رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 406الى صــ 420
(27)
المجلد الاول
كتاب الصيام
مسألة:
وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار, أو مضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء, أو فكر فأنزل, أو قطر في إحليله, أو احتلم, أو ذرعه القيء؛ لم يفسد صومه.
في هذا الكلام فصول:
أحدها: أن ما دخل إلى فم الصائم بغير اختياره لا يفطره.
مثل أن يطير إلى حلقه غبار الطريق أو الذباب ونحو ذلك؛ فإنه لا يفطر به. نص عليه؛ لأنه مغلوب على ذلك, فأشبه الاحتلام وذرع القيء.
فإن قصد جمعه [وابتلاعه, أي الغبار, ونحوه, أفطر]
وإن اجتمع في فيه بغير قصد, فابتلعه بقصده؛ أفطر أيضاً. قاله أبو محمد.
فإن اعتمد القعود في موضع يصيبه ذلك لحاجة, مثل أن يغربل الدقيق, أو يقعد عند منْ يغربله لحاجة, فدخل إلى فمه؛ لم يفطر. ذكر ابن عقيل.
الفصل الثاني: إذا تمضمض أو استنشق ولم يزد على الثلاث ولم يبالغ, فسبقه الماء فدخل في جوفه؛ فإنه لا يفطر, سواء توضأ لفريضة أو نافلة. نص عليه.

لأنه دخل بغير اختياره, فلم يفطره؛ كالذباب والغبار.
ولأنه نوع لا يوجب الكفارة, فلا يفطر ما وقع بغير اختياره؛ كذرع القيء.
فإن قيل: الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أنه هنا مختار في الفعل الذي يتولد منه الدخول, وهو قادر على تركه في الجملة؛ بخلاف الذباب.
الثاني: المضمضة والاستنشاق من فعله, فإذا سبقه شيء إلى حلقه؛ كان ذلك لسوء فعله, فيفطر.
قلنا: لا فرق فيما غلب عليه بين أن يفعل سببه أو لا يفعله إذا كان سببه مباحاً من غير كراهة؛ فإنه لو أخذ ينخل الدقيق, فطار إلى حلقه؛ لم يفطر, وذلك لأن الشرع إذا أذن له في السبب؛ لم يؤاخذه بما يتولد منه.
ولهذا قلنا: سراية القَوَدِ غير مضمونة, وسراية التأديب والتعزير غير مضمونة؛ كسراية إقامة الحدّ.
وبهذا يظهر الجواب عن الوجه الثاني؛ فإنه إذا أذن له في المضمضة والاستنشاق, وفعل ما أذن له فيه بحسب وسعه؛ لم يضمن ما تولد من ذلك؛ كالرائض إذا ضرب الدابة, ولأنه [لم يتعد] المشروع لم يضمنه؛ كبقايا ما بين الأسنان إذا دخل؛ فإن بالغ في الاستنشاق أو زاد على المرة الثالثة فدخل الماء إلى حلقه؛ فقد قال بعض أصحابنا: هو مكروه.
والأشبه أنه محرم إن غلب على الظن دخوله إلى الجوف.
قال أحمد في رواية عبد الله في الصائم تمضمض فغلبه الماء فدخل حلقه: لا شيء عليه إذا غلبه, أو تمضمض أكثر من ثلاث: فيعجبني أن يعيد ذلك اليوم.

وذكر أبو الخطاب وغيره فيها وجهين:
أحدهما: وجوب الإِعادة عليه. وهو الذي ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما.
وقال ابن أبي موسى: إن دخل حلقَه الماءُ فيما زاد على الثلاث؛ أفطر قولاً واحداً.
479 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً».
480 - ولقوله: «الوضوء ثلاث؛ فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم».
فإذا فعل ما نهي عنه؛ لم يعف عن سرايته. . . .
ولأنه لو لم يكن ما ينزل من المبالغة مفطراً؛ لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
481 - ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «أرأيت لو وضعت في فيك ماء ثم مججته؛ أكنت تفطر؟». قال: لا. قال: «فمه».
