المتمردون يحاصرون الخليفة في بيته
إلى هذا الوقت وعثمان - رضي الله عنه - خليفة المسلمين، والجميع يصلّى خلفه من المهاجرين والأنصار، والمتمردين أيضًا، حتى كان يوم جمعة، فقام عثمان - رضي الله عنه -، وخطب الناس، وبعد الصلاة صعد على المنبر مرة أخرى، وقال:
يا هؤلاء الغرباء، الله، الله، فوالله، إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعنون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فامحوا الخطأ بالصواب، فإن الله لا يمحو السيئ إلا بالحسن.
فقام محمد بن مسلمة - رضي الله عنه وهو من قدامى الصحابة-، وقال: أنا أشهد بذلك.
وكان بجواره حكيم بن جبلة، فأجلسه بالقوة، وسبّه، فقام زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - وقال: إن ذلك في الكتاب.
فقام له رجل من أهل الفتنة يُسمى محمد بن أبي مريرة، وجذبه، وسبّه، ثم قام رجل اسمه جهجاه الغفاري، وهو من أهل الفتنة أيضًا، قام يخاطب عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، واتجه نحوه وأخذ منه العصا التي كان يتّكأ عليها، وهو يخطب وهي عصا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتّكأ عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب في الناس، وأخذها بعده أبو بكر - رضي الله عنه -، ثم عمر، ثم عثمان - رضي الله عنهما -، فأخذ هذا الجاحد المسمى جهجاه العصا، وكسرها على ركبته، وقال لعثمان - رضي الله عنه -: يا نعثل، انزل من على هذا المنبر.
ونعثل: تطلق على الظبي كثير الشعر، وقد كان عثمان - رضي الله عنه - كثير الشعر كثّ اللحية، وتقال هذه الكلمة أيضًا للشيخ الأحمق.
وهذه أول مرة يُسبّ فيها عثمان - رضي الله عنه - علنًا أمام الناس، وبعد أن قيلت هذه الكلمة، قام المتمردون جميعًا، وأخذوا يحصبون- يضربونهم بالحجارة- الصحابة، وعثمان - رضي الله عنه -، وهو على المنبر، وسالت الدماء على قميصه، وحمله بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- جميعًا، وأدخلوه بيته، ولم يخرج بعدها منه، وحاصر أهل الفتنة بيته - رضي الله عنه - وأرضاه، واستُخلف أبو هريرة - رضي الله عنه - على الصلاة بالمسلمين، وهناك روايات ضعيفة تشير إلى أن الغافقي هو الذي كان يؤم الناس قبل مقتل عثمان - رضي الله عنه -، والصحيح أن أبا هريرة - رضي الله عنه - هو الذي كان يؤم الناس.
عندما وجد عثمان - رضي الله عنه - أن الأمر قد وصل إلى هذا الحدّ، وأن اللين لن يجدي مع هؤلاء المتمردين؛ كتب - رضي الله عنه - رسائل إلى ولاته في الأمصار أن يرسلوا إليه بالجيوش لحل هذه الأزمة، فكتب إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام، وكتب إلى أبي موسى الأشعري بالكوفة، وإلى والي البصرة، ونعرف أن المسافات شاسعة بين تلك البلاد، وبين المدينة.
وإلى هذا التوقيت لم تظهر فكرة قتل الخليفة، بل ما يطلبونه هو عزله، ولم يصرّحوا بكلمة القتل مطلقًا.
بعد هذا الأمر خرج عثمان - رضي الله عنه - من شرفة بيته، وبدأ يحادث المتمردين، فخطب فيهم فقال:
أليس فيكم علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص؟ - وكان الصحابة - رضي الله عنهم - مع الناس، ولا يريدون الانصراف، ويتركون عثمان رضي الله عنه- فوقف هؤلاء الأخيار وقالوا:نعم نحن هنا، وأشاروا إلى أماكنهم.
فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنشدكم بالذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ يَبْتَاعَ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ)).
فابتعته، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني قد ابتعته.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا، وَأَجْرُهُ لَكَ؟)).
قال الصحابة: نعم.
قال عثمان - رضي الله عنه -: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ؟)).
فابتعتها بكذا وكذا، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت:
إني قد ابتعتها.
قال: ((اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَكَ أَجْرُهَا)).
ففعلت؟
قالوا: نعم، نشهد بذلك.
فقال:
أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر في وجوه القوم، يوم جيش العسرة، فقال:
((مَنْ يُجَهِّزُ هَؤُلَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ)).
