلمات، وحثّ الناس على الخروج لقتل هؤلاء الكفار، وقال: اخرجوا، اضربوا في وجوههم، وجباههم بالسيوف، حتى يُطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم، وأُطيع الله كما أردتم، أنابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قُتلتم فأي شيءٍ أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته.
وبدءوا يحمّسون أنفسهم، والناس على الخروج على المسلمين الذين هم في نظرهم كفارًا.
ويعلّق ابن كثير على مواقفهم هذه فيقول: إن هؤلاء الخوارج من أغرب بني آدم، فسبحان مَنْ نَوّع خَلْقَهُ كما أراد.
وقال فيهم الكثير من العلماء: إنهم ممن ينطبق عليهم قول الله - تعالى -: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 103- 105].
فجمّعوا قواهم، وقرروا الخروج إلى المدائن في شمال شرق الكوفة، لكنهم غيّروا وجهتهم؛ لقوة المدائن ومنعتها، واتجهوا إلى مكان آخر قريب من الكوفة، وبدءوا يقطعون الطرق، ويقتلون المسلمين بحجة أن من رضي بالتحكيم فهو كافر مرتد يجب قتله، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وقتلوا زوجته رغم أنها كانت حاملًا.
فلما زاد فحشهم وكثرت جرائمهم قرر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يقاتلهم، فخرج لهم بجيش كبير اختلف الرواة في تقدير عدده، ولكنه على أي حال كان يزيد كثيرًا عن جيش الخوارج.
وقبل أن يدخل معهم في قتال أراد - رضي الله عنه - أن يجنّب المسلمين شر القتال بعد ما حدث في موقعتي الجمل وصفين، وقُتلت الأعداد الكبيرة من المسلمين، فبعث إليهم من يقول لهم: عودوا إلى طاعة أميركم، يحكم بينكم فيقتل مَنْ قتل أحدًا من المسلمين، ويعفو عن من لم يقتل.
فاجتمعوا وقالوا: كلنا قتل إخوانكم، وقد استحللنا دمائهم ودمائكم.
خرج إليهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بنفسه، وبدأ في وعظهم، فقال لهم: ارجعوا إلى ما خرجتم منه، ولا ترتكبوا محارم الله، فإنكم قد سولّت لكم أنفسكم أمرًا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيمًا عند الله - سبحانه وتعالى -، فكيف بدماء المسلمين؟
فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا بينهم: لا تخاطبوهم، ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الرب - عز وجل -، "الرواح الرواح إلى الجنة"، وكان هذا شعارهم.
رتّب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جيشه، وجعلت راية أمان مع الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، وقال: من ذهب إلى هذه الراية فهو آمن. أملًا في تقليل عدد من يُقتل.
وذكرنا قبل ذلك أن عدد الخوارج في البداية كان اثنا عشر ألفًا، ولما حاورهم عبد الله بن العباس - رضي الله عنه - تاب منهم أربعة آلاف، ورجعوا معه إلى علي - رضي الله عنه -، وبعد المحاورات والمناقشات الأخيرة رجع أربعة آلاف آخرون، وبقي أربعة آلاف على رأيهم.
والتقى الجيشان فكانوا على أهبة الاستعداد للقتال، فعاد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من جديد وقال لهم: هذه راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، من توجه إليها فهو آمن، ومن عاد إلى الكوفة فهو آمن، ومن ذهب إلى المدائن فهو آمن.
فبدأ البعض منهم بالانسحاب إما مكرًا وخديعة؛ ليخرج بعد ذلك، وإما خوفًا، فمنهم من توجه إلى راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - وأرضاه، ومنهم من توجه إلى الكوفة أو المدائن، وتركهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما وعدهم، وبقي منهم ألف صامدون لقتال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وجيشه - الذي قيل في روايات كثيرة إن قوامه كان ما بين الستين والثمانية وستين ألفًا - فقرر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قتلهم.
ونذكر في هذا الشأن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تنبأ بظهور هذه الطائفة العجيبة، فقد روى الإمام مسلم عن زَيْد بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ، وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ)).
