هل في عدم قبول شهادة المرأة، وتنصيف شهادتها ظلم لها؟
أولا لابد من التسليم بما قاله القرآن في ذلك سواء أدركنا الحكمة، أو لم ندركها، وليس في هذا نقصٌ، ولا عيب في الشريعة الإسلامية، ولا إهانة للمرأة المسلمة؛ إذا مرد عدم المساواة بينهم جميعا يعود إلى أسرار: منها ما نطلع عليه، ومنها ما لا نطلع عليه؛ لقصور عقولنا عن إدراك ذلك، وقد قال بعض العلماء: إن الحكمة في كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل هو تعرضها للنسيان كثيرا عند تحمل الشهادة، وعند أدائها، كما أنها تتأثر عاطفيا ونفسيا، وكثيرا ما ينحرف مزاجها مما يجعلها مظنة خطأ في تصوير ما تشاهده؛ لذلك احتاط الدين في القضاء بشهادتها منفردة، وضم إليها أخرى؛ للاستيثاق، وقد أكَّد العلم الحديث هذا السبب[41]؛ لذلك كان استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط، وما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة، لم تكن فيه على نصف رجل، وما تقبل فيها شهادتهن منفردات إنما هي أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال، والارتضاع، والحيض، والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى إعمال العقل، كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره، فإن هذه معان معقولة، ويطول العهد بها في الجملة[42].
وقد توهم البعض أن في هذا إهانة لكرامة المرأة المسلمة بالرغم ما وصلت إليه من علم وثقافة، والجواب عنه بالآتي:
1- لقد عززت الشريعة الإسلامية الشهادة في القضايا المالية بصورة مطلقة بشهادة رجل آخر إلى جانب الرجل الأول؛ حتى لا تكون الشهادة عُرضة للاتهام، ولم يقل أحد: إن هذا يمس كرامة الرجل، فضلا على أن شهادة الرجل وحده لا تُقبل وحده في أحقر القضايا المالية، بينما نجد أن المرأة تُقبل شهادتها منفردة فيما هو أخطر وأعظم من ذلك كما في الولادة، وما يلحقها من نسب، وإرث[43].
2- إن المساواة بين الرجال والنساء ليست مطلقة، بل الشريعة قد ساوت بينهم في الحقوق الإنسانية، وعدلت في الحقوق المادية، كالإرث، والدية، وهناك ما يمنع المساواة شرعا، كتحريم تعدد الأزواج بالنسبة للمرأة، بينما أباحه للرجل، ولم يقل أحد: إن هذا إهانة للمرأة، بل الجميع يسلم بأن في المساواة إهانة كبيرة، وإساءة بالغة لها، فكذلك القول هاهنا.
وكذلك هناك مانع طبيعي يمنع مساواة الرجل والمرأة في المطالبة بالإنفاق على الأسرة، فطبيعة الرجل العمل في جميع الأمكنة، والأزمنة، والمرأة ليست كذلك، فهي غير مكلفة شرعا بالإنفاق على الرجل، وأولادها، ولم يقل أحد: إن هذا إهانة للمرأة، بل الجميع يسلم بأن الرجل هو المكلَّف شرعا بالإنفاق على الأسرة، وفي هذا تكريم للمرأة، وتشريف لها[44].
قال ابن الهمام رحمه الله: «إنَّ جَعْل الشارع الثنتين في مقام رجل ليس لنقصان الضبط ونحو ذلك بل لإظهار درجتهن عن الرجال ليس غير، ولقد نرى كثيرا من النساء يضبطن أكثر من ضبط الرجال؛ لاجتماع خاطرهن أكثر من الرجال؛ لكثرة الواردات على خاطر الرجال، وشغل بالهم بالمعاش، والمعاد، وقلة الأمرين في جنس النساء»[45].
وقال الشيخ محمد عبده رحمه الله «ت 1323هـ»: تكلم المفسرون في ذلك وجعلوا سببه المزاج، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة، ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، يعني أن من طبع البشر ذكرانا وإناثا أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض نساء الأجانب في هذا العصر بالأعمال المالية فإنه قليل لا يعول عليه، والأحكام العامة إنما تناط بالأكثر في الأشياء، وبالأصل فيها[46].
ونقل هذا الكلام بنصه الشيخمحمد رشيد رضا رحمه الله «ت 1354هـ»[47].
[1]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 324)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 293)، والماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (17/ 8)، وابن قدامة، المغني، (14/ 127).
[2]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 323)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 293).
[3]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 322)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 293).
[4]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 323)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 293).
[5] يُنْظَر: مالك بن أنس، المدونة الكبرى، (4/ 24)، وابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، (2/ 637)، وابن جُزَي، القوانين الفقهية، صـ (378)، والعبدري، التاج والإكليل لمختصر خليل، (8/ 209)، والعدوي، حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، (2/ 344).
[6]يُنْظَر: الشافعي، الأم، (8/ 117، 190-191)، والماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (17/ 8)، والنووي، منهاج الطالبين وعمدة المفتين في الفقه، صـ (347)، والشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (6/ 368).