فشبه القبلة بالمضمضة في أن كلاًّ منهما مقدمة لغيره؛ فإذا لم يحصل ذلك الغير؛ لم يؤثر, فيجب إذا حصل ذلك الغير أن يؤثر, والمضمضة مقدمة الأكل, والقبلة مقدمة الإِنزال, ولولا أنهما مستويان في الموضعين؛ لما حسن قياس أحدهما بالآخر, وكان يقال: المضمضة لا تفضي إلى الفطر بحال؛ بخلاف القبلة, لكن القبلة ليست مشروعة بحال, والمضمضة مشروعة في بعض المواضع, فما كان منها مشروعاً؛ خرج عن هذا القياس, فيبقى غير المشروع كالقبلة سواء.
الثاني: لا يفطر؛ لأنه فعل مغلوب عليه, فلم يفطر؛ كالثالثة.
فإن اغتمس في ماء, فدخل الماء حلقه أو أنفه أو أذنه, أو اغتسل فدخل فمه أو أذنه أو أنفه, وتمضمض لغير طهارة, فدخل الماء حلقه بغير اختياره؛فإن كان ذلك لطهارة مشروعة؛ مثل أن يغسل فمه من نجاسة به, أو يغسل غسلاً مشروعاً كالجنابة والجمعة؛ فهو كما لو سبقه الماء في المضمضة والاستنشاق.

وإن وضع الماء في فمه للتبرد أو عبثاً [أو اغتسل عبثاً] أو اغتمس في الماء, أو أسرف في الاغتسال عبثاً؛ فكلامه يقتضي روايتين:
أحدهما: يفطر. [والثانية: لا يفطر].
فقد قال في رواية ابن القاسم: كل أمر غلب عليه؛ فليس عليه فضاء, ولا غيره, وسواء ذكر أو لم يذكر. قيل له: يفرق بين المتوضأ للفريضة ومن توضأ للتطوع؟ قال: هو سواء إذا لم يتعمد إنما غلب, وقد يتبرد بالماء في الضرورة من شدة الحر.
فقد نص على أنه إذا تبرد من شدة الحر, فدخل أنفه أو فاه وهو مغلوب عليه؛ لم يفطر؛ لأنه دخل المفطر إلى جوفه بغير اختياره فلم يفطر؛ كما لو دخل في المضمضة والاستنشاق وما في معنى ذلك؛ لم يفطر. اهـ.
ولأنه نوع من المفطرات, فلم يؤثر إذا وجد بغير قصد منه؛ كالقيء والاحتلام, وهذا بخلاف نزول الماء عن مباشرة؛ فإنه, وإن لم يقصد نزول الماء, لكن هو لا ينزل الماء إلا بالمباشرة؛ فإذا فعل المباشرة؛ فقد فعل السبب الذي [منه] يستنزل الماء.
وأيضاً الابتلاع والازدراد في الغالب إنما يكون بقصده, ولا [مقصد] له في ذلك.
[والسباحة]: لا تفطر.
قال في رواية حنبل: الصائم إن لم يدخل مسامعه وحلقه الماء؛ فلا بأس أن ينغمس فيه.
482 - ورووا عن مبارك عن الحسن: أنه كره أن يغوص في الماء, وقال: «إن الماء يدخل في مسامعه».
وقال في رواية أبي الصقر: إذا استعط أو وضع على لسانه دواء, فدخل حلقه؛ فعليه القضاء.
وقال في رواية حنبل: وقد يسأله عن الرجل يصوم, ويشتد عليه الحرّ؛ ترى له أن يبل ثوباً أو يصب عليه يتبرد بذلك ويتمضمض ويمجه؟
483 - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم».
وأما المضمضة؛ فلا أحب أن يفعله, لعله أن يسبقه إلى حلقه, ولكن يبل ثوباً ويصب عليه الماء.
وسئل عن الصائم يعطش فيتمضمض ثم يمجه؟ قال: «يرش على صدره أحب إليَّ».
لأنه غير مأمور من الشرع بهذه الأشياء؛ فإذا فعلها؛ كان ضامناً لما يتولد منها من الفطر كما يضمن ما يتولد من ضرب الغير.
ولأن مباشرته للسبب المقتضي لدخول هذه الأشياء إلى جوفه بغير أمر الشرع اختيار منه وقصد إذا لم يغلب على الظن دخول الداخل إلى جوفه.
