15- في تحذير الملكين لمن يعلِّمانه السحر من الكفر: إرشاد له لما خلق من أجله، وهو الإيمان بالله- عز وجل- وعبادته، مع اقتران ذلك بالابتلاء بالخير والشر، كما قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35] [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
16- يجب على المسلم النصح للآخرين، وإن أدَّى ذلك إلى إعراضهم عنه، ففي باب التعامل، يبيِّن صفة سلعته، وعيبها إن وجد، وفي باب قول الحق يقول الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، وهكذا؛ لقوله تعالى: ﴿ ومَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102].
17- ليس فيما فعله الملكان من تعلُّم السحر وتعليمه منافاة لعصمة الملائكة؛ لأن الله- عز وجل- أباح لهما ذلك، وإن كان ذلك في حق غيرهما كفراً ومعصية، وذلك ابتلاء وامتحان للناس.
18- أن تعلم السحر وتعليمه كفر أكبر مخرج من الملة، وقد دلّت الآية على ذلك في عدة مواضع، منها ما يلي:
أ- قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102] فهو كفر ومن عمل وتعليم الشياطين.
ب- قوله تعالى: ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102] أي: فلا تكفر بتعلم السحر، والعمل به.
جـ- قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 102] والذي لا خلاق له ولا نصيب في الآخرة هو الكافر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77].
د – قوله تعالى: ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [البقرة: 102] فأقسم- عز وجل- بأنهم باعوا أنفسهم بأسوأ وأقبح شيء، وليس هناك أسوأ ولا أقبح من الكفر.
هـ- قوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102] وفي هذا إشارة إلى أنهم لا علم عندهم، بل ليس عندهم إلا الجهل المطبق، وليس هناك أجهل ممن كفر بربه.
و- قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ﴾ [البقرة: 103] وهذا يدل على أنهم بتعلُّم السحر والعمل به جانبوا الإيمان والتقوى، أي: كفروا.
ز- تأكيد عدم علمهم وشدة جهلهم بما ينفعهم؛ لقوله تعالى في الآية الثانية: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 103].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرَّافاً أو كاهناً فقد كفر بما أُنزل على محمد"[5]، وإذا كان من أتاهما يكفر، فكفرهما من باب أولى. والعراف والكاهن والساحر كلهم يستخدمون الشياطين، ويدّعون علم الغيب، وكل ذلك كفر بالله عز وجل.
19- إثبات حقيقة السحر وتأثيره، وعظم شره وخطره، وذمه؛ لقوله تعالى: ﴿ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ [البقرة: 102]، كما قال تعالى عن سحرة فرعون: ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف: 116]، وقال تعالى: ﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ [طه: 66]، ولهذا يجب قتل الساحر، فعن بَجَالَةَ بْنِ عَبْدَةَ قال: "كتب عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر"[6].
وصح عن حفصة أم المؤمنين- رضي الله عنها- "أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها. فقُتِلَت"[7].
وعن الحسن عن جندب الأزدي- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربة بالسيف"[8].
وقد رُوي من طرق متعددة: "أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل، ثم يصيح به، فيرد إليه رأسه. فقال الناس: سبحان الله، يحيي الموتى، ورآه جندب بن كعب الأزدي، فلما كان من الغد جاء مشتملاً على سيفه. وذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط جندب سيفه، فضرب عنق الساحر. وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: ﴿ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 3]، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك، فحبسه، ثم أطلقه"[9].
وعن حارثة قال: "كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندب مشتملاً على سيفه فقتله، فقال: أراه كان ساحراً"[10].
قال الإمام أحمد: "صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني: عمر، وحفصة، وجندباً- رضي الله عنهم[11].
فيُقتل الساحر- على الصحيح، رجلاً كان أو امرأة، مسلماً كان أو غير مسلم.
واختلفوا في قبول توبة الساحر، والصحيح أنها تقبل، كما تقبل توبة المشرك.
20- أن من أخبث أنواع السحر وأشده ضرراً، ما يفرق بين الأزواج، وهو المسمى بالصرف، ويقابله العطف، وهو أخبث منه وأشد.
21- حرص الشياطين وأتباعهم من السحرة على إفساد ما بين الأزواج.
