من محاضرات كبار العلماء (7)
الشيخ الفوزان : وسطية الإسلام ومحاربة التطرف
مجلة الفرقان
هذه محاضرة من محاضرات العلامة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- الذي عهدنا محاضراته متميزة بالعلم المفيد، وعلاج الأخطار التي تدور في الساحة الدعوية، وقد كان من تلك المواضيع التي تطرق إليها الشيخ موضوع: (وسطية الإسلام ومحاربة التطرف)، وهذا يعد من المسائل المهمة في أيامنا التي كثر فيها الغبش والكلام الطويل فكانت محاضرة الشيخ تجلية لهذا الأمر؛ فقال -حفظه الله-: قال اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}؛ فالله جعل هذه الأُمة وسطًا بمعنى: أنها عدولٌ خيار؛ لأن الله سيستشهدها على الأُمم يوم القيامة أن رسلهم بلغوهم، وقامت عليهم الحجة وكانت أُمةً وسطًا؛ لأن الشاهد يُشترط فيهِ شرطان: العدل والخيار، فتوفرت في هذه الأُمة شروط العدالة والخيار فاستحقت بذلك أن يستشهدها الله على الأُمم يوم القيامة.
شهادة أمتنا على الأمم
كيف تشهد هذه الأمة على الأُمم يوم القيامة وهم آخر الأمم؟ قال الشيخ -حفظه الله-: يشهدون بما بلغهم رسولهم مُحمد - صلى الله عليه وسلم -، فالرَسُول أخبر أن الرُّسل بلغوا أُممهم وقامت الحجة عليهم، وهذا في القرآن كما قص الله عن قوم نوح وعاد وثمود وسائر الأمم، قص الله علينا نبأ الأنبياء مع أُممهم وما قالوا لهم وما ردوا عليهم فنحن نشهد بما جاء في هذا القرآن الكريم من قصص الأنبياء والمرسلين والأُمم الماضية، نشهد بذلك على الأُمم يوم القيامة {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.
والذي يُزكينا هو رسُولنا - صلى الله عليه وسلم - {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} فهذا فضلٌ في هذه الأُمة نالوهُ من الله-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو ينسحب على كل أفراد في هذه الأمة المحمدية من أولهم إلى آخرهم، أنها أُمةٌ عدلٌ خِيار وهذا مدحٌ من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لهذهِ الأمة المحمدية التي هي آخر الأُمم، ورسالة نبينا مُحمد - صلى الله عليه وسلم - عامة لجميع الناس بل لجميع الثقلين الجن والإنس، أرسلهُ الله بشيرًا ونذيرًا {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} قال - صلى الله عليه وسلم - «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو آخر الرسل
ثم أضاف الشيخ: « فهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو آخر الرسل وهو خاتم النبيين وهو الشاهد على الأُمم عند الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ لِما أنزل اللهُ عليهِ من الكتاب الذي فيهِ أخبار الأولين والآخرين كما تقرؤون ذلك في القرآن الكريم من أخبار الأُمم وأخبار الرسل وما مضى وما يأتي فهو شاملٌ لأحوال الناس إلى يوم القيامة {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} يعني: القرآن، وقيل ما في الكتاب: يعني اللوح المحفوظ ولا مانع من ذلك بأن يكون الله ما فرط في اللوح المحفوظ ولا في القرآن من شيءٍ إلا وبينهُ -سُبحانهُ وَتَعَالَى-؛ فهذا القرآن العظيم بين أيدينا حفظه الله من التغير والتبديل{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، تكفل الله بحفظ هذا القرآن لا يُغير ولا يُبدل ولا يزال رطبًا طريًا كما أُنزل على مُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وسيبقى إلى أن يرفعهُ الله في آخر الزمان عند قيام الساعة؛ لأن القرآن بدأ من الله -جَلَّ وَعَلَا- وإليهِ يعود في آخر الزمان، يُرفع إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو محفوظ لا يتطرق إليه نقصٌ، ولا يتطرق إليهِ خللٌ، ولا تمتد إليهِ يدُ مُبطل بخلاف الكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور فهذه الله أوكل حفظها إلى أهلها فحرفوها، أما هذا القرآن فإن الله تكفل بحفظهِ ولم يكل حفظهُ إلى أحد، بل تكفل بحفظهِ -سُبْحَانهُ وَتَعَالَى- لأنهُ حجة على العباد، فنحن نقرأ فيهِ أخبار الأُمم السابقة، ونقرأ فيه أخبار الأنبياء والمرسلين، ونقرأ فيهِ حتى أخبار السماء والملائكة المكرمين {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.
