
28-02-2022, 10:43 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (1)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 288 الى صــ 293
الحلقة (48)
السابعة : قوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة أي لا تقرباها بأكل ; لأن الإباحة فيه وقعت . قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول : إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه لا تلبس بالفعل ، وإذا كان ( بضم الراء ) فإن معناه لا تدن منه . وفي الصحاح : قرب الشيء يقرب قربا أي دنا . وقربته ( بالكسر ) أقربه قربانا أي دنوت منه . وقربت [ ص: 288 ] أقرب قرابة مثل كتبت أكتب كتابة - إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة ، والاسم القرب . قال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب ؟ فقال : سير الليل لورد الغد . وقال ابن عطية : قال بعض الحذاق : إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب . قال ابن عطية : وهذا مثال بين في سد الذرائع . وقال بعض أرباب المعاني : قوله : ولا تقربا إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة ، وأن سكناه فيها لا يدوم ، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى . والدليل على هذا قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة فدل على خروجه منها .
الثامنة : قوله تعالى : هذه الشجرة الاسم المبهم ينعت بما فيه الألف واللام لا غير ، كقولك : مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة . وقرأ ابن محيصن : " هذي الشجرة " بالياء وهو الأصل ، لأن الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها ، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها ، وذلك لأن أصلها الياء .
والشجرة والشجرة والشيرة ، ثلاث لغات وقرئ " الشجرة " بكسر الشين . والشجرة : ما كان على ساق من نبات الأرض . وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الأشجار ، وواد شجير ، ولا يقال : واد أشجر . وواحد الشجراء شجرة ، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة : شجرة وشجراء ، وقصبة وقصباء ، وطرفة وطرفاء ، وحلفة وحلفاء . وكان الأصمعي يقول في واحد الحلفاء : حلفة ، بكسر اللام مخالفة لأخواتها . وقال سيبويه : الشجراء واحد وجمع ، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء . والمشجرة : موضع الأشجار . وأرض مشجرة ، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا ، قاله الجوهري .
التاسعة : واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها ، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة : هي الكرم ، ولذلك حرمت علينا الخمر . وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة : هي السنبلة ، والحبة منها ككلى البقر ، أحلى من العسل وألين من الزبد ، قاله وهب بن منبه . ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه . وقال ابن جريج عن بعض الصحابة : هي شجرة التين ، وكذا روى سعيد عن قتادة ، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها ، ذكره السهيلي . قال ابن عطية : وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر ، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها . وقال القشيري أبو نصر : وكان الإمام والدي رحمه الله يقول : يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة .
[ ص: 289 ]
العاشرة : واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى : فتكونا من الظالمين ، فقال قوم أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها ، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر . قال ابن العربي : وهي أول معصية عصي الله بها على هذا القول . قال : " وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث . وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا : لا حنث فيه . وقال مالك وأصحابه : إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه ، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره ، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها ، فحمل القول على اللفظ دون المعنى .
وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا ، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين ، قال في الكتاب : يحنث ; لأنها هكذا تؤكل . وقال ابن المواز : لا شيء عليه ; لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة . ولو قال في يمينه : لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها وفيما اشترى بثمنها من طعام ، وفيما أنبتت خلاف . وقال آخرون : تأولا النهي على الندب . قال ابن العربي : وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك هاهنا ، لقوله : فتكونا من الظالمين فقرن النهي بالوعيد ، وكذلك قوله سبحانه : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . وقال ابن المسيب : إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله . وكذلك قال يزيد بن قسيط ، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل . قال ابن العربي : وهذا فاسد نقلا وعقلا ، أما النقل فلم يصح بحال ، وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال : لا فيها غول . وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم . قلت : قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى : [ ص: 290 ] فلما أنبأهم بأسمائهم فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله جل وعز . وقيل : أكلها ناسيا ، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد . قلت : وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما . ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا ، أي مخالفا . قال أبو أمامة : لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم ، وقد قال الله تعالى : ولم نجد له عزما .
قلت : قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم . وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا . وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء . والله أعلم .
قلت : والقول الأول أيضا حسن ، فظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال : هذان حرامان على ذكور أمتي . وقال في خبر آخر : هذان مهلكان أمتي . وإنما أراد الجنس لا العين .
الحادية عشرة : يقال : إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها - على ما يأتي بيانه - وإن أول كلامه كان معها لأنها وسواس المخدة ، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء ، فقال : ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد ، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد ، فأتاهما من حيث أحبا - " حبك الشيء يعمي ويصم " - فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد ، فألح على حواء وألحت حواء على آدم ، إلى أن قالت : أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سلمت أنت ، فأكلت فلم يضرها ، فأتت آدم فقالت : كل فإني قد أكلت فلم يضرني ، فأكل فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب ، لقول الله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة فجمعهما في النهي ، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا ، وخفيت على آدم هذه المسألة ، ولهذا قال بعض العلماء : إن من قال لزوجتيه أو أمتيه : إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حرتان - إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما . وقد [ ص: 291 ] اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال ، قال ابن القاسم : لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول ، حملا على هذا الأصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ . وقاله سحنون . وقال ابن القاسم مرة أخرى : تطلقان جميعا وتعتقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما ; لأن بعض الحنث حنث ، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه يحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما . وقال أشهب : تعتق وتطلق التي دخلت وحدها ; لأن دخول كل واحدة منهما شرط في طلاقها أو عتقها . قال ابن العربي : وهذا بعيد ; لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا .
قلت : الصحيح الأول ، وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما ; لأنك إذا قلت : لا تدخلا الدار ، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما ; لأن قول الله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة نهي لهما فتكونا من الظالمين جوابه ، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا ، فلما أكلت لم يصبها شيء ; لأن المنهي عنه ما وجد كاملا . وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم ، وهو معنى قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي وقيل : نسي قوله : إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . والله أعلم .
الثانية عشرة : واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شين ونقص إجماعا . عند القاضي أبي بكر ، وعند الأستاذ أبي إسحاق أن ذلك مقتضى دليل المعجزة ، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم - ، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين : تقع الصغائر منهم . خلافا للرافضة حيث قالوا : إنهم معصومون من جميع ذلك ، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث ، وهذا ظاهر لا خفاء فيه . وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها ، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة ، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم ، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة أو الحظر أو المعصية ، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين . قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : واختلفوا في الصغائر ، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم ، وصار بعضهم إلى تجويزها ، ولا أصل لهذه المقالة . وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى [ ص: 292 ] القول الأول : الذي ينبغي أن يقال إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها وأشفقوا منها وتابوا ، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات ، بالنسبة إلى مناصبهم وعلو أقدارهم ، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة . قال : وهذا هو الحق . ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين . فهم - صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم ، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم ، صلوات الله عليهم وسلامه .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : فتكونا من الظالمين الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه . والأرض المظلومة : التي لم تحفر قط ثم حفرت . قال النابغة .
وقفت فيها أصيلالا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد ويسمى ذلك التراب الظليم . قال الشاعر :
فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مردود عليها ظليمها
وإذا نحر البعير من غير داء به فقد ظلم ، ومنه : . . . ظلامون للجزر .
ويقال : سقانا ظليمة طيبة ، إذا سقاهم اللبن قبل إدراكه . وقد ظلم وطبه ، إذا سقى منه قبل أن يروب ويخرج زبده . واللبن مظلوم وظليم . قال :
وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم
ورجل ظليم : شديد الظلم . والظلم : الشرك ، قال الله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|