
27-03-2022, 03:17 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,240
الدولة :
|
|
رد: لماذا ندرس الفتنة الكبرى؟
فأيهما أشد في ميزان الإسلام؟!
أن تتفكك الدولة الإسلامية ويصبح كل أمير على مصر من الأمصار، كما هو حالنا اليوم، أم يصبر على قتل عثمان رضي الله عنه- والذي قُتل بالفعل- إلى أن تدين له كل أطراف الدولة الإسلامية، ويستقر الحكم، وتهدأ الفتن، ثم يعاقب كلًا بما يستحق.
وهذه الأمور كلها من الأمور الاجتهادية، والحق فيها ليس واضحًا لأيٍّ من الأطراف تمام الوضوح، وعلي - رضي الله عنه - عندما يأخذ قرارًا من القرارات يفكر كثيرًا قبل أن يصدره، ويستشير، ثم يخرج بالقرار في النهاية، وكانت الأمور في منتهى الغموض كما يقول من يصف الفتنة: أنها "يبيت فيها الحليم حيرانًا"، وقد تحيّر الصحابة رضوان الله عليهم كثيرًا في هذه الأمور، ولم يأخذوا قرارهم إلا بعد تفكير عميق، وفكر ثاقب، واجتهدوا قدر استطاعتهم، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، وهم ليسوا بمعصومين، وهم جميعًا من أهل الاجتهاد حتى لا يقول أحد:
ولِمَ اجتهدوا في وجود علي - رضي الله عنه -، وهو أفقههم وأعلمهم؟
إنهم جميعًا - رضي الله عنهم - من أهل الاجتهاد، فالسيدة عائشة - رضي الله عنها - من أهل الاجتهاد، والزبير بن العوّام - رضي الله عنه - من أهل الاجتهاد، وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - من أهل الاجتهاد، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، والذي ترك الأمور واعتزل من أهل الاجتهاد، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - من أهل الاجتهاد.
إذن فعليٌ - رضي الله عنه - وأرضاه، ومن حاربوه جميعًا مجتهدون، والمجتهد يحق له أن يجمع بين الأمور، وأن يأخذ ما يراه مناسبًا منها، وعلينا ألا نلّوث ألستنا، أو عقولنا بظنٍ سيئٍ فيهم، والأحداث لا تتضح إلا بعد انتهائها.
أرسل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - أميرًا على البصرة، فذهب إليها، واعتلى المنبر، وأخبرهم بأنه الأمير عليهم من قِبل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أما أميرهم الأول عبد الله بن عامر، فقد كان ممن يطالبون بدم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأرضاه، وذهب إلى مكة.
وولّي على مصر قيس بن سعد، ودان له أغلب أهلها، إلا فئة قليلة آثرت الاعتزال في إحدى القرى دون أن تبايع، ودون أن تقاتل مَنْ بايع عليًا - رضي الله عنه -.
وأقرّ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أبا موسى الأشعري على إمارة الكوفة.
أما الشام فذكرنا أن عليًا - رضي الله عنه - أرسل ثلاث رسائل إلى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يطالبه فيها بمبايعته، ولكن معاوية - رضي الله عنه - قال: دم عثمان قبل المبايعة.
ولم يطلب معاوية - رضي الله عنه - وأرضاه خلافة، ولا إمارة، ولا سيطرة على الدولة الإسلامية، وإنما يريد أن يُؤخذ بثأر عثمان مِن قَتَلتِهِ سواءً أخذ هذا الثأر علي - رضي الله عنه -، أو أخذه هو بنفسه، المهم أن يتم أخذ الثأر من هؤلاء القتلة، وبعدها يبايع - رضي الله عنه - عليًا - رضي الله عنه -.
أما قبل أخذ الثأر من القتلة فلن يبايع، وكان معه سبعون ألف رجل يبكون ليلًا ونهارًا تحت قميص عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المعلّق على منبر المسجد بدمشق، ومع القميص أصابع السيدة نائلة بنت الفرافصة، وكفّها التي قُطعت، وهي تدافع عن زوجها - رضي الله عنهما -.
وفي آخر الأمر أرسل معاوية - رضي الله عنه - لعلي - رضي الله عنه - رسالة فارغة، حتى إذا فتحها أهل الفتنة في الطريق لا يقتلون حاملها، ودخل حامل الرسالة على علي - رضي الله عنه - مشيرًا بيده أنه رافض للبيعة، فقال لعلي - رضي الله عنه -:
أعندك أمان؟
فأمّنه عليٌّ - رضي الله عنه -.
