الأول: يترتب عليه حد مثل: السرقة أو الزنا.
والثاني: ما يترتب عليه الكفارة دون الحد، مثل: الجماع في نهار رمضان، أو الجماع في الإحرام.
والثالث: ما لا يترتب عليه حد ولا كفارة، وهو ما يكون فيه التعزير، كالسب فيما عدا القذف بالزنا فإن فيه الحد، وكذا سرقة ما لا حد فيه، وكذلك الكذب قد يكون فيه التعزير، ويرى أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد أن التعزير واجب، وقال الشافعي: مندوب. والحد والتعزير كلاهما عقاب والمستهدف منهما تطهير النفس، وردع الناس عن ارتكاب المعاصي، وأن يأتي الناس يوم القيامة، وقد كفرت ذنوبهم بالحدود والتعزير، والكفارات، والفرق بين الحد والتعزير أن الناس جميعاً يتساوون في إقامة الحد عليهم، ولكن التعزيرات تختلف باختلاف الناس، فإذا أخطأ الكريم من أهل التقوى والصلاح يكون التعامل معه غير أهل الفسق الذين يداومون على ارتكاب المعاصي والآثام، والحدود لا تجوز فيها الشفاعة بينما تجوز في التعزيرات، ومن مات أثناء تعزيره فله ضمان وهو مثل الدية، أما من مات أثناء إقامة الحد عليه فليس له ضمان، وقال بعض الفقهاء: ليس لمن مات في التعزير ضمان.
والتعزير قد يكون بالكلام كالتوبيخ، أو الوعظ، أو الحبس، أو الضرب، أو النفي، أو العزل من العمل، والحاكم له حق التعزير مطلقا، وقال الفقهاء: إنه لا ينبغي التعزير بأكثر من عشرة أسواط، وقيل أقل من ثمانين، وقيل يرجع لتقدير الحاكم.
فهذا ما فعله عثمان - رضي الله عنه - مع عمار بن ياسر وعباس بن عتبة عندما قذف كل منهما صاحبه.
وممن له حق التعزير أيضاً الوالد فله أن يعزر ولده، وليس للوالد أن يضرب ولده بعد البلوغ.
وممن له حق التعزير السيد لرقيقه سواء بالضرب أو الحبس أو غير ذلك، ولكن هذا كله دون تعسف أو ظلم، فالله - تعالى -مطلع على كل الأمور.
فعثمان - رضي الله عنه - له حق التعزير، حتى ولو عارضه الصحابة، والواقع أن أحداً من الصحابة لم ينكر عليه هذا الأمر.
قضية جمع القرآن
التهمة الثالثة على عثمان - رضي الله عنه - أنهم يقولون أنه ابتدع في جمع القرآن، وفي حرق المصاحف، وهكذا نرى أن الحسنات يجعلها أهل الفتنة سيئات، وقد قال كثير من العلماء أن هذه هي أعظم حسنات عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وقالوا: إن هذا الأمر أفضل من حفره بئر رومة، وأفضل من تجهيزه جيش العسرة؛ لأن أثره مستمر إلى يوم القيامة.
والصحابة جميعاً وافقوا على هذا الأمر، وحتى ما كان من أمر عبد الله بن مسعود في البداية رجع عنه، واقتنع برأي عثمان، وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - جميعاً، واجتماع الصحابة لا يأتي على ضلالة، بل إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال في خلافته: لو لم يفعله عثمان لفعلته أنا، وجاء في كتب الشيعة أنفسهم ما يؤكد إجماع الصحابة على هذا الأمر، والحق ما جرت به ألسنة الأعداء، ففي كتاب: (سعد السعود)، وهو من المراجع الشهيرة للشيعة، قال ابن طاوس نقلاً عن الشهرستاني عن سويد بن علقمة قال: سمعت علي بن أبي طالب - عليه السلام - يقول:
أيها الناس، الله الله، إياكم والغلو في أمر عثمان، وقولكم حرق المصاحف، فوالله ما حرقها إلا عن ملإ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ جمعنا وقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها يلق الرجل الرجل فيقول: قراءتي خير من قراءته، وهذا يجر إلى الكفر.
فقلنا: ما الرأي؟.
قال: أريد أن أجمع الناس على مصحف واحد فإنكم إن اختلفتم الآن كان مَن بعدكم أشد اختلافاً.
فقلنا جميعاً: نِعْمَ ما رأيت.
فهذا كلام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في مراجع الشيعة أنفسهم؛ في هذا الكتاب، وفي بعض الكتب الأخرى للشهرستاني، وفي كتب أخرى يزعمون أن عثمان - رضي الله عنه - ابتدع في جمعه للقرآن، وحرقه للمصاحف، وهذا التناقض عندهم يظهر الحق.