22- أن نفوذ السحر وأثره وضرره لا يحصل إلا بإذن الله- عز وجل- الكوني؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 102].
وهكذا جميع الأسباب مهما عظمت وكثرت، لا تأثير لها إلا بإذن الله- عز وجل- وتقديره.
وفي هذا رد على القدرية في زعمهم أن أفعال العباد خارجة عن قدرة الله، وأنها مستقلة غير تابعة لمشيئته عز وجل.
23- أن تعلم السحر ضرر محض، لا نفع فيه بوجه من الوجوه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ﴾ [البقرة: 102] فهو كفر، وسبب للشقاء في الدنيا والآخرة، وما يأخذه الساحر من أموال الناس بالباطل يذهب سحتاً، لا ينفعه لا في دينه ولا في دنياه.
24- علم اليهود بأن من اشترى السحر لا نصيب له في الآخرة، وإقدامهم مع ذلك على تعلمه وتعليمه والعمل به، جرأة منهم على الله- عز وجل-؛ ولهذا وصفوا في القرآن الكريم بالمغضوب عليهم؛ لتركهم الحق بعد معرفته، وارتكابهم الباطل مع العلم به.
25- توكيد ذم السحر وقبحه، وسوء عاقبة أهله الذين باعوا به أنفسهم، من اليهود وغيرهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [البقرة: 102].
26- شدة جهل من تعلموا السحر من اليهود وغيرهم، وعدم علمهم علماً ينفعهم ويقودهم إلى الخير ويبعدهم من الشر، إذ لو كان عندهم أدنى علم بما ينفعهم ما تعلَّموا ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102].
27- سعة حلم الله- عز وجل- ورحمته- حيث عرض على هؤلاء الذين اتبعوا الشياطين، وتعلموا السحر والكفر أن يؤمنوا، ويتقوا، ورغَّبهم في ذلك، ووعدهم عليه بالمثوبة العظمى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 103].
28- أن الإيمان تصديق بالقلب واللسان، وعمل بالجوارح، بفعل الأوامر وترك النواهي، وفي هذا رد على المرجئة الذين يقولون يكفي مجرد الإيمان والتصديق بدون عمل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ﴾ [البقرة: 103].
29- أن ما عند الله من المثوبة والأجر العظيم لمن آمن به واتقاه خير من مكاسب الدنيا كلها، بل ومن الدنيا وما فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 103].
30- تأكيد شدة جهل من آثروا اتباع الشياطين، والكفر وتعلم السحر، على الإيمان والتقوى من اليهود وغيرهم، وعدم علمهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 103].
31- أن التفضيل قد يقع بين شيئين لا فضل في أحدهما البتة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 103]، ومعلوم أنه لا خير البتة في السحر والكفر، بل كل ذلك شر محض. وهذا كقوله تعالى: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴾ [الفرقان: 24]، إذ لا خير البتة ولا حسن في مصير أهل النار، وكقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27].
أن من أعظم الجهل، وآكده وأشده ضرراً، ترك الحق والعمل به، بعد معرفته والعلم به، ولهذا أكد عز وجل عدم علم المذكورين مرتين بقوله: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 103].
المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»
[1] البيت لأفيون التغلبي. انظر "لسان العرب" مادة: "وقى".
[2] الأبيات لابن المعتز. انظر: "ديوانه" (2/ 376)- تحقيق محمد بديع شريف- دار المعارف بمصر.
[3] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2796)، ومسلم في الإمارة (1880)، والترمذي في فضائل الجهاد (1651)، وابن ماجه في الجهاد (2757).
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (153)- من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه.
[5] سبق تخريجه.
[6] أخرجه أحمد (1/ 90، 91).
[7] أخرجه مالك في "الموطأ"، وعبدالرزاق. وانظر: "أحكام القرآن للجصاص" (1/ 50)، "تفسير ابن كثير" (1/ 207)، "تيسير العزيز الحميد" ص(293).
[8] أخرجه الترمذي في الحدود (1460). وقال: "والصحيح عن جندب موقوف".
قال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 207): "قلت: رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً".
[9] ذكر هذا ابن كثير في "تفسيره" (1/ 207-208).
[10] أخرجه أبوبكر الخلال- فيما ذكر ابن كثير في "تفسيره" (1/ 208).
[11] انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص(394).