وفي البخاري ومسلم قَالَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا، فَوَاللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وعند الإمام أحمد عَنْ طَارِقِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَتَلَهُمْ ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ، لَا يُجَاوِزُ حَلْقَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنْ الْحَقِّ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، سِيمَاهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ رَجُلًا أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ فِي يَدِهِ شَعَرَاتٌ سُودٌ، إِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ)). فَبَكَيْنَا.
وعند أبي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ، وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ، وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سِيمَاهُمْ؟
قَالَ: ((التَّحْلِيقُ)).
وورد مثل هذه الأحاديث عن كثير من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من دلالات نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وروى الإمام أحمد عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ نِسَائِهِ. قَالَ: فَقُمْنَا مَعَهُ، فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ فَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ يَخْصِفُهَا، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَضَيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ يَنْتَظِرُهُ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ: ((إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ)).
فَاسْتَشْرَفْنَ ا وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ: ((لَا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ)).
قَالَ: فَجِئْنَا نُبَشِّرُهُ.
قَالَ: وَكَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ". صححه الألباني.
فكانت هذه الأحاديث بشارات بالجنة، وبالثواب الجزيل لمن يقتل هؤلاء، وخطب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في جيشه يحفزّهم على القتال، وبدأ القتال بين الفريقين، وثبتوا ثباتًا عجيبًا حتى قُتل منهم ستمائة، وجُرح أربعمائة.
قال أبو أيوب الأنصاري: طعنت رجلًا من الخوارج بالرمح فأنفذته في ظهره، فأيقن أنه ميت، فقلت: أبشر يا عدو الله بالنار.
فقال: ستعلم أينا أولى بها صليًا.
فهو إلى آخر لحظةٍ في حياته مُصِرّ على ما هو عليه.
بعد انتهاء المعركة سريعًا، سلّم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الأربعمائة إلى ذويهم ليداووهم، وردّ أسلابهم، وأعطاهم فرصة أخرى للتوبة، وسميت هذه المعركة معركة النهروان.
ولكن يبقى الدليل الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علامة هؤلاء القوم، وهو الرجل ذو الثدية، فأرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أناس من جيشه ليبحثوا عنه، فلم يجدوه، فرجعوا إليه، وأخبروه بذلك، فقال - رضي الله عنه - في منتهى الثقة: "والله ما كَذبتُ وما كُذبتُ، لئن أخرّ من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عودوا إليهم فستجدوه".
فعادوا، فلم يجدوه، فأخبروه - رضي الله عنه -، فأعاد عليهم ما قاله لهم قبل ذلك، فعادوا للمرة الثالثة، فوجدوه تحت مجموعة من القتلى على ضفاف النهر، فأخرجوه وكان أسودًا شديد السواد، منتن الريح، ووجدوا فيه العلامة.
فلما أُخبر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بذلك سجد لله شكرًا، وسجد معه القوم سجدة طويلة يشكرون الله - تعالى -على أن وفقهم لهذا الخير من قتل هؤلاء الخوارج.
وكان قتال هؤلاء الخوارج أواخر سنة 37 هـ، أو أوائل سنة 38 هـ، وهو الأصح.
أما الخوارج الذين رجعوا عن قتال جيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وذهبوا إلى راية الأمان عند أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، أو ذهبوا إلى البلاد القريبة، فلم يرجعوا عن اقتناع منهم بأنهم على الباطل، وإنما كان رجوعهم إما خوفًا، وإما تَقِيَّة، وإما استعدادًا وترتيبًا لقتال آخر في وقت لاحق، وظلّوا طوال هذا العام يخرجون على عليٍّ - رضي الله عنه - واحدًا تلو الآخر، فبعد موقعة النهروان التي قُتل فيها ستمائة وجُرح أربعمائة خرج عليه - رضي الله عنه - رجل يُسمّى الحارث بن راشد الناجي مع مجموعة من قومه وردد نفس المقولة: لا حكم إلا لله. وقاتلهم علي - رضي الله عنه -، وقتل منهم الكثير، كما خرج عليه أيضًا الأشهب بن بشر البجلي، وغيره كثير، وقاتلهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جميعًا، فكان أمر الخوارج هذا يقلّب الأمور على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في الكوفة، ولم يكن جيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لينًا سهلًا في يده يسمع له ويطيع كما ينبغي، فكان دائم الانقلاب عليه، وكثير الاعتراض على كثير من الأمور التي يراها عليّ - رضي الله عنه - مع أنه خير أهل الأرض في ذلك الوقت.