فجهزتهم، حتى ما يفقدون خطاماً، ولا عقالاً؟
قالوا: اللهم نعم.
فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد.
ثم انصرف.
وأشرف عثمان من بيته مرة أخرى، وهو محصور، فقال:
أنشد بالله من شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حراء إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال:
((اسْكُنْ حِرَاءَ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ)) وأنا معه، فانتشد له رجال -أي شهدوا بأن ما يقوله حق-.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان، إذ بعثني إلى المشركين، إلى أهل مكة، فقال:
((هَذِهِ يَدِي، وَهَذِهِ يَدْ عُثْمَانَ)). ووضع يديه إحداهما على الأخرى، فبايع لي.
فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله قال:
((مَنْ يُوَسِّعُ لَنَا بِهَذَا الْبَيْتِ فِي الْمَسْجِد بُنِيَتْ لَهُ بِيْتًا فِي الْجَنَّةِ)). فابتعته من مالي، فوسعت به المسجد.
فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله يوم جيش العسرة قال:
((مَنْ يُنْفِقُ الْيَوْمَ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةٌ؟)) فجهزت نصف الجيش من مالي. فانتشد له رجال.
ثم قال: أنشد بالله من شهد رومة، يباع ماؤها ابن السبيل، فابتعتها من مالي، فأبحتها ابن السبيل.
فانتشد له رجال.
المفاوضات إلى الآن لا زالت سلمية بين الطرفين، لكن بدأت تظهر فكرة القتل، فخيروا الخليفة بين العزل، والقتل، وكان هذا موقفًا صعبًا على الصحابة جميعًا، وعلى عثمان - رضي الله عنه -، وعن جميع صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
موقف الصحابة - رضي الله عنهم - من هذه الأحداث
هناك روايات كثيرة ضالة ومكذوبة تشير إلى أن الصحابة - رضي الله عنهم - تخلّوا عن عثمان - رضي الله عنه - في هذه الأزمة، ولم يدافعوا عنه؛ لأنهم لم يكونوا راضين عن سياسته، وهذا افتراء شديد على الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - جميعًا.
ففي بداية الفتنة جاء الصحابة - رضي الله عنهم - إلى عثمان - رضي الله عنه -، وكان فيهم علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم - رضي الله عنهم - جميعًا، ولكن عثمان - رضي الله عنه - رفض أن يدافعوا بأسلحتهم عنه وعن المدينة، وكان يريد أن تنتهي هذه الأزمة بطريقة سلمية.
وبعد اشتداد الأزمة أرسل الزبير بن العوام - رضي الله عنه - رسالة إلى عثمان - رضي الله عنه - يقول له فيها: إني استطيع أن أجمع لك بني عمرو بن عوف.
وهي قبيلة كبيرة على بعد أميال من المدينة، فقال له عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: نعم، إن كان ذلك فنعم.
إذن فما يدور في ذهن عثمان - رضي الله عنه - هو الحفاظ على أهل المدينة الذين هم قليل مقارنة بعدد المتمردين، وإن قامت حرب بين الفريقين أُريقت دماء الصحابة، فهو - رضي الله عنه - يوافق على صدّ المتمردين بالقوة إذا وجدت قوة تستطيع هزيمتهم، أما أن تراق دماء الصحابة والمسلمين بالمدينة على يد هؤلاء الفجرة من المتمردين، فهذا ما لا يرضاه عثمان - رضي الله عنه - على الإطلاق، وإن أتى هذا على دمه هو، وهي شجاعة لا تتكرر؛ أن يضحّي قائد بدمه من أجل أمته، وشعبه، بل إننا نرى القادة والزعماء يضحون بجيوشهم وشعوبهم من أجل راحتهم النفسية، ومن أجل متعتهم ولهوهم ولعبهم، لكن أمير الدولة الإسلامية بكاملها شرقًا وغربًا يضحي بنفسه من أجل حقن دماء أهل المدينة.
ويقوم زيد بن ثابت الأنصاري ويقول له: إن الأنصار خارج الباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله، إن شئت كنا أنصار الله، كررها مرتين.
فقال عثمان - رضي الله عنه -: لا حاجة لي في ذلك، فكفوا أيديكم.
ورجع عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قبل أن يخرج للحج، وقال لعثمان - رضي الله عنه -:
يا عثمان إن وقوفي على بابك أجاحف عنك- أي أدافع عنك- خير من الحج.
