عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 20-02-2022, 06:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,219
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم





تفسير قوله تعالى:﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ .. ﴾

قوله تعالىٰ: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102]

قوله: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ الواو: عاطفة، وضمير الواو في (اتبعوا) يعود إلى الفريق من أهل الكتاب الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وهم اليهود.

﴿ تَتْلُو الشَّيَاطِينُ ﴾ أي: الذي تتبعه شياطين الجن والإنس، وتأخذ به، وترويه، وتحدث به الناس، من الكفر والسحر، فابتلي هؤلاء اليهود عقوبة لهم على نبذ كتاب الله، باتباع ما تتلو الشياطين، وهكذا من ترك الحق مع علمه به، ابتلي وعوقب باتباع الباطل، كما قال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، وقال تعالىٰ: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، وقال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14].

والشياطين: جمع شيطان، وهو كل متمردٍ عاتٍ، خارج عن طاعة الله تعالى من الإنس والجن والحيوان، قال تعالى: ﴿ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]، وقال صلى الله عليه وسلم: "الكلب الأسود شيطان"[1].

﴿ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ عُدِّيَ الفعل "تتلو" بـ"على"؛ لأنه ضمن معنى "تكذب".

ويحتمل أن تكون "على" بمعنى "في" أي: في ملك سليمان، أي: في عهده.

وهو سليمان بن داود- عليهما الصلاة والسلام، وإنما قال عز وجل: ﴿ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾؛ لأن الله قد جمع له بين النبوة والملك العظيم، خلاف ما يزعمه اليهود