عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 23-02-2022, 08:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب



فما أن فرغ من المديح حتى قال بشار: انظروا إلى أمير المؤمنين، هل طار عن أعواده؟ يريد: هل زال عن سريره؛ طربًا بهذا المديح؟







وَلعَمْري، إنَّ الأمرَ كما قال بشار، وخيرُ القولِ ما أسكرَ السامع، حتى ينقله عن حالته، سواء كان في مديح أم غيره.[22]







إنَّ أقلَّ الناس حظًّا في هذه الصناعة - البلاغة والنقد - مَن اقتصر في اختياره على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداء اللغة فقط، ثم لا يعبأ بعد ذلك بجمال النظم، وإدراك العلاقات بين أجزاء الكلام، وضَرورة مُعايشة التجربة الجمالية؛ مما يَعوق سُبلَ التلقي، من أجل ذلك ذهب الجاحظُ إلى أن البيان "يَحتاج إلى تَمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة، وإحكام الصنعة... وأنَّ حاجةَ المنطق إلى الحلاوة والطلاوة، كحاجته إلى الجزالة والفخامة"[23]؛ أي: إنَّ الجاحظ نادى بإحكام التوازُن بين العلاقات الداخلية للنص، والعلاقات الخارجية؛ وذلك لإحداث التأثير في وجدان المتلقي وعقله.







فالكلام يَقْوَى تأثيره في المتلقي بترابُطه وتأكيد معانيه؛ إذ كلما "ازدادَ الكلام تأكيدًا كان أبلغ"[24]، وأقوى تأثيرًا؛ لقُدرته على تثبيت المعنى، وطَمس التردُّد من أفق النص، بمعنى أنَّ التأكيد يُلغي كلَّ ما يعكر تقبُّل الجمال؛ لأنه يتيح المجال بصورة أكبر لتقبله بنفسٍ مُطمئنة، والجمال في الأصل لا يقوى بناؤه إلاَّ بالراحة واللذة والطمأنينة، أمَّا الشك والريب والتردُّد، فهي معاول تَهدِمُ الجمالَ في النفس؛ لهذا قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] في بداية القرآن؛ طردًا للشك والريب وترسيخًا للإيمان، وتهيئة لتلقي كلام الله الذي يخلق الانسجام في أنحاء الحياة وأنفُس البشر.







"إنَّ البلاغةَ فن إدراك العلاقات، وعبقرية الأداء، وحساسية التذوق"[25]، والكلام البليغ تهش له الأسماع، وترتاح له القلوب، ويصنع فيها صنيع الغَيْث في التربة، فاللَّذة الجمالية هي عين الإدراك الجمالي، وكلما كان الإدراك شموليًّا، كانت اللذة أعظم.







ثانيًا: معالم اهتمام النقاد العرب بالمتلقي بعد الإسلام:



وتأتي المراحل التي أعقبت الإسلامَ مُتسمة بمعالم إسلامية، علاوة على تعايُش الثَّقافات المختلفة، الشيء الذي جعل النَّقد العربيَّ يَهتم بالمتلقي في العملية الإبداعية، حتى إنَّه "طالب المبدعَ بأنْ يستوفي شروطَ التوصيل الصَّحيحة، حتى بات من أقسام عمود الشِّعر الوضوح، ومُناسبة المستعار له، والمقاربة في التَّشبيه ونحو ذلك، بحيث أصبحَ الغموض غير مرغوب فيه"[26]، وقد جمع المرزوقي (ت421هـ) سبعة أبواب رأى أنَّها تُمثل طريقة العرب في الشعر[27].







ويَمضي الزمان، وتتطور نظرةُ النقاد إلى الشعر، ومن ثَمَّ تطورت العلاقة بين المتلقي والنص على نحوٍ مغاير للعلاقة بينهما فيما سبق؛ حيثُ يتحقق نوع من الاندماج بين الذات المتلقية والموضوع.







وقد التفت ابنُ قتيبة إلى هذه الحالة، فسجَّلها على نحوٍ يُحسب له، وذلك عندما قال: "ولله دَرُّ القائل: أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه"[28].