السنة النبوية مُفسرة للقرآن الكريم
ثم بين الشيخ -حفظه الله- أن: السنة النبوية هي الوحيُّ الثاني، الوحي الأول القرآن والوحي الثاني السنة التي تُفسر القرآن قال -تَعَالى-: {وَمَا يَنْطِقُ} في وصف نبيهِ - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فالمسؤولية علينا عظيمة، المسؤولية علينا جماعةً وأفرادًا وعلماء وعوام، المسؤولية علينا عظيمة أن نقوم بهذه الدين في أنفسنا أولًا ثم نبلغهُ لغيرنا، وندعو إليه ونحافظ عليهِ فهو مسؤوليتا جميعًا، وكل مسلمٍ فإنهُ على ثغر من ثغور الإسلام؛ فالله الله أن يُؤتى الإسلام من قبلهِ، كلنا مكلفون بحفظ هذا الدين والعمل بهِ والدعوة إليهِ، أمانة الله -جّلَّ وَعَلَا- في أعناقنا وسنُسأل عنهُ يوم القيامة، فهو حجة لنا إن عملنا بهِ عند الله -سُبحانهُ- حجة لنا عند الله أو حجة علينا إن أعرضنا عنهُ وتأخرنا عن القيام بهِ فإنهُ حجة علينا؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم -:«والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ».
كل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام
ثم تابع الشيخ كلامه قائلا: كل واحدٍ منا يعمل لهذا الإسلام، كل واحد منا يعمل لمصلحة نفسهِ ومصلحة إخوانهِ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» فكما تحب لنفسك الخير وتكره لها الشر كذلك تُحب لأخيك الخير وتكره له الشر هذه الأمة المحمدية التي امتازت على سائر الأمم بهذه المنزلة العظيمة وستسأل عن هذا يوم القيامة، كل فرد منا: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} فالإنسان بالعمل لا بالنسب، أن يكون من قبيلة فلان أو من قريش أو من بني هاشم، «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْودَ، وَلَا لِأَسْودَ عَلَى أَبْيَضَ إِلَا بِالتْقْوَى» كما قال الله -جَلَّ وَعَلَا- في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} ثم قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فمعرفة الأنساب هذا ليس لأجل التقدم عند الله بالنسب، الله -جَلَّ وَعَلَا- إنما ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا ولا ينظر إلى صورنا وأموالنا.