ومع هذا الإجماع الكبير من الصحابة على هذا الأمر، إلا أن الشيعة يزعمون أن عثمان - رضي الله عنه - إنما جمع المصحف برغبته الشخصية، وجمع بعض الصحابة وذكروهم بالاسم، وألفوا قرآنا غير الذي أنزل، كما يزعم الشيعة أن لديهم القرآن الحقيقي، وهو ثلاثة أضعاف، وهو مخبأ عندهم في سرداب، وسيأتي مع الإمام الثاني عشر، وليس فيه حرف واحد من القرآن الذي معنا، وأقر بعض الشيعة ببعض الآيات في القرآن الكريم، وحذف آيات أخرى.
وكان إنكار الشيعة لجمع القرآن في عهد الصديق أبي بكر - رضي الله عنه -، وادعائهم أن القرآن الذي بين أيدينا اليوم قد ألف في عهد عثمان؛ كان هذا يمثل مادة دسمة للنصارى كي يطعنوا في القرآن، وهذا الطعن من قديم، ففي عهد ابن حزم الأندلسي كثر الطعن من قبل النصارى في حق المسلمين في هذه النقطة، وأن المصحف ألف في عهد عثمان - رضي الله عنه -، ومن معه من الصحابة، ومراجع النصارى في ذلك هي كتب الشيعة التي تقول:
إن المصحف الحقيقي هو الذي أنزل على السيدة فاطمة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، واحتفظ به بعد ذلك علي بن أبي طالب والأئمة من بعده.
يقول ابن حزم في كتابه (الفصل): إن الروافض- الشيعة- ليسوا من المسلمين، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكفر.
حديث: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ منه)).
هذا حديث صحيح رواه أكثر من عشرين من الصحابة - رضي الله عنهم -، وتأويل هذا الحديث من الكثرة بمكان، فذكر السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن) أربعين تأويلاً لهذا الحديث، وذكر ابن حجر، وابن حبان خمسة وثلاثين قولاً في تأويل هذا الحديث، والسبعة أحرف قيل: إنها سبع قراءات، وقيل: سبع لهجات.
وقيل: هذه السبع لهجات في مضر.
وقيل: في قريش.
وقيل: معناها أن المشكل في القرآن الكريم يحتمل سبعة تفسيرات على الأكثر.
وقيل: التغاير في اللفظ أو الشكل.
وقيل: الزيادة والنقصان، أو الإبدال، أو الإعراب، أو التقديم، أو التأخير.
وذهب الطحاوي أن هذا الأمر كان رخصة للمسلمين في قراءة القرآن؛ لتعذر قراءته على مختلف القبائل بلهجة واحدة، فلما رأى الصحابة انتشار القراءة بين هذه القبائل، وشدة الحفظ وإتقانه، أقروا قراءة واحدة، وهي التي كتبها عثمان - رضي الله عنه - في مصحفه، وقال بهذا ابن جرير الطبري وقال: لم يكن ذلك ترك واجب، ولا فعل محرم، فاتفق الصحابة على كتابته كما جاء في العرضة الأخيرة.
فما بين أيدينا اليوم هو المصحف الذي كتب في عهد عثمان - رضي الله عنه -، كما نزل في العرضة الأخيرة باللسان الذي نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- التهمة الرابعة الموجهة إلى عثمان - رضي الله عنه - أنه حمى الحمى:
ومعنى ذلك أنه خصص جزءاً معيناً من الأرض لبعض الإبل؛ لترعى فيها دون غيرها من الإبل، قالوا: إنه ابتدع في هذا الأمر.
وقالوا: إنه كان يجعلها لإبله وخيله.
والقولين مردود عليهما.
أما قولهم أنه - رضي الله عنه - ابتدع الحمى فهذا غير صحيح، حيث إن الحمى كان موجوداً في الجاهلية قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان السيد يدخل الأرض التي يريد أن يجعلها حمى لإبله، ومعه كلب يعوي، ويكون حدود حماه على امتداد عواء كلبه، وتكون تلك المنطقة من الأرض خاصة به لا تستطيع أي إبل غير إبله أن ترعى فيها، وهذا هو الحمى، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألغى هذا الأمر كله إلا لإبل الصدقة فقط، وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمى في منطقة الربذة –والربذة: فلاة بأطرف الحجاز مما يلي نجد-، وكان مساحتها ميل في سبعة أميال، وكانت ترعى فيها إبل الصدقة، والإبل التي تعد للجهاد، وللمصالح العامة.