[7] يُنْظَر: مالك بن أنس، المدونة الكبرى، (4/ 24)، كفاية الطالب الرباني، (2/ 344).
[8] يُنْظَر: ابن قدامة، المغني، (14/ 127).
[9]يُنْظَر: الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (17/ 8).
[10]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 326)، والماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (17/ 9)، وابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج في شرح المنهاج، (10/ 249)، والشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (6/ 368).
[11] يُنْظَر: ابن العربي، أحكام القرآن، (4/ 283).
[12] صحيح: أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (13718)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1858).
[13] يُنْظَر: زكريا الأنصاري، أسنى المطالب في شرح روض الطالب، (4/ 361)، وابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج في شرح المنهاج، (10/ 249)، والشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (6/ 368).
[14] ضعيف: أخرجه ابن حزم، المحلى بالآثار، (8/ 478)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل، (2682).
[15] يُنْظَر: زكريا الأنصاري، أسنى المطالب في شرح روض الطالب، (4/ 361)، وابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج في شرح المنهاج، (10/ 249)، والشربيني، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (6/ 368).
[16] يُنْظَر: ابن حزم، المحلى بالآثار، (8/ 488).
[17] يُنْظَر: الشوكاني، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، صـ (770).
[18]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 328)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 295).
[19] يُنْظَر: الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (17/ 9)، وابن قدامة، المغني، (14/ 127-128).
[20] يُنْظَر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (6/ 279).
[21] يُنْظَر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (6/ 279).
[22]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 323)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 293).
[23]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 323)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 293).
[24]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 323)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 293).
[25]يُنْظَر: ابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 323)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 293).
[26] يُنْظَر: الطحاوي، مختصر اختلاف العلماء، (3/ 345)، والكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (6/ 279)، وابن الهمام، فتح القدير شرح الهداية، (7/ 370)، وابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، (7/ 62).
[27]يُنْظَر: ابن قدامة، المغني، (14/ 127)، والمرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، (30/ 16).
[28]يُنْظَر: الكوسج، مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، (961)، وابن المنذر، الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف، (7/ 323)، والإشراف على مذاهب العلماء، (4/ 293).
[29] يُنْظَر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (6/ 279)، وابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، (7/ 62).
[30] يُنْظَر: ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، (7/ 62).
[31]يُنْظَر: الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (17/ 9).
[32] يُنْظَر: ابن العربي، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، (2/ 885)، والمسالِك في شرح موطأ مالك، (6/ 258-259)، وابن الهمام، فتح القدير شرح الهداية، (7/ 371).
[33] يُنْظَر: أَخْرَجَهُ عبد الرزاق، مصنف عبد الرزاق، (15416)، وابن أبي شيبة، المصنف في الأحاديث والآثار، (22689)، وسعيد بن منصور، سنن سعيد بن منصور، (875)، وابن حزم، المحلى بالآثار، (8/ 480).
[34] يُنْظَر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (6/ 279).
[35] يُنْظَر: ابن حجر العسقلاني، تقريب التهذيب، (1119)، والبيهقي، السنن الكبرى، (7/ 205، 10/ 249).
[36] يُنْظَر: ابن حجر العسقلاني، تقريب التهذيب، (241).
[37]يُنْظَر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (6/ 280)، وابن قدامة، المغني، (14/ 127)، وابن الهمام، فتح القدير شرح الهداية، (7/ 372)، وابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، (7/ 62).
[38]يُنْظَر: الماوردي، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، (17/ 9).
[39] يُنْظَر: ابن قدامة، المغني، (14/ 128).
[40] يُنْظَر: د.محمد حسن أبو يحيى، حكم شهادة النساء في العقوبات، صـ (184).
[41] يُنْظَر: محمد رشيد رضا، تفسير المنار «تفسير القرآن الحكيم»، طبعة: دار المنار- مصر، ط2، 1366هـ، 1947م، (3/ 124)، الشيخ عطية صقر، موسوعة أحسن الكلام في الفتاوى والأحكام، (5/ 132)، ود.محمد حسن أبو يحيى، حكم شهادة النساء في العقوبات، صـ (184)، والشيخ محمد الغزالي، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، صـ (103-108).
[42] يُنْظَر: ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، طبعة: مكتبة دار البيان- مصر، بدون طبعة، وبدون تاريخ، صـ (128).
[43]ينظر: د. علي جمعة، المرأة في الحضارة الإسلامية بين نصوص الشرع، وتراث الفقه، صـ (42).
[44] يُنْظَر: د. محمد حسن أبو يحيى، حكم شهادة النساء في العقوبات، صـ (185).
[45] ابن الهمام، فتح القدير شرح الهداية، (7/ 371-372).
[46] يُنْظَر: محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق: د. محمد عمارة، طبعة: دار الشروق- مصر، ط1، 1414هـ، 1993م، (4/ 732).
[47] يُنْظَر: محمد رشيد رضا، تفسير المنار «تفسير القرآن الحكيم»، (3/ 124-125).