فأما إن غلب على ظنه؛ حرم عليه فعله وأفطر بما يتولد منه بلا تردد.
ومن أصحابنا من فرق في هذه المواضع بين ما تدعو إليه الحاجة ويباح فعله من غير كراهة وما ليس كذلك, وما كان من هذه الأشياء لا حاجة إليه؛ فهو مكروه إن خيف حصول الفطر منه.
فأما ما يحتاج إليه لغير الطهارة. . . .
وأما الاغتسال ودخول الحمام؛ فلا بأس به إذا لم يخف الضعف من الحمام.
قال في رواية ابن منصور: الصائم يدخل الحمام وإن لم يخف الضعف.
وقال في رواية حنبل: لا بأس بالاغتسال من الحر.

484 - لأن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام, ثم يغتسل ويصوم». متفق عليه.
485 - وعن أبي بكر بن عبد الرحمن, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر». رواه أحمد وأبو داوود.
486 - قال البخاري: «وبل ابن عمر ثوباً, فألقاه عليه وهو صائم».
487 - قال: وقال أنس: «إن لي أبزن أتقحم فيه وأنا صائم».
488 - وعن ابن عباس: «أنه دخل الحمام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان». رواه أبو بكر.
489 - وعن علي. . . .
* فصل:
وما يجتمع في فمه من الريق ونحوه إذا ابتلعه؛ لم يفطر ولم يكره له ذلك, سواء بلعه باختياره أو جرى إلى حلقه بغير اختياره, إذا كان الريق قد اجتمع بنفسه.
لأن اجتماع الريق بنفسه أمر معتاد, وفي إيجاب التبصق مشقة عظيمة.
فأما إن جمعه وابتلعه؛ فإنه يكره له ذلك.
وهل يفطر؟ على وجهين خرَّجهما القاضي وابن عقيل وغيرهما على الروايتين في النخامة إذا استدعاها ثم ازدردها.
أحدهما: يفطر. لأنه يمكن الاحتراز منه, فأشبه ما لو فصله عن فيه ثم ابتلعه.
والثاني: لا يفطر. وهو ظاهر كلامه.
فإنه نص على الفرق بين النخامة والبصاق إلا إذا ابتلعها, لا فرق بين أن يقتلعها من جوفه أو تخرج بنفسها ثم يزدردها عمداً.
والريق لو اجتمع بنفسه ثم ابتلعه عمداً: لم يفطره قولاً واحداً.
أو جمعه هو ليس مفطراً؛ لأن حصول المفطر في الفم لا يوجب الفطر, لم يبق إلا مجرد ازدرادها, وذلك أيضاً لا يفطر؛ كما لو اجتمعت بنفسها فازدردها عمداً.
وإن أخرج لسانه وعليه ريق, فأبرزه عن شفتيه, ثم أعاده وابتلعه؛ لم يفسد صومه بذلك. قاله القاضي وابن عقيل وعامة أصحابنا.
لأنه بلل متصل به, فلم يفطره؛ كما لو بقي في الفم.
وحكي عن ابن عقيل: أنه يفطر.
وهو غلط عليه, وإنما قال: فيمن أخرج ريقه إلى شفتيه, ثم ازدرده؛ أفسد لأنه. . . .
وإن انفصل الريق عن فيه إلى ثوبه أو يده ونحو ذلك, ثم أعاده إلى فيه وازدرده؛ أفطر. ذكره بعض أصحابنا؛ لأنه يمكنه الاحتراز منه, ولأنه ابتلعه من غير فمه, فأشبه ما لو ابتلع غيره, حتى قال ابن عقيل وغيره: إن خرج ريقه إلى شفتيه ثم ازدرده؛ أفطر؛ لأنه صار مخرجه عن فمه [في حكم الظاهر].

[وإن تعلق بخيط أو غيره. . .].
وإن كان في فمه حصاة أو درهم, فأخرجه وعليه بلَلُ ريقه ثم أعاده وابتلع بعد ذلك ريقه:
فقال ابن عقيل: يفطر بابتلاع الريق الذي كان على ذلك الجسم؛ بخلاف ما لو أخرج لسانه وعليه الدرهم ثم أعاده؛ لم ينبغ أن يفطر هنا.