عن الصعب بن جثامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ)). رواه البخاري.
وقد فعل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مثل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحمى، ولما جاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - زاد في هذه المساحة، وضم إليها أماكن كثيرة، وذلك لكثرة الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكثرة إبل الجهاد، فكان لا بد من منطقة كبيرة ترعى فيها إبل، وخيول الجهاد، ولما كان عهد عثمان - رضي الله عنه - اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وكثرت الخيرات عند المسلمين، وكثرت الإبل، فاتسعت منطقة الحمى إلى أكبر مما كانت عليه.
إذن فأصل الحمى سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والزيادة فيه سنة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وهو أمر اقتضته الحاجة، وليس فيه أي تعارض مع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ)).
أما إبل عثمان - رضي الله عنه - فكانت لا ترعى في هذا الحمى، وإنما كان هذا الحمى لإبل الصدقة فقط، وأما إبل عثمان - رضي الله عنه - فكانت ترعى في أماكن أخرى بعيدة، وكان عثمان - رضي الله عنه - شديد الدقة في هذا الأمر، حتى أنه كان يمنع أي إبل للأغنياء أن تدخل في حمى إبل الصدقة، وكان يترخص لإبل الفقراء؛ لأنها ربما تهلك نظراًَ لفقر أصحابها، وعدم قدرتهم على إطعامها.
وكان عثمان - رضي الله عنه - أكثر العرب إبلاً قبل أن يتولى الخلافة، وعندما استشهد - رضي الله عنه - لم يكن يملك سوي بعيرين كان قد استبقاهما للحج، وباقي إبله كان قد تبرع بها للمسلمين خلال مدة خلافته، وخيره - رضي الله عنه - سابق على المسلمين منذ أسلم حتى استشهد - رضي الله عنه - وأرضاه.
قضية أبي ذر
- أما التهمة الخامسة فقد قالوا: إن عثمان - رضي الله عنه - قد أجلى أبا ذر - رضي الله عنه - من الشام إلى الربذة.
ذكرنا قبل ذلك أن عبد الله بن سبأ لما لم يجد صدى لكلامه في أرض الشام ذهب إلى أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - وأرضاه، وكان زاهداً شديد الزهد عاكفاً عن الدنيا بالكلية، وأراد ابن سبأ إشعال الفتنة في الشام، فقال لأبي ذر - رضي الله عنه -: إن معاوية يقول: إن المال مال الله يريد بذلك أن يحجزه عن المسلمين.
ومعاوية -رضي الله عنه- قال هذه الكلمة، ولكن ابن سبأ اليهودي أولها لأبي ذر على غير ما يراد بها، فذهب أبو ذر - رضي الله عنه - إلى معاوية - رضي الله عنه - وقال له:
تقول: المال مال الله؟
قال: نعم.
فقال له أبو ذر: المال مال المسلمين.
فقال له معاوية - رضي الله عنه - وكان معروفًا بحلمه الواسع:
يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه والأمر أمره؟ فقال أبو ذر: فلا تقله.
فقال له معاوية - رضي الله عنه - في منتهى الرفق: لن أقول: إن المال ليس مال الله. ولكني أقول: المال مال المسلمين.
وكان أبو ذر - رضي الله عنه - يمر على أغنياء الشام، وعلى ولاة معاوية في أنحاء الشام، ويقرعهم بقول الله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة: 34].
ويقول لهم: من امتلك أكثر من قوت يوم واحد فقد كنز المال، ودخل تحت حكم هذه الآية.
فهو - رضي الله عنه - يرى أن على كل من يمتلك أكثر من قوت يوم واحد أن ينفقه في سبيل الله على سبيل الفرض، ولا بد من ذلك، ومن لم يفعل دخل في حكم الآية، وقال أبو ذر - رضي الله عنه - هذا الكلام لمعاوية بن أبي سفيان أيضاًً، فقال له معاوية - رضي الله عنه -: سبحان الله، إن الناس لا تطيق ذلك، وهذا الأمر ليس بواجب.
وبلغ معاوية - رضي الله عنه - هذا الأمر إلى عثمان - رضي الله عنه -.
ولنا وقفة مع هذا الموقف من أبي ذر -رضي الله عنه-
أولاً:أبو ذر - رضي الله عنه - من الزهاد شديدي الورع، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ولكننا نرى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول: ما أديت زكاته فليس بكنز.