ومعنى هذا أنَّ الشعرَ في أعلى مستوياته هو ذلك الذي لا تَمتلك الذات المتلقية إزاءه أنْ تظلَّ مُحتفظة بكينونتها مُستقلة عنه، أو تقف على بُعد مسافة منه، بل تَجد نفسها مستوعبة فيه، مشمولة به، حتى إنَّها لا تَملك من أمر نفسها شيئًا، سوى أنْ تستجيبَ لجاذبية هذا الشِّعر، وهو ما يبدو جليًّا وبشكل مكثَّف في عبارة: "من أنت في شعره"، حتى يُمكننا أنْ نعبر عن ذلك بمستوًى يصل إلى الاتِّحاد مع الشاعر في شعره، وهي درجة عالية من الجاذبية يعيشها المتلقي بأثر تقبُّله للنص.







ومن الجدير بالذِّكر في هذا الصَّدد الحديث عن بصر عمر بن الخطاب بالشِّعر وتذوقه ونقده... إنَّه لمَّا أطلقَ الحطيئةَ من حبسه إياه... قد قال له: إياك والهجاء المقذع، قال: وما المقذع يا أمير المؤمنين؟ قال: أن تخايرَ بين الناس، فتقول: فلان خير من فلان، وآل فلان خير من آل فلان، فقال: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني بمذاهب الشعر[29].







فهذه الشهادة من الحطيئة الشاعر العالم بأصول صنعته، الخبير بأسرارها لعمر بن الخطاب تعتبر دليلاً قويًّا على بصره بالشعر وتذوقه له... مما يُؤكد أنَّ عمر كان ظاهرة نادرة في عالم فهم الشِّعر ونقده في هذه المرحلة الباكرة في عمر النقد الأدبي.







ومن الأدلة على صحة ما ذهبنا إليه في هذا الرأي ما قاله الجاحظ وهو العليم بالشعر والمتضلع منه: "كان عمر بن الخطاب - رحمه الله - أعلم الناس بالشعر"[30]، وهي شهادة جديرة بالتقدير، كما أنَّ شهادة الحُطيئة جديرة بالتقدير أيضًا؛ لأن الحطيئة كان راوية لكعب بن زهير، وتلميذًا في مدرسة عبيد الشعر التي عرفت بالتجويد والتهذيب والدِّقة في إنتاجه[31].







"ويُروَى أنه اجتمع في المدينة راوية جرير، وراوية نصيب، وراوية كثير، وراوية جميل، وراوية الأحوص، فادَّعى كل رجل منهم أنَّ صاحبَه أشعر، ثم تراضوا بسكينة بنت الحسين فأتوها وأخبروها..."[32]، وكان الخلفاء والأمراء أيضًا يكلفون بتقريب هؤلاء؛ ليَرووا لهم الأشعار في مَجالسهم، ويستمتعوا بها في ليالي أنسهم.







وقد عدَّ النقاد حُسن اختيار الأشعار عمومًا مسألة خاضعة للعقل: "وقد قيل: اختيار الرجل قطعة من عقله، كما أن شعره قطعة من علمه"[33]، لكنَّهم جعلوا حسن اختيار الأشعار للحفظ يتصدَّره مقياس البلاغة، "واعلم أنَّ الشعر أبلغ"[34].







وقد اهتم النُّقاد القدامى بجودة "الاستهلال" في القصيدة، واشترطوا على المبدع أن يتأنَّق فيه، ويُخرجه على أحسن صورة، وفسَّروا ذلك بأن جودة الاستهلال فيها الانطباع الأوَّلِي للنفس، فإذا كان حسنًا، انجذبت النفس إلى النص وتفاعلت معه، وبهذا يكون عاملاً مهمًّا في إثارة التخيُّلات المناسبة في القصيدة، وأقدر على إحداث الاستجابة المناسبة، فالاستهلالات - كما يرى حازم - هي رائد ما بعدها إلى القلب، وإنَّما كانت كذلك؛ لأنَّها أول ما يقرع السمع من الكلام[35]؛ لذلك يحذر أبو هلال من سوء الابتداء، فيقول: "ليس يُحمد من القائل أن يُعَمِّي معرفةَ مغزاه على السامع لكلامه في أول ابتدائه"[36]، وواضح من هذا القول اهتمامُ أبي هلال بحقِّ المتلقي في ابتدائه بما يشوقه إلى المتابعة، ويَجذبه إلى ساحة النص؛ ليتفاعل معه.