فقال له عثمان - رضي الله عنه -: لا حاجة في ذلك.
وأمّره على الحج، وأمره أن يذهب إلى الحج، فأطاع عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -.
وقام أبو هريرة، ومعه مجموعة من الصحابة، وذهبوا إلى عثمان - رضي الله عنه - في بيته، وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لقد سمعت أذناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تَكُونَ بَعْدِي فَتْنَةٌ وَأَحْدَاثٌ)).
فقلت: وأين النجاة منها يا رسول الله؟
فقال: ((الْأَمْيرُ وَحِزْبُهُ)).
وأشار إلى عثمان -رضي الله عنه-
فقال القوم: ائذن لنا فلنقاتل، فقد أمكنتنا البصائر.
فقال عثمان - رضي الله عنه - في منتهى الصراحة والوضوح: عزمت على كل أحد لي عليه طاعة ألا يقاتل.
فقال أبو هريرة: يا عثمان طاب الآن الضراب معك، فهذا هو الجهاد.
فقال له عثمان - رضي الله عنه -: عزمت عليك لتخرجن.
فخرج أبو هريرة - رضي الله عنه -.
الموقف كما نرى شديد الحساسية، فعثمان - رضي الله عنه - يعلم تمامًا أن هذه القوة الصغيرة لن تصمد أمام المتمردين، وكان - رضي الله عنه - في انتظار المدد الذي يأتيه من الشام، ومن البصرة، والكوفة، لكن المسافة إلى تلك الأماكن بعيدة، وكان - رضي الله عنه - في انتظار بني عمرو بن عوف قوم الزبير بن العوام، ولم يكونوا قد جُمعوا بعد.
فهو - رضي الله عنه - يرى أن القوة الموجودة بالمدينة ليست كافية، ومن ثَمّ فلا داعي لهذا الأمر الآن.
وثَمّ شيء آخر من الأهمية بمكان هو أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان على يقين كامل أنه سيلقى الله شهيدًا، وأنه سيموت في فتنة، وفي بلوى تصيبه، وسوف يدخل الجنة على هذه البلوى، وقد سمع هذا بأُذنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم – (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى) [النَّجم: 3] - صلى الله عليه وسلم -.
روى البخاري بسنده عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ: ((اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ)).
وفي البخاري أيضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
((افْتَحْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)).
فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((افْتَحْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)).
فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ، فَقَالَ لِي: ((افْتَحْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ)).
فَإِذَا عُثْمَانُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
إذن فعثمان - رضي الله عنه - كان يرى أنه إذا كانت حياته ثمنًا لحل هذه الفتنة فهذا شيء مناسب جدًا في رأيه خاصة، وأنه على يقين أن حياته ستذهب في هذا الأمر، فلا بأس أن تذهب حياته، وتحفظ دماء سبعمائة من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأهل المدينة، حتى يحفظوا الأمة بعد ذلك، ولا يتولى هؤلاء المتمردون الشرار الحكم في البلاد بعد ذلك، وهؤلاء الشرار حتى هذه اللحظة يطلبون عليًا - رضي الله عنه -، أو طلحة، أو الزبير، وكلهم من الأخيار، وهم من العشرة المبشرين بالجنة - رضي الله عنهم - جميعًا، فلو عاش هؤلاء الصحابة يكون الحال أفضل بكثير من أن يقتلوا، وتحكم هذه الثلة الباغية الدولة الإسلامية.
وأمر آخر في غاية الأهمية أيضًا وهو أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهو خليفة المسلمين له الأمر على كل المسلمين، وعليهم الطاعة، فعندما يقول لهم: عزمت على من لي عليه طاعة ألا يقاتل.
فلو قاتلوا بعد ذلك لكان هذا عصيانًا له - رضي الله عنه - وأرضاه، فقد وضعهم - رضي الله عنه - في دائرة ضيقة للغاية، من دافع عنه فقد عصاه، ومن عصاه فذلك خروج عليه، وهو يرى هذا الرأي.
والصحابة - رضي الله عنهم - يعرفون مكانته - رضي الله عنه - في الإسلام وفضله، وأنّ له رأيًا حكيمًا، وربما يفكر في شيء لا يعرفونه هم، وإن كان في ظاهر الأمر أن رأيه خطأ، فعليهم أن يطيعوه ما لم يكن معصية؛ لأنه الخليفة.
وهذا هو الحوار الذي نُقل إلينا، وثبت أنه دار بين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وبين رجل من التابعين يُسمى سعيد الخزاعي، وذلك بعد موقعة الجمل.