والقاعدة الشرعية تقول: إنه لا حد للمسلم في الثروة، وللمسلم أن يمتلك ما استطاع أن يمتلكه، لكن بشروط أن يكون هذا المال من حلال، وأن ينفقه في الحلال، ولا ينفق بسفه، وأن يؤدي زكاة ماله.
وحال أبي ذر - رضي الله عنه - أشد ورعاً، وأقرب إلى الجنة، ومن الخير أن يزهد الإنسان في الدنيا قدر ما يستطيع، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحض على هذه الدرجة من الزهد، فكان - صلى الله عليه وسلم - ينام على حصير حتى يظهر أثر ذلك على جسده الشريف - صلى الله عليه وسلم -، وكان يربط على بطنه الحجر والحجرين من الجوع، وكان لا يوقد في بيته نار ثلاثة أهلة -أي شهرين كاملين-، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - كذلك، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كذلك، وكثير من الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا على هذا القدر من الزهد والورع، ولو أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل الله له جبل أحد ذهباً لجعله كذلك كما ورد في الصحيح، وكما كان يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا لِي وَالدُّنْيَا)).
ويحاول أبو ذر - رضي الله عنه - أن يقتدي به في هذا الأمر، وأن يحمل الناس على ذلك، لكن الناس لا يطيقون ذلك، ولا يستطيعون الوصول إلى هذه الدرجة، كما أن هذا الأمر ليس بفرض، والفرض كما أسلفنا أنه إذا أراد الإنسان أن يمتلك فليكن من حلال، ولينفق في الحلال، وليؤدي زكاة ماله، ولا يمكن أن ننكر أن المسلم إذا اجتهد في جمع المال من الحلال، وأنفقه في سبيل الله فإن ذلك يعود على المسلمين بالنفع والخير العميم ما لا يستطيعه الفقير، ولا أحد ينكر فضل الثراء الذي كان عليه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على الإسلام، وفضل أبي بكر - رضي الله عنه -، وفضل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، فقد كانت أموالهم نصرة للدعوة الإسلامية، فكون المسلم إذن يكتسب المال من الحلال، وينفقه في سبيل الله، فهذه فضيلة كبيرة يحث عليها الإسلام، شرط ألا يكون جمع المال رغبة في الدنيا، أو رغبة في الجمع والكنـز وزيادة الأموال من دون فائدة، وعلى المسلم إذا أراد أن يكون مثالياً أن يقسم وقته بين العبادة لله - تعالى -من صلاة، وتعليم للغير، وجهاد في سبيل الله، وبين التكسب للعيش، فوقت المسلم ينبغي أن يقسم هكذا بين حاجاته، وحاجات المسلمين، وعبادته لله رب العالمين، وليجعل نيته في العمل أن يعف نفسه، وأهله، ويكفيهم من الحلال، وأن ينفق على الإسلام والمسلمين، وليس الإنفاق هذا على المسلمين وعلى الدعوة الإسلامية فضلاً منه وتفضلاً، بل إنه مما ينبغي عليه أن يفعله دون مَنّ ولا أذى، وأن هذا المال إنما هو مال الله استخلفك عليه ليرى ماذا تفعل فيه.
ويزعم الاشتراكيون أن أبا ذر هو زعيمهم في الإسلام؛ لأنه قال بتوزيع الثروة، وحاشا لله أن يكون أبا ذر فرداً من الاشتراكيين، فضلاً عن أن يكون زعيماً لهم، فنية أبي ذر - رضي الله عنه - إنما كانت الزهد في الدنيا، وعدم الرغبة فيها، وأن يكون الناس جميعاً مما ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولم يكن يقصد - رضي الله عنه - أن يتم توزيع الثروات بين الناس مساواة، ومن يعمل كمن لا يعمل.
لما علم عثمان من معاوية بأمر أبي ذر - رضي الله عنهم - جميعاً وأرضاهم، أرسل إليه فجاءه، وتناقش معه عثمان - رضي الله عنه - وأرضاه في هذا الأمر، وقال أبو ذر ابتداءً:
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعاً-وهو مكان في أطراف المدينة لم يكن البناء قد بلغه في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخبير بالرجال يعلم جيداً أنه إذا انتشرت الحضارة في المدينة ووصل الناس إلى هذه الدرجة من المعيشة، فلن يستطيع أبو ذر أن يعيش بين الناس نظراً لطبيعة الورع، والزهد التي يعيش عليها، ويلزم نفسه بها، ولو عاش بين الناس بهذا الأسلوب لأرهق نفسه وأرهقهم، ومن ثَم ينصحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه النصيحة.
فقال عثمان لأبي ذر - رضي الله عنه -: فما الرأي؟
قال أبو ذر - رضي الله عنه -: أريد الربذة.