أما الموقف في الشام فكان جيش معاوية - رضي الله عنه - يطيعه تمامًا، ولم يكن هناك أي حالة خروج عليه - رضي الله عنه -.
فكان هذا ابتلاء من الله - تعالى -لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
الموقف في مصر
كانت مصر بعيدة عن ساحات القتال، كان يتولّى أمر مصر في هذا الوقت محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأرضاه من قِبل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ولكن محمد بن أبي بكر - رضي الله عنه - لم يستطع السيطرة على الأمور بشكل كامل في مصر، وخاصة بعد وقعة صفين، وبعد خروج الخوارج على علي - رضي الله عنه -، وبدأت تقوى شوكة مَنْ هم على رأي معاوية، وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - من وجوب أخذ الثأر من قتلة عثمان - رضي الله عنه - قبل مبايعة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهذا لسببين:
الأول: أن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - كان صغير السن، فلم يكن عمره يتجاوز 26 سنة عندما تولّى الأمور في مصر.
السبب الثاني: أن تولية محمد بن أبي بكر - رضي الله عنهما - لأمر مصر أثار حفيظة هؤلاء الذين يرون وجوب قتل من قتل عثمان - رضي الله عنه - أولًا قبل المبايعة؛ وذلك لأن محمد بن أي بكر - رضي الله عنهما - كان ممن شارك في حصار عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وكان من أهل الفتنة ابتداءً، وهو الصحابي الوحيد الذي شارك في هذا الأمر، ولكننا ذكرنا أنه رجع عن هذا الأمر، وتاب بين يدي عثمان - رضي الله عنه - لمّا ذكّره بأبيه أبي بكر - رضي الله عنه -، فبكى، وندم، وأخذ يدافع عنه، ويرد عنه أهل الفتنة، ولكن القوم غلبوه، ودخلوا على عثمان - رضي الله عنه -، وقتلوه، وشهدت بذلك السيدة نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
وبدأ القوم يفكرون في القيام بثورة على محمد بن أبي بكر، وازدادت شوكتهم، وبدأت يد محمد بن أبي بكر - رضي الله عنه - تضعف على مصر، فلما علم بذلك معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وكانت مصر أقرب إليه منها لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكان يتزعم العثمانيين كما سموا أنفسهم في مصر معاوية بن حديج السكوني، والذي كان على مقدمة الجيش الذي كان قادمًا لنصرة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قبل مقتله، ثم عاد مرة أخرى لما علموا بمقتله - رضي الله عنه -.
وأرسل معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - جيشًا قوامه ستة آلاف للسيطرة على الأمور في مصر بقيادة عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، وكان - رضي الله عنه - خبيرًا بمصر قبل ذلك، فقد كان هو أول من فتحها، وتولّى إمارتها فترة طويلة في عهد عمر وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما -، حتى تولّى الأمور عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وانضم الستة الآف الذين معه إلى عشرة الآف أخرى كانت مع معاوية بن حديج في مصر، فصاروا ستة عشر ألفًا، وتعاونا معًا، واستنفر محمد بن أبي بكر - رضي الله عنه - أهل مصر للخروج معه، وكان الكثير منهم من أهل اليمن ممن يسكنون مصر، فأبوا عليه، ورفضوا، فحثهم على الجهاد في سبيل الله فخرج معه على أكبر تقدير ألفان من المسلمين، وعلم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بهذا الأمر، فأرسل قوة كان فيها الأشتر النخعي لمساندة محمد بن أبي بكر ومن معه، ولما وصل الأشتر النخعي إلى مصر وفي منطقة تُسمى (القلزم) استقبله أحد الناس، وأعطاه شربة عسل، فلما شربها مات فقد كانت مسمومة، فقيل أن الذي أشار على الرجل إعطاء الأشتر النخعي تلك الشربة المسمومة هو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وهذا الرواية فيها نظر وفيها ضعف، وإن صحت ففيها حجة قوية لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه؛ لأنه يستحل دماء كل من شارك في قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وما كل هذه الحروب والمعارك إلا لهذا الأمر، وكان الأشتر النخعي ممن حاصر عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وممن شجّع الناس على هذا الأمر.