فقال له: إن معاوية يقول لك: إنه لن يبايع إلا بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان، تأخذه أنت، وإن لم تستطع أخذناه نحن.
وكاد أهل الفتنة أن يقتلوا الرسول، كما كان يخشى معاوية - رضي الله عنه -، لكن عليًا - رضي الله عنه - قام بحمايته، حتى أوصله إلى خارج المدينة، ورجع الرسول إلى دمشق.
إذن فمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يرفض أن يبايع عليًا - رضي الله عنه - بعد أن تمت له البيعة الصحيحة، وبعد أن اجتمع أهل الحِلّ والعقد، وأهل بدر على اختيار علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - خليفة للمسلمين، إذن فقد أصبح معاوية - رضي الله عنه - خارجًا على الخليفة، فقرّر الخليفة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يجمع الجيوش، ويذهب إليه حتى يردّه عن هذا الخروج بالسِلْم وإلا قاتله، فأرسل علي - رضي الله عنه - لأمرائه بالأمصار أن يعدّوا الجيوش للذهاب إلى الشام لأجل هذا الأمر.
مقدمات موقعة الجمل
بعد أن قرّر عليٌّ - رضي الله عنه - الخروج لمعاوية أتته الأخبار من مكة لتغيّر من مساره تمامًا، كان بمكة السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وزوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين عدا السيدة أم حبيبة- فقد كانت بالمدينة- وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والمغيرة بن شعبة - رضي الله عنهم - جميعًا، وأيضًا يعلى بن أمية التميمي، الذي كان واليًا لعثمان - رضي الله عنه - على اليمن، ولما حدثت الفتنة جاء إلى مكة، ومعه ستمائة من الإبل، وستمائة ألف درهم من بيت مال اليمن، وعبد الله بن عامر الذي كان واليًا على البصرة من قبل عثمان - رضي الله عنه - وأرضاه، واجتمع كل هؤلاء وبدءوا في مدارسة الأمر، وكان رأيهم جميعًا، وكان منهم من قد بايع عليًا - رضي الله عنه -، أن هناك أولوية لأخذ الثأر لعثمان - رضي الله عنه -، وأنه لا يصح أن يؤجل هذا الأمر بأي حال من الأحوال، وقد تزعّم هذا الأمر الصحابيان طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام - رضي الله عنهما -.
اجتمع هؤلاء جميعًا مع السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وأرضاها، وكان تأويلهم في أمر الأخذ بدم عثمان - رضي الله عنه – أولًا: أنه لو لم يتم الأخذ بدمه في هذا الوقت نكون قد ضيّعنا حدًّا من حدود الله، وتركنا القرآن الذي يقول بالقصاص، وكانت هذه القضية هي شغلهم الشاغل، إذ كيف يتم تعطيل هذا الحدّ من حدود الله.
وكانوا يرون أن من ضيع هذا الحدّ، أو عطّله لا تصح مبايعته، ولم يكن اعتراضهم - رضي الله عنهم - على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لذاته، وإنما رأوا باجتهادهم أنه يجب أخذ الثأر أولًا لعثمان - رضي الله عنه -، وكان طلحة - رضي الله عنه -، والزبير قد بايعا، فلا يصح لهما فعل هذا الأمر، وإنما هو اجتهاد منهما، ولم يصيبا فيه، ولهما أجر، وحتى على فرض أنهما بايعا مُكرَهين، فلا يجوز لهما الخروج على قرار الإمام، ولا يصح خلع الإمام إلا بجماعة المسلمين.
قرر المجتمعون في مكة أن يجهزوا جيشًا، ويذهبوا إلى المدينة المنورة لأخذ الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه؛ لأن عليًا - رضي الله عنه - لا يستطيع أن يقاتلهم وحده، ووافقت السيدة عائشة - رضي الله عنها - على هذا الأمر، ووافقت جميع زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخروج من مكة إلى المدينة؛ لأخذ الثأر لعثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
وظهر رأي آخر يقول بالذهاب إلى الشام للاستعانة بمعاوية - رضي الله عنه - على هذا الأمر، فقال عبد الله بن عامر: إن معاوية قد كفاكم أمر الشام.
وأشار عليهم بالذهاب إلى البصرة- وكان واليًا عليها قبل ذلك- للتزود بالمدد، والأعوان منها، وكان له فيها يدٌ ورأي، وقال لهم: إن لطلحة فيها كلمة ورأي.
وقد كان - رضي الله عنه - واليًا عليها لفترة من الزمن وتأثّروا به.