وقال غيره من أصحابنا: إن كان عليه من الريق كثيراً؛ أفطر, وإن كان يسيراً؛ لم يفطر؛ لأنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه, فلا تفطره؛ كآثار المضمضة والسواك الرطب.
ومثل ذلك أيضاً لو أدخل إلى فيه حصاة مبلولة بماء أو نحوه, أو مص لسان غيره ونحو ذلك مما يكون عليه رطوبة يسيرة؛ ففيه الوجهان المذكوران.
ولو تعلق بصاقه بخيط ونحوه, ثم أعاده إلى فمه؛ فينبغي أن يخرَّج على هذين الوجهين.
وإن كان للخيط طعم:
قال عبد الله: سألت أبي عن الصائم يفتل الخيوط؟ يعجبني أن يتبزق.
وجعل بعض أصحابنا التبزق لما يجده من طعم الخيوط.
والأظهر أن التبزق لما يصير على خيط من الريق, ثم يعود إلى فمه, ولأنه نص على أن وضع الدينار والدرهم في الفم لا بأس به ما لم يجد طعمه.
وإن ابتلع نخامة من صدره أو رأسه؛ فإنه يكره.
وهل يفطر؟ على روايتين:
إحداهما: يفطر.
قال في رواية حنبل: إذا تنخم الصائم ثم ازدرده؛ فقد أفطر, فإن بلع ريقه؛ لم يفطر؛ لأن النخامة تنزل من الرأس والريق من الفم, فبينهما فرق.
ولو أن رجلاً تنخع من جوفه, ثم ازدرده؛ فقد أفطر؛ لأنه شيء قد بان منه, وكان بمنزلة من أكل شيئاً.
ولا ينبغي أن يتنخع ويقلع من جوفه [بلغماً] أو غيره؛ إلا أن يغلبه أمر, فيقذفه ولا يزدرده؛ فقد نص على الفطر بنخامة الرأس والصدر, وجعل نخامة الصدر بمنزلة القيء لا يتعمد إخراجها إلا أن يغلب, وهذا لأنه خارج [من البطن] أمكن التحرز من عوده, فأفطر به؛ كالقلس والدم.
والثانية: لا يفطر. قال ابن عقيل: وهي أصحهما.
قال في رواية المروذي: ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخاعة وأنت صائم؛ إلا أنه لا يعجبني أن يفعل.
والنخاعة إذا كانت من الصدر ليس فيها طعام؛ فلا بأس, وإن استقاء حتى يخرج الطعام؛ فعليه القضاء.
ونقل أبو طالب. . . .

فقد نص على أن النخاعة لا يفطر ابتلاعها مطلقاً, وبيَّن أن التي تخرج من الصدر لا يفطر [بخروجها]؛ إلا أن يخرج الطعام فيكون قيئاً, وهذا. . . .
وذكر ابن أبي موسى: أن الروايتين في نخامة الصدر, فأما التي من الرأس؛ فيفطر رواية واحدة, والفرق بينهما أن التي من الصدر بمنزلة البصاق؛ بخلاف التي من الرأس.
فأما القلس إذا خرج ثم عاد بغير اختياره؛ لم يفطره, وإذا ابتلعه عمداً؛ فإنه يفطر, نص عليه في رواية صالح: إذا ابتلع القلس؛ أعاد صومه, وأما في الصلاة؛ فإن كان بقدر ما يكون في الأسنان؛ فأرجو أن لا يكون عليه قضاء الصلاة.
قال القاضي: وظاهر هذا أنه لا فرق بين الصلاة والصيام, وكذلك لو جرح فمه فسال دمه, كذلك ما يبقى بين الأسنان من خبز ولحم أو سويق ونحو ذلك, إذا أمكنه أن يلفظه فابتلعه ذاكراً لصومه؛ أفطر, سواء كان قليلاً أو كثيراً.
قال ابن أبي موسى: إن بقي بين أسنانه من طعام ما يعلم به ويقدر على لفظه فازدرده؛ أفطر, وإن كان لا يعلم به, فجرى به الريق عن غير قصد, ويقدر على لفظه, فازدرده؛ لم يفطر.
وإن أصبح وهو في فيه, فلفظه؛ لم يفطر.