قال سعيد: إني سائلك عن مسألة كانت منك ومن عثمان.
فقال علي - رضي الله عنه -: سل عما بدا لك.
فقال سعيد: أي منزلة وسعتك، إذ يقتل عثمان ولم تنصره؟
فقال علي - رضي الله عنه -: إن عثمان كان إمامًا، وإنه نهى عن القتال، وقال: من سلّ سيفه فليس مني. فلو قاتلنا دونه عصيناه.
فقال سعيد: فأي منزلة وسعت عثمان إذ يستسلم؟
قال علي - رضي الله عنه -: المنزلة التي وسعت ابن آدم إذ قال لأخيه: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ) [المائدة: 28]. فسكت سعيد الخزاعي.
قد يقول قائل: لِمَ لَمْ يتنازل عثمان - رضي الله عنه - عن الخلافة لعلي أو الزبير أو طلحة - رضي الله عنهم - جميعًا، وكلهم من الصحابة الأخيار؟
نقول: لو فعل ذلك لكان مخالفًا للشرع وللنص الصريح من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي الحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ)).
وكرّر - صلى الله عليه وسلم - ذلك ثلاث مرات، وفي هذا دلالة واضحة على أن على عثمان - رضي الله عنه - أن يتمسك بهذا الأمر، وتركه الأمر لهؤلاء المنافقين حينئذٍ إنما هو مخالفة واضحة لنصّ حديث رسول - صلى الله عليه وسلم -، والذي رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، والحاكم.
لا زال بعض الصحابة مترددًا في أمر هذه الفتنة العظيمة التي يبيت فيها الحليم حيرانًا، فيصف لهم مرة بن كعب مذكرًا لهم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
روى الترمذي بسنده عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ أَنَّ خُطَبَاءَ قَامَتْ بِالشَّامِ، وَفِيهِمْ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ آخِرُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُرَّةُ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ: لَوْلَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا قُمْتُ، وَذَكَرَ الْفِتَنَ، فَقَرَّبَهَا، فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ:
((هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى)).
فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَقُلْتُ: هَذَا؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ورواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
إذن فلو أن هناك خلافًا في الرأي، فالحق مع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بنص حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبشهادته، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى.
كان هذا الأمر في غاية الصعوبة على الصحابة - رضي الله عنهم - إذ كيف يتركون عثمان - رضي الله عنه -، وهو أفضل مخلوق على وجه الأرض يومئذٍ بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر - رضي الله عنهما -، وقد زوّجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابنتيه الواحدة تلو الأخرى، ففي قلوب الصحابة - رضي الله عنهم - شيء عظيم من الأسى والحزن، وهم مع ذلك لا يستطيعون الدفاع عنه حتى لا يقعوا في معصيته، فرجعوا - رضي الله عنهم - إلى بيوتهم، وتأولّوا الأمر وقالوا: إن كان قد أقسم علينا ألا نردّ عنه، فهو لم يقسم على أبنائنا.
فأرسل علي - رضي الله عنه - الحسن والحسين - رضي الله عنهما -، وفي هذا دلالة قوية على دحض من يزعمون أن عليًا - رضي الله عنه - قد تخلّى عن عثمان - رضي الله عنه - في محنته؛ لأنه لم يكن راضيًا عن سياسته، فها هو - رضي الله عنه - يرسل فلذتي كبده للدفاع عن أخيه، وصاحبه ذي النورين - رضي الله عنه -، وأرسل الزبير بن العوام ابنه عبد الله بن الزبير، وأرسل طلحة بن عبيد الله ابنه محمد بن طلحة، وهكذا فعل كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - جميعًا، واجتمع أبناء الصحابة - رضي الله عنهم - جميعًا في بيت عثمان - رضي الله عنه -، وأمّروا عليهم عبد الله بن الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، وبدءوا في الدفاع عن عثمان - رضي الله عنه -.
ودخل عبد الله بن عمر على عثمان - رضي الله عنه -، وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - وعن أبيه يرى ما يرى عثمان من الرأي بعدم التصادم مع هؤلاء المتمردين، وإن أدى ذلك إلى قتله، فقال له عثمان: انظر إلى هؤلاء يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك.
فقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: أمخلّد أنت في الدنيا؟
فقال: لا.
فقال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟
فقال: لا.
فقال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟
فقال: لا.