فكان رأي عبد الله بن عامر أن يذهبوا إلى البصرة، ويبدءوا بقتلة عثمان الموجودين في البصرة، فيقتلونهم، ثم يذهبون بعد أن يتزودوا بالعدد، والعدة إلى المدينة فيأتون على باقي القتلة.
وأعجب هذا الرأي الجميع إلا السيدة عائشة - رضي الله عنها - فقالوا لها: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].
وأن ما تفعلينه بهذا الخروج، إنما هو إصلاح بين الناس، وليس منافيًا لقول الله - تعالى -: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [الأحزاب: 33].
ورفضت سائر زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - الخروج إلى البصرة إلا السيدة حفصة بنت عمر - رضي الله عنها -، وعن أبيها فقررت الخروج مع السيدة عائشة - رضي الله عنها - إلى البصرة، إلا أن أخاها عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال لها: إن هذا زمن فتنة، وعليك أن تقرّي في بيتك، ولا تخرجي.
فلما خاطبتها السيدة عائشة في عدم خروجها إلى البصرة قالت لها إن أخاها- أي عبد الله بن عمر- قد منعها، فقالت السيدة عائشة - رضي الله عنها -: غفر الله له.
ويتضح من هذا الموقف مدى قناعة السيدة عائشة - رضي الله عنها - وأرضاها بأمر الخروج للبصرة لدرجة أنها تَعُدّ أمر عبد الله بن عمر في منعه للسيدة حفصة - رضي الله عنها - من الخروج، تعدّ ذلك ذنبًا تستغفر اللهَ لعبد الله بن عمر منه.
كان موقف عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - هو اعتزال الفتنة من أولها إلى آخرها، وكان - رضي الله عنه - يصوّر الفتنة بأنها كغمامة جاءت على المسلمين، فلم يعد أحد يرى شيئًا، والكل يسير في طريق يريد أن يصلوا إلى الصواب، فاجتهد فريق منهم في الطريق، فوصل، فهذا عليّ ومن معه، واجتهد آخرون لكي يصلوا، ولكنهم أخطأوا الطريق، فمعاوية ومن معه، والبعض انتظر حتى تنقشع الغمامة ثم يرى الرأي، وكان هو - رضي الله عنه - من هذه الفئة، ثم يقول - رضي الله عنه -: والمجاهد أفضل.
أي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أفضل، لكن الأمر فيه خطورة كبيرة، وفيها احتمالية الخطأ في الوصول، ولم يكن علي - رضي الله عنه - يجبر أحدًا على الخروج معه في هذا الأمر، بل كان الأمر تطوعيًا، ومن اعتزل فلا شيء عليه، ولا يُجبَر على رأي من الآراء.
خرجت السيدة عائشة - رضي الله عنها - من مكة ومن معها من الناس؛ طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وأمّرت السيدة عائشة - رضي الله عنها - عبد الله بن الزبير على الصلاة، وكانت ترى أنه أعلم الناس مع وجود أبيه، وجهّز يعلى بن أميّة البعير، وكانت ستمائة بعير، وبالمال الذي أتى به معه من اليمن عندما قدم إلى مكة.
وكان عددهم عند خروجهم من مكة تسعمائة، ثم بلغ عددهم بعد قليل ثلاثة آلاف في طريقهم إلى البصرة، واشتروا للسيدة عائشة - رضي الله عنها - جملًا وركبت في الهودج فوق الجمل، وانطلقوا نحو البصرة.
علم علي - رضي الله عنه - بهذا الأمر كله، وكان حينها على نيّة الخروج للشام، لكن مع هذه المستجدات قرّر - رضي الله عنه - الانتظار حتى يرى ما تصير إليه الأمور.
السيدة عائشة - رضي الله عنها - وجيشها يصلون إلى البصرة
قدِم الجيش الذي خرج من مكة وفيه السيدة عائشة - رضي الله عنها - إلى البصرة، وقبل دخولهم أرسلوا رسائل إلى عثمان بن حنيف والي البصرة من قِبل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يُخلي البصرة لجيش السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأخذ المدد، والأخذ على يد من قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأرضاه، ولم يكن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - يعلم من قتل عثمان من أهل البصرة، ولا يعلم أيضًا من وافق من أهلها على القتل، ومن لم يوافق، ولكن مما يُذكر أن حكيم بن جبلة وهو أحد رؤوس الفتنة كان قد هرب من المدينة إلى البصرة بعد قتل عثمان - رضي الله عنه -، وكان مختبئًا في مكان لا يعلم به أحد، وهو من رءوس قومه، ومن إحدى القبائل الكبيرة.