فلما مات الأشتر النخعي ضعفت قوة وبأس فريق محمد بن أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن الأشتر كان صاحب كلمة ورأي، وكان علمًا من أعلام القتال، ولما علم معاوية، وعمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنه مات بهذه الطريقة قالا: سبحان الله، إن لله جنودًا من عسل.
كان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يريد أن تسير الأمور دون قتال، أرسل رسالة إلى محمد بن أبي بكر - رضي الله عنه - يقول له: إني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، فإن الناس قد اجتمعوا في هذه البلاد على خلافك، ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك إن التقينا، فاخرج منها، فإني لك لمن الناصحين والسلام.
لكن محمد بن أبي بكر - رضي الله عنه - لم يسمع لهذه الكلمات، وتقاتل الفريقان، فكان النصر في جانب عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وهُزمت القلّة القليلة التي كانت مع محمد بن أبي بكر، وقُتل - رضي الله عنه - أثناء القتال، وقيل تبِعه بعض أهل الشام بعد القتال، فقتلوه في خِربة قريبة من موقع المعركة التي دارت بين الفريقين.
وقد حزن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على قتله، فقد تربى محمد بن أبي بكر - رضي الله عنه - في حجره - رضي الله عنه -، فقد تزوّج عليٌّ - رضي الله عنه - السيدة أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - بعد وفاة زوجها أبي بكر - رضي الله عنه -، وانقضاء عدتها، وربّى محمد بن أبي بكر - رضي الله عنهما -.
كما حزنت السيدة عائشة - رضي الله عنها - حزنًا شديدًا لقتله، وضمّت إليها أولاده لرعايتهم.
تمّت السيطرة بالفعل لعمرو بن العاص على مصر، وأصبح واليًا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وأصبحت الشام ومصر تحت سيطرة معاوية بن سفيان - رضي الله عنه -.
أما على الساحة العراقية، فقد كان القوم ينقلبون على عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - يومًا بعد يوم، حتى غضب عليهم غضبًا شديدًا، وخطب فيهم خطبة طويلة قال فيها: المغرور والله من غررتموه، ولَمَن فارقكم فاز بالسهم الأصيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيت به منكم، عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
يعلّق ابن كثير - رحمه الله - على هذا الأمر فيقول: وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العرق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان؛ أعبدهم، وأزهدهم، وأعلمهم، وأخشاهم لله - عز وجل -، ومع هذا كله خذلوه حتى كره الحياة، وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ما يحبس أشقاها؟! أي ما الذي يجعل أشقاها ينتظر؟.
وأشقاها هو مَنْ يقتل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأرضاه، فهو - رضي الله عنه - يريد أن يستريح من عناء هؤلاء القوم الذين يجادلونه، ولا يطيعون له أمرًا، ويتمنّى الموت حتى يفارقهم، وقد ورد في هذا أحاديث منها ما رواه الإمام أحمد بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ فِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ بْنُ بَعْجَةَ، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَلِيُّ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ.
فَقَالَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: بَلْ مَقْتُولٌ ضَرْبَةٌ عَلَى هَذَا تَخْضِبُ هَذِهِ- يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ- عَهْدٌ مَعْهُودٌ، وَقَضَاءٌ مَقْضِيٌّ، وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى.
وعن عثمان بن صهيب، عن أبيه، قال علي: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ؟)) .
قلت: عاقر الناقة.
قال: ((صَدَقْتَ، فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ؟)).
قلت: لا علم لي.
قال: ((الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا))، وَأَشَارَ إِلَى يَافُوخِهِ.
وكان يقول: وددت لو أنه قد انبعث أشقاكم، فخضب هذه من هذه، يعني لحيته من دم رأسه.
يتبع