روي عن التوزي (ت 233هـ) أنَّه قال: "قلت للأصمعي: مَن أشعر الناس؟ فقال: من يأتي إلى المعنى الخسيس، فيجعله بلفظه كبيرًا، أو الكبير، فيجعله بلفظه خسيسًا، أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها، أفاد بها معنى، قال: نحو من؟ قال: نحو ذي الرمة حيث يقول[37]:





قِفِ الْعِيسَ فِي أَطْلاَلِ مَيَّةَ فَاسْأَلِ

رُسُومًا كَأَخْلاَقِ الرِّدَاءِ الْمُسَلْسَلِ












فتم الكلام، ثم قال: "المسلسل"، فزاد شيئًا.



قال: قلت: ونحو من؟ قال: الأعشى حيث يقول:





كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيَفْلِقَهَا

فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الْوَعِلُ [38]












فزاد معنى، قال: قلت: وكيف صار الوعل مفضلاً على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحَطُّ من أعلى الجبل على قرنيه، فلا يضيره.[39]







والأصمعي بهذا الخبر يضع يده على أساسٍ دقيق من أسس النَّقد الأدبي، هو قوة العبارة التي يستطيع الشاعر بها أنْ يقدم الفكرةَ المراد التعبير عنها في أسلوب أخَّاذ تجعل المتلقي للشعر مُتأثرًا بهذه الصياغة، مهما كان نصيب الفكرة من الكبر أو الخساسة؛ ذلك لأنَّ "غاية الشعر هي التأثير، والتأثير يعني تغيرًا في الاتِّجاه، وتحولاً في السلوك، والبداية الأولى للتأثير هي تقديم الحقيقة تقديمًا يَبْهَرُ المتلقي من ناحية، ويَبْدَهُه بها من ناحية أخرى... فتتبدى الحقائق من خلال ستار شفَّاف يُضفي عليها إبهامًا محببًا يثير الفضول، ويُغذي الشوق إلى التعرف"[40].







[1] النقد في أدق معانيه هو "فن دراسة النصوص والتمييز بين الأساليب المختلفة"، وهو روح كل دراسة أدبية إذا صحَّ أن الأدب هو كل المؤلفات التي تكتب لجميع المثقفين؛ "لتثير لديهم بفضل خصائص صياغتها صورًا خيالية، أو انفعالات شعورية، أو إحساسات فنية؛ "لانسون، منهج البحث في تاريخ الآداب، صـ 21، وينظر: النقد المنهجي عند العرب صـ 14".




[2] شكري المبخوت: "جمالية الألفة: النص ومتقبله في التراث النقدي"، المجمع التونسي للآداب والعلوم والفنون، بيت الحكمة، 1993م، صـ 8، 9.




[3] إبراهيم السعافين: "إشكالية القارئ في النقد الألسني"، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، بيروت، عدد 60، 61، 1989م، صـ 37، وينظر: "البيان العربي دارسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب ومناهجها ومصادرها الكبرى"، د/ بدوي طبانة، صـ 74، وما بعدها، مكتبة الأنجلو المصرية، ط6، 1976م.




[4] فاضل ثامر: "من سلطة النص إلى سلطة القراءة"، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 48/49، 1988م، بيروت، صـ 95، وينظر في ذلك: بحث الدكتور عز الدين إسماعيل بعنوان: "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، في كتاب "جائزة الشاعر محمد حسن فقي عن الشعر العربي المعاصر والجمهور"، مؤسسة يماني الثقافية الخيرية، 2000م، صـ 167 - 208.