فأما ما يجري به الريق وهو ما لا يتميز عن الريق؛ فإنه لا يفطر به؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه إلا بمشقة, وهو التبزق.
وإذا تنجس فمه بالقيء أو الدم ونحوهما, أو بشيء من خارج, وابتلع ريقه؛ لم يفطر بابتلاع الريق, وإن كان نجساً؛ إلا أن يكون معه جزء من النجاسة يمكن لفظه؛ لأن ما يجري به الريق لا يفطر به؛ كأثر المضمضة وأثر الطعام؛ إلا أن يكون قد وضع النجاسة في فمه عمداً.
* فصل:
وما يوضع في الفم من طعام أو غيره لا يفطر؛ لأن المضمضة جائزة بالسنة المستفيضة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يتمضمضون في وضوئهم وهم صيام.
وقد قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً»؛ فأمره بالاستنشاق مع الصوم دون المبالغة فيه.
وقد ضرب لعمر المثل بالمضمضة في أنها لا تفطر الصائم.
490 - ولما روي. . .: «أن أسامة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم, وقد شج ودمه يسيل, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمص الدم من شجته».
والدم محرم أكله, ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم [بإدخاله] الدم إلى فمه بآكل ولا منهي عنه في هذا الحال.
فكذلك الأشياء إذا دخلت فم الصائم لا تضره, لكن يكره ذلك إذا لم تدع إليه الحاجة؛ [لأن فيه حوماً حول الحمى].
فأما إن كان لحاجة؛ مثل أن يذوق طعم القدر أو خلاَّ ونحوه مما يريد شراءه, أو يمضغ الخبز للصبي ونحو ذلك؛ ففيه روايتان:
إحداهما: يكره.
491 - قال في رواية حنبل: عن عكرمة, عن ابن عباس: «لا بأس أن يذوق الصائم الخل والشيء الذي يريد شراءه ما لم يدخل حلقه».
492 - ومنصور عن الحسن: «أنه كان يمضغ الجوز والشيء لابنه, وهو صائم».
قال أبو عبد الله: أحب إليَّ أن يجتنب الصائم ذوق الشيء, فإن فعل؛ لم يضره, ولا بأس به».
وهو اختيار أبي الخطّاب.

والثانية: لا يكره.
قال في رواية أبي الحارث: يمضغ للصبي الخبز في شهر رمضان ضرورة.
وهذا قول أبي بكر وابن عقيل.
وقال القاضي: إذا كان الشيء الذي يذوقه مما يتحلل إلى حلقه مثل الخل وغيره من الأشياء؛ منع من ذلك. [وإن كان ما لا يتحلل غالباً كالخبز والقثاء ونحو ذلك؛ جاز له ذلك]؛ فإن فعل, فوجد طعمه أو نزل إلى جوفه بغير اختياره:فقال أبو بكر: لا يضرُّه ما لم يبلعه أو يزدرده متعمداً, وعلى الغلبة لا قضاء عليه.
وقال القاضي وأصحابه وغيرهم من أصحابنا: يفطر بنفس وجود الطعم, وإن ذاقه ثم لفظه؛ لأنه يُعلم أنه قد تحلل إلى حلقه منه شيء؛ بخلاف ما إذا لم يجد طعمه في حلقه, وبخلاف العلك الذي يصلب بالعلك؛ فإن الريق يتميز عنه ويأخذ الطعم منه, وهذه المذوقات لا يتميز الريق منها.
وأكثر كلام أحمد على هذا, ورواية ابن القاسم توافق قول أبي بكر.
فأما وضع ما لا طعم له؛ فلا يكره.
قال في رواية المروذي: إذا وضع الصائم في فمه ديناراً أو درهماً وهو صائم؛ أرجو أن لا يكون به بأس؛ ما لم يجد طعمه, وما وجد طعمه لا يعجبني.
قال ابن عقيل: وهذا عندي محمول على أجزاء ما يكون على الدينار من غبار وما شاكله, فأما الذهب؛ فلا طعم له في نفسه, ولو كان له طعم؛ فإنه لا يتحلل منه شيء إلى الفم.
وإذا وجد طعم الدرهم والدينار؛ ففيه وجهان على ما ذكره القاضي.