إذن فأبو ذر - رضي الله عنه - هو الذي يريد الخروج إلى الربذة.
قال عثمان - رضي الله عنه -: فافعل -أي أنه وافقه على ما يريد-.
فخرج - رضي الله عنه – بإرادته واختياره، وباقتراحه إلى الربذة، ولم يكن هذا نفياً أو طرداً كما ادعى أصحاب الفتنة في عهد عثمان - رضي الله عنه -، وكما ادعى الشيعة بعد ذلك في كتبهم حتى هذا الوقت، ووقع في ذلك الكثير من جهال المسلمين الذين ينقلون دون علم أو وعي، ويؤكد على ذلك ما رواه عبد الله بن الصامت قال:
قالت أم ذر: والله ما سير عثمان أبا ذر، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا بَلَغَ الْبُنْيَانَ سَلْعَا فَاخْرُجْ مِنْهَا)).
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
ثم إن عثمان - رضي الله عنه - لما أراد أبو ذر برغبته وإرادته الخروج إلى الربذة أعطاه إبلاً، وصرف له مملوكين، وأجرى له رزقاً، والأكثر من هذا أن أبا ذر - رضي الله عنه - كان يتعاهد المدينة -أي يأتي كل مدة لزيارة المدينة-، ولو كان منفياً ما كان له أن يدخل المدينة، إضافة إلى هذا فالربذة هذه لم تكن مكاناً معزولاً في الصحراء، فيقول الحموي عنها: أنها كانت أحسن منزل في الطريق بين المدينة ومكة، وكانت تبعد عن المدينة ثلاثة أميال فقط، وكان فيها عمران، وبنى فيها مسجداً، وبناء المسجد يدل على أنه - رضي الله عنه - لم يكن يعيش بمفرده في هذا المكان.
فالأمر إذن لم يكن عزلاً أو نفياً أو طرداً كما يزعمون، ولكنه كان باختيار أبي ذر - رضي الله عنه - ورغبته في الخروج.
- التهمة السادسة: يزعمون أن عثمان - رضي الله عنه - أخرج أبا الدرداء من الشام نفيا ًوعزلاً وقهراً، وكان قاضياً بها، قالوا ذلك في زمن الفتنة، ولم ينتشر هذا الأمر في كتب الشيعة بعد ذلك؛ لأن أبا الدرداء ممن لم يرض عنه الشيعة، والحق أن أبا الدرداء - رضي الله عنه - كان قاضياً على الشام، وكان شديداً في الحق إلى درجة أن البعض يشبه شدته في الحق بشدة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان - رضي الله عنه - لا يتسامح مع أحد أبداً في حق الله - تعالى -، وكان يخاطب أهل الشام بشيء من الشدة، فكره الناس ذلك، وكان معاوية - رضي الله عنه - هو الوالي بينما كان أبو الدرداء قاضياً، وكان معاوية - رضي الله عنه - شديد اللين والحلم فلم ينه أبا الدرداء عن هذا الأمر، وكما نعرف أن أبا الدرداء - رضي الله عنه - من كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكثرت الشكاوى إلى عثمان - رضي الله عنه -، واجتهد عثمان - رضي الله عنه - في عزل أبي الدرداء عن قضاء الشام، بعد أن تحدث معه في هذا الأمر، وترك أبو الدرداء - رضي الله عنه - الشام بإرادته، واختار المدينة المنورة؛ ليعيش فيها بجوار عثمان - رضي الله عنه -.
فهذه القضية مردود عليها بسهولة في كتب التاريخ، وكان ما يرمون إليه من إثارة هذا الأمر أنهم يريدون أن يثيروا الناس جميعاً على عثمان - رضي الله عنه -، ومنهج رؤوس الفتنة في ذلك أنهم يطعنون في ولاة عثمان - رضي الله عنه - وينتقصونهم، ويلصقون بهم العيوب، وإذا كان بعضاً من هؤلاء الولاة من رموز الصحابة اجتهدوا أن يظهروا الخلاف والشحناء بينه وبين عثمان - رضي الله عنه - كعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري، وهكذا.
وولاة الأمر الآخرون إما أنهم أقرباؤه، وإما أنهم فساق أو ظلمة على زعمهم الكاذب، فالغرض هو الطعن في عثمان - رضي الله عنه - من كل الوجوه، حتى إذا أخذوا مجموعة من الناس، وذهبوا يريدون عزله؛ كانت الأمة متقبلة إلى حد ما هذا الأمر العظيم الجلل الذي لم يحدث من قبل.
يتبع