فقال ابن عمر - رضي الله عنه -: فلا تخلع قميصًا قمّصه الله لك، فتكون سنة، كلما كره قومٌ خليفتهم خلعوه، أو قتلوه.
وبعد إعلان المتمردين تخيير الخليفة بين القتل أو الخلع خرج إليهم - رضي الله عنه - وأرضاه من شرفة بيته وقال لهم: يا قوم علام تقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ)).
فوالله ما زنيت في جاهلية، ولا إسلام، ولا قتلت أحداً فأقِد نفسي منه، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فبم تقتلونني؟
رواه النسائي، وأحمد، ورواية أخرى بلفظ قريب لأبي داود، والترمذي وقال: حديث حسن.
ولم ينصرف المتمردون، بل تحكم الشيطان والهوى من قلوبهم، وخرج لهم عثمان - رضي الله عنه - في يوم آخر وقال لهم: والله لئن قتلتموني لا تتحابوا بعدي، ولا تصلوا جميعًا أبدًا، ولا تقاتلوا جميعًا أبدًا عدوًا.
وقد صدق - رضي الله عنه -، فبعدما قُتل انحل العقد، ودارت الفتنة منذ هذا العهد، حتى وقتنا هذا.
وفي الفترة من 15 إلى 18 ذي القعدة بدأ المتمردون يدخلون في مرحلة جديدة، وهي أنهم منعوا الطعام والشراب عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأرضاه، ولما علم عثمان - رضي الله عنه - ذلك خرج لهم، وقال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله فقال: ((مَنْ يَشْتَرِي هَذِهِ الْبُقْعَةَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونُ فِيهَا كَالْمُسْلِمِين َ، وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟)).
فاشتريتها من خالص مالي، فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين.
ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة لم يكن بها بئر يُستعذب منه إلا بئر رومة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ)).
فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها شربة.
ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟
فقالوا: نعم.
فقال: اللهم اشهد.
ودخل إلى بيته. أخرجه الترمذي والنسائي.
تحمّس بعض الصحابة لشدة هذا الأمر، إذ كيف يمنع الطعام والماء عن خليفة المسلمين صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!، فقام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فحمل الماء في قربة، وركب على بغلته، ودخل بين صفوف المتمردين، وهم يقرّعونه بغليظ الكلام، وهو يزجرهم وينهاهم حتى قال لهم: والله إن فارس والروم لا يفعلون كفعلكم هذا بهذا الرجل، والله إنهم ليأسرون فيسقون ويطعمون.
السيدة أم حبيبة أم المؤمنين زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حملت في ثوبها الماء، وغطته، وذهبت على بغلتها حتى تسقي عثمان - رضي الله عنه - وأرضاه في بيته، فالتفّ حولها المتمردون، وقالوا لها: ما جاء بك؟
فقالت: عند عثمان وصايا بني أمية لأيتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها، فكذبوها في ذلك، ودفعوها فسقط الماء، وقطعوا حزام البغلة، ودفعوها، فكادت أن تسقط أم المؤمنين - رضي الله عنها -، وفي رواية: أنها سقطت، وكادت أن تُقتل، لولا أن قام إليها جماعة من الناس، وأنقذوها.
وتمكن الشيطان من قلوب هؤلاء المجرمين، فمنعوا الماء أن يدخل إلى عثمان - رضي الله عنه -، ولم يكن يصل إليه ماءٌ إلا من جاره الملاصق له عمرو بن حزام، وهذا في أول يومين فقط، وفي اليوم الثالث منعوا الماء تمامًا، وهو يوم 17 من ذي الحجة سنة 35 هـ.
وفي هذا اليوم يعلم المتمردون أن جيوش الشام، والبصرة، والكوفة، قد اقتربت من المدينة، فخافوا من ذلك، وكانت الجيوش القادمة ضخمة، فقد أرسل معاوية - رضي الله عنه - جيشًا كان على رأسه حبيب بن مسلمة، وعلى رأس جيش الكوفة القعقاع بن عمرو التميمي، وعلى رأس جيش البصرة مجاشع بن مسعود، وعلى رأس الجيش القادم من مصر معاوية بن حبيش.
أما الأمراء فقد مكثوا في بلادهم حتى لا تحدث الفتن في الأمصار التي هم عليها إن تركوها، وقدموا مع الجيوش إلى المدينة.
عندما علم المتمردون بهذا الأمر عزموا عزمًا أكيدًا على قتل عثمان - رضي الله عنه -، والانتهاء من أمره قبل دخول هذه الجيوش إلى المدينة المنورة.
يتبع