شتان بين هؤلاء وهؤلاء
سلمان الفارسي وبلال الحبشي من سادات الصحابة، وأبو لهب وأبو جهل من قريش ومن بني هاشم ومن بني مخزوم ومع هذا هم في الدرك الأسفل من النار، لم ينفعهم نسبهم، لماذا؟ لأنهم لم يعملوا بما ينجيهم من النار ولم يتبعوا رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بل عادوهُ فلم ينفعهم نسبهم قال - صلى الله عليه وسلم - «وَمَنْ بَطَّأْ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نِسِبُهُ» {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} هذا هو المعتبر (تقوى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بفعل أوامرهِ وترك نواهيه)، ثم لنعلم أيها الإخوة أن كل واحد منا على ثغر من ثغور الإسلام؛ يعمل للإسلام في أي مجال هو يعمل للإسلام، في الجندية، في الزراعة، في الصناعة، في التجارة، كل يعمل لهذا الدين ولهذا الإسلام بعملهِ؛ لأن الأمة بحاجة إلى مجموعة الأعمال، بحاجة إلى التجار، بحاجة إلى العلماء، بحاجة إلى الأطباء، بحاجة إلى الجنود، الإسلام بحاجة إلى كلهم، وكلهم يعملون لهذا الدين في مجال أعمالهم، لكن على المسلم أن يحتسب الأجر والثواب عند الله حتى ينال الأجر من الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإلا فكل منا يعمل لهذا الدين ويعمل لمصلحة إخوانه كمثل الجسد الواحد كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا فعلينا أن نحسن النية والقصد لهذا الدين ولنفع المسلمين حتى نكون عند الله -سُبحانهُ- من العباد الصالحين وننال من الله الأجر والثواب يوم القيامة.
التعاون والترابط بين المسلمين
وبعد ذلك تطرق الشيخ إلى مسألة مهمة -حفظه الله-: والناس كالأعضاء في الجسد، كلهم يخدمون هذا الجسد، ويتكون الجسد منهم كذلك يتكون الإسلام بالمسلمين في تعاونهم {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فلا يجد المسلم على أخيه حقد والبغضاء والحسد.
وإنما يجد لأخيه المسلم المحبة والأخوة الصادقة والتعاون على البر والتقوى والترابط بين المسلمين، هذا هو المطلوب الذي خلقنا الله من أجلهِ، وإنما النسب إنما هو للتعارف فقط تعرف إن هذا من أقاربك، إن هذا من أسرتك أنه من جماعتك، لكن لا يوجب هذا أن تقدمه على غيره إذا كان على غير الدين فإذا كان على غير الدين فلا تقربه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، أولياء يعني: تحبونهم ويحبونكم وهم أعداء لله وأعداء للمسلمين لا تحبهم ولو كانوا أقرب الناس إليك: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}، فهؤلاء هم المؤمنون، ويكونون في الآخرة إخوانًا على سررٍ متقابلين، أما أهل النار فيلعن بعضهم بعضا، ويسُّب بعضهم بعضا ويتلاومون -والعياذ بالله-، أما أهل الجنة فيتحابون على مجالسهم يتقابلون على مجالسهم، كما كانوا في الدنيا على دين الله، وعلى المحبة في الله كانوا في الجنة كذلك، فعلينا أن نكون كذلك ونسأل الله أن يوفقنا لذلك، وأن يثبتنا عليه.
العالم اليوم يموج بالفتن
ثم أردف الشيخ بعد ذلك بهذا الكلام المهم فقال: كما تعلمون ما يموج به العالم اليوم من الفتن والشُرور التي لا تقتصر على أهلها ومواطنها بل تأتيكم تزحف بشتى وسائل النقل، والوسائل الكثيرة التي تُبث فيها الشرور وتصل الإنسان على فراشه وفي أقصى بيته إلَّا من رحم الله، فعلينا أن نحذر من هذه الفتن، وأن نطَّهر بيوتنا منها وأن نمنعها عن عوائلنا، ومن تحت أيدينا فإنها غزوٌ قبيحٌ، تغزو البيوت، وتغزو الأسر تغزو الأولاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} هذه نارٌ تدخل في بيتك! تُحرق أولادك وتُحرق أقاربك، امنعها عن بيتك، بيتك لا أحدٌ ينازعك فيه، حتى الملك ما يستطيع يتصرف في بيتك! بيتك تحت أمرتك وتحت سلطتك ولا يدري عنه إلَّا أنت، أنت المسؤول عما في بيتك، فلنتقِ الله -سُبَحْانه وَتَعَالَى- في بيوتنا وفي أولادنا ونتناصح فيما بيننا مع إخواننا مع جيراننا مع من حولنا، نتحاب ونتراحم ونتناصح ونتعاون على البرَّ والتقوى.