ثم كان الحوار عن طريق الرُّسل بين السيدة عائشة، ومعها طلحة، والزبير، وبين عثمان بن حنيف والي البصرة - رضي الله عنهم - وأرضاهم جميعًا.
فأرسل إليهم عثمان بن حنيف: ما الذي أتى بكم؟
فقالت السيدة عائشة: إن نريد إلا الإصلاح.
أي أنه ما أتى بهم إلى البصرة، إلا لأنهم يريدون أن يجمعوا كلمة المسلمين، وأنهم يرون أنه لن تجتمع كلمة المسلمين إلا بعد أن يُقتل من قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
فأرسل عثمان بن حنيف إلى طلحة، والزبير - رضي الله عنهما - وقال لهما:
ألم تبايعا عليَّ بن أبي طالب؟
فقالا: بايعنا مكرَهيْن.
فوقف عثمان بن حنيف على المنبر يستشير الناسَ في هذا الأمر، فقام رجل يُسمّى الأسود بن سريع، وأشار بأنه لا بأس بأن يضع أهل البصرة يدهم في يد هذا الجيش القادم من مكة؛ لقتل قتلة عثمان ما دام لا يوجد أحد منهم في البصرة، فلما قال ذلك حُصب بالحجارة، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان أعوانًا في البصرة، وكاد أن يحدث ما يخشاه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إن قتل قتلة عثمان في هذا التوقيت.
ومن ثَمّ رفض عثمان بن حنيف والي البصرة دخول جيش السيدة عائشة - رضي الله عنها - إلى البصرة، فلما هددوه أنهم سوف يدخلون بالقوة أخذ جيشه ووقف على حدود البصرة، فقام طلحة بن عبيد الله، وخطب في الناس وذكّرهم بدم عثمان، ثم قام الزبير بن العوام، وخطب في الناس خطبة، وبقي الحال على ما هو عليه، ثم قامت السيدة عائشة - رضي الله عنها -، وخطبت في الناس خطبة عصماء بليغة، ورققت قلوب الناس لدم عثمان - رضي الله عنها -، وقالت أن من عطّل حدّا من حدود الله فلا تجب له مبايعة إلا بعد أن يأخذ هذا الحدّ، وقد جئنا لأخذ هذا الحدّ، ولو أخذ علي - رضي الله عنه - هذا الحدّ، وأقامه على مستحقيه بايعناه.
وبعد أن خطبت - رضي الله عنها - انقسم جيش عثمان بن حنيف إلى فئتين فئة مع السيدة عائشة، وجيشها وفئة ظلّت معه، وقويت شوكة جيش السيدة عائشة - رضي الله عنها -، وضعفت شوكة جيش عثمان بن حنيف، ومن معه من الموالين لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وفيهم الكثير من المؤيدين لقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، والقبائل التي منها مَن قتل عثمان، ولو لم تشترك هي في القتل، لكنهم يريدون أن يكون لهم الأمر، فلما كان هذا الأمر بدأ عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - يفكر فيما سيفعله؛ هل يصالحهم درءًا لهذه الفتنة، أم يرسل إلى علي رضي الله عنه؟
وخاف أهل الفتنة من أمر الصلح؛ لأنه لن يكون في مصلحتهم على الإطلاق، فأتى حكيم بن جبلة في هذا الوقت، ومعه قوة من قبيلته، وأنشب القتال مع جيش السيدة عائشة، وبدأ يرميهم بالسهام ويردوا عليه، ودارت الحرب بين الفريقين، وكثر القتلى وكثرت الجراح، فلما رأى عثمان بن حنيف هذا الأمر أعلن أنه يقبل الصلح والتفاهم في الأمر، وكفّ الصحابة رضوان الله عنهم في فريق السيدة عائشة - رضي الله عنها - عن القتال، واجتمع الفريقان السيدة عائشة، وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - جميعًا من ناحية، ومن الناحية الأخرى عثمان بن حنيف - رضي الله عنه -، اتفقوا على أن يرسلوا رسولًا من البصرة إلى المدينة يسأل: إن كان طلحة والزبير قد بايعا مكرهين؟
يترك عثمان بن حنيف البصرة بمن فيها، ويخليها للسيدة عائشة، وجيشها، وإن كانا قد بايعا طائعين يرجعوا جميعًا إلى مكة، ويتركوا البصرة، فأرسلوا كعب بن ثور القاضي، فلما ذهب إلى المدينة، وقف في الناس، وكان في يوم جمعةٍ، فأخبرهم بما يحدث في البصرة ثم سألهم: فهل بايع طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام مكرهيْن أم طائعيْن؟
فقام أسامة بن زيد حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابن حبّه، فقال: بل بايعا مُكرَهيْن.