فأما ما يبقى في الفم من أجزاء الماء في المضمضة؛ فإنه لا يفطر بوصوله إلى جوفه, وإن أمكن الاحتراز عنه بالبصق, ولا يستحب إخراجه.
فأما ما يبقى من أثر المذوق. . . .
ويكره للصائم مضغ العلك, وهو الموميا واللبان, الذي كلما علكه؛ قوي وصلب ولم يتحلل منه شيء؛ لما تقدم من أنه لا حاجة إليه, وهو يحلب الفم ويجمع الريق فيه ويورث العطش, وجمع الريق وبلعه مكروه, ولا يفطر باجتماع هذا الريق وابتلاعه ما لم يجد طعم العلك. قاله القاضي وغيره من أصحابنا.
وذكر ابن عقيل فيه الروايتين التي تقدمت فيمن جمع الريق وبلعه: فإن ابتلع الريق فوجد طعم العلك في حلقه؛ فقد قال أحمد فيما إذا وجد طعم الدينار: لا يعجبني. وهذا مثله, وفيه وجهان:
أحدهما: أنه يفطر.
قال القاضي: وهو ظاهر قوله: «لأنه وجد الطعم في حلقه» , فأفطر كما لو [وجد طعم الكحل] وأولى, ولأن الريق باختلاطه بالعلك وامتزاجه به صار بمنزلة شيء من خارج, فإذا بلعه؛ فقد بلع جسماً له طعم فيفطر؛ كما لو مزج ريقه بخل ثم بلعه.
والثاني: لا يفطر.
لأن الطعم عرض, وهو لم ينزل في حلقه شيء من الأجسام, وهو لا يفطر بهذا؛ كما لو وضع رجله في الماء فوجد بردها, كما لو لطخ رجله بالحنظل فوجد طعمه في فيه؛ فإنه لا يفطر.
فأما الذي يتحلل منه أجزاء وهو يتفشى ويتهرأ بالعلك:
فقال أصحابنا: لا يجوز له مضغه, ومتى مضغه فوجد طعمه في حلقه؛ أفطر. وقال ابن عقيل: يحرم مضغه ويفسد الصوم؛ لأنه ابتلع في صومه ما يقدر على التحرز منه.

وقال غيرهما: يحرم؛ إلا إذا لم يبتلع ريقه.
وقال غيره: هذا إذا لم يكن إليه حاجة, فأما مع الحاجة؛ فيجوز.
وذكر القاضي: أنه لا يعلكه, ولم يكره؛ كما نص عليه أحمد في مضغ الجوز وغيره.
وإذا كانت الحاجة إليه؛ ففي الكراهة الروايتان.
وإذا وجد طعمه وأثره وبصاقه في فيه؛ فعلى الوجهين:
فإن مضغ هذا العلك, فنزل في حلقه منه شيء؛ أفطر؛ لأنه أجزاء منه؛ فهو كما لو جعل في [فمه] طعام, فذاب ونزل في حلقه.
وإن وجد الطعم, ولم يتيقن نزول الأجزاء؛ أفطر أيضاً. قاله أبو الخطاب.
وهو مقتضى قول القاضي؛ لأن طعم هذه العلك لا ينفصل عن أجزائها؛ فإنها تختلط بالريق وتمتزج به.
وهل يكره السواك الرطب؟ على روايتين:
إحداهما: يكره. نقلها الأثرم, فقال: لا يعجبني السواك الرطب.
والثانية: الرطب واليابس سواء.
قال في رواية ابن هانئ: أرجو؛ أي: سواء كان الرطب واليابس للصائم.
وهو اختيار أبي بكر.
وأما ابتلاع ريق الغير؛ فإنه يفطر أيضاً فيما ذكره أصحابنا.
493 - واعتذروا عما روي عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها». رواه أحمد وأبو داوود.
فإنه قد روي عن أبي داوود: أنه قال: هذا إسناد ليس بصحيح.
وإنه يجوز أن يكون المصُّ في غير وقت التقبيل, وأن يكون قد مصه ولم يبتلعه.
وحمله بعضهم على أن البلل الذي على لسانها لم يتحقق انفصاله إلى فيه ودخوله إلى جوفه لقلته, فلم يفطر على إحدى المقدمتين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|