[5] "جهود الرواة العلماء في النقد خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين"، صـ 1 - 15، وينظر: "كيف تلقى العرب القدامى الشعر"، مجلة عالم الفكر، صـ 7، وما بعدها.




[6] "ديوان الخنساء"، صـ 49.




[7] "ديوان النابغة الذبياني"، صـ 38، والمنتأى: الموضع الذي يُنتأَى به؛ أي: يُتباعَد، خطاطيف: جمع خطاف، وهو حديدة معوجة تستخرج بها الدلاء من البئر، حجن: جمع أحجن وهو المعوج.




[8] "الأغاني"، 11/6.




[9] "ديوان حسان بن ثابت"، صـ 130، 131.




[10] "الموشح"، صـ 82.




[11] "الموشح"، صـ 83.




[12] د/ بدوي طبانة، "دراسات في نقد الأدب العربي"، صـ 67، 68.




[13] "نقد الشعر"، صـ 91 – 94 (بتصرف).




[14] د/ داود سلوم، "مقالات في تاريخ النقد العربي"، صـ 33.




[15] "النقد المنهجي عند العرب"، صـ 17.




[16] يُنظر: "الموشح"، صـ 28 – 31، و"الأغاني"، 8/194، و"ديوان امرئ القيس"، صـ40.




[17] "الموشح"، صـ 29، وينظر: "جماليات الألفة"، صـ 55، 56.




[18] يقصد بقوله: "استنوق الجمل"؛ أي: جعله كالناقة، ينظر أصل البيت وقصته: "الشعر والشعراء"، 1/180، 181، و"الموشح"، صـ 110، و"العقد الفريد"، 5/359، و"الأغاني"، 21/132، وينظر: "قيم الإبداع الشعري في النقد العربي القديم"، صـ 17.




[19] "الشعر والشعراء"، 1/135.




[20] "الموشح"، صـ 32، 33، و"بيان إعجاز القرآن"، صـ 58.




[21] "الأغاني"، 4/33، و"المثل السائر"، 1/194، وينظر: د/ شوقي ضيف، "العصر العباسي الأول"، 245.




[22] "المثل السائر"، 1/194 (بتصرف).




[23] "البيان والتبيين"، 1/141.




[24] "الوساطة"، صـ 202.




[25] "فلسفة الجمال في البلاغة العربية"، صـ 364.




[26] إبراهيم السعافين، "إشكالية القارئ في النقد الألسني"، إن أية قراءة معاصرة لن تكون بمعزل في مشروعها القرائي عن أصول عمود الشعر العربي، وأن انطلاق الشعر الجديد إلى عالم الابتداع ليس مرهونًا بزوال تقاليد الشعر العربي القارة، فمفاهيم عمود الشعر تتَّسع للتجارب الحديثة؛ إذ لم توضع هذه المفاهيم انتصافًا لطريقة أدائية دون أخرى؛ (عمود الشعر العربي، صـ 33، 34).




[27] "شرح ديوان الحماسة"، 1/8، 9.




[28] "الشعر والشعراء".




[29] "الأغاني"، 2/187، و"العمدة"، 2/170، و"خزانة الأدب"، للبغدادي، 3/295.




[30] "البيان والتبيين"، 1/239.




[31] "نقد اللغويين للشعر العربي"، صـ 86.




[32] "الموشح"، صـ 252.




[33] "الصناعتين"، صـ 9.




[34] "البرهان"، لابن وهب، صـ350.




[35] "منهاج البلغاء"، صـ 309، و"العمدة"، 1/218، و"المثل السائر"، 3/98، وقارنه بما جاء عند أبي هلال في "الصناعتين"، صـ 451، وما بعدها، و"بديع القرآن"، صـ64، وينظر: "الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية"، صـ 90، وما بعدها، وما بعدها.




[36] "الصناعتين"، صـ 463.




[37] "ديوان ذي الرمة"، ق 50/1، ج3/1451.




[38] "ديوان الأعشى"، ق6، صـ 46، ب49.




[39] "نقد اللغويين"، صـ 177.




[40] "مفهوم الشعر"، صـ 73.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.06 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.12%)]