فكاد أن يُقتل من قِبل أهل الفتنة، وكانت لهم سيطرة بالمدينة، لولا أن قام صهيب بن سنان الرومي، وأبو أيوب الأنصاري ودافعا عنه، وقالا له: ألا وسِعك ما وسعنا من السكوت.
وعاد كعب بن ثور إلى البصرة، وقال للقوم: بل بايعا مكرهين.
وعلم علي - رضي الله عنه - بقدوم كعب بن ثور، وعودته بهذا الخبر، فأرسل إلى عثمان بن حنيف رسالة يوضح فيها الجانب الفقهي في أمر الصلح هذا، وأنه غير جائز تمامًا، وأنهما حتى لو بايعا مكرهين، لا يصح ترك الأمر لهما يسيطرا على الأمور، والصواب أن يطيعا الخليفة، حتى وإن بايعا مكرهين، وعثمان بن حنيف - رضي الله عنه - لم يصالح إلا اضطرارًا؛ نظرًا لضعف جيشه، فأصرّ عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - على عدم تسليم البصرة لهم، وحدث القتال مرة أخرى، وقُتل حكيم بن جبلة في هذا القتال ومعه ستمائة من أهل البصرة، وأُسر عثمان بن حنيف، ولم يُقتل، ثم أطلقوه.
فلما علم علي - رضي الله عنه - بهذا الأمر، توجه بجيشه وكانوا تسعمائة إلى البصرة، وتوجه بهم إلى (ذي قار) فقابله رجل يُسمى ابن أبي رفاعة بن رافع وقال له: يا أمير المؤمنين أي شيءٍ تريد وأين تذهب بنا؟
فقال له علي - رضي الله عنه -: أما الذي نريد، وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم بغدرهم، ونعطهم الحق ونصبر.
قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندَعهم ما تركونا.
قال: فإن لم يتركونا؟
قال: امتنعنا منهم. -أي بالسيف-.
قال: فنعم إذن. وخرج معهم.
وقام إليه الحجاج بن غزية الأنصاري، فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرنا الله كما سمانا أنصارًا.
وقبل أن يصل إلى (ذي قار) قابله عثمان بن حنيف، وأخبره بما حدث في البصرة ومقتل الستمائة وغيرهم، فقال علي - رضي الله عنه -: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وأرسل ابنه الحسن، والقعقاع بن عمرو، وعمار بن ياسر - رضي الله عنهم - جميعًا إلى الكوفة لأخذ المدد منها.
كان في الكوفة أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - وكان ممن يرى رأي عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - من اعتزال الفتنة كليةً، وأنه لا يصح أن يقتتل المسلمون بالسيوف، فقام الحسن، والقعقاع، وعمّار - رضي الله عنهم - جميعًا في المسجد، وأخذوا يقنعون الناس بالخروج معهم، بينما كان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قد كلم الناس بأنه يجب اعتزال الفتنة، وعدم الخروج مع أيٍّ من الفريقين، فقام أحد رعاع الناس محاولًا إرضاء الحسن، والقعقاع، وعمّار - رضي الله عنهم -، وسبّ السيدة عائشة؛ ظنًا منه أن هذا يرضيهم.
فقال له عمار بن ياسر: اسكت مقبوحًا منبوحًا، وقال - رضي الله عنه -: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا، والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه، أو إياها. والحديث في البخاري.
وقام حجر بن عدي فقال للناس: انفروا إلى أمير المؤمنين خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
وبدأ الناس يميلون إلى رأي القعقاع، وعمار، والحسن - رضي الله عنهم - جميعاً، وخرج معهم اثنا عشر ألفا، وأتى لعلي - رضي الله عنه - أناس من قبيلة طيء وقيل له:
إن منهم من يريد الخروج معك، ومنهم من جاء ليسلم عليك.
فقال رضي الله عنه: جزى الله كلاً خيراً، ثم قال: (وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 95).
وفي الطريق إلى (ذي قار) قابلهم المستشار الأول لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهو عبد الله بن عباس، فقال للقوم: يا أهل الكوفة، أنتم لقيتم ملوك العجم- أي الفرس- ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق، حتى يبدءونا بالظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله - تعالى -. فاجتمع الناس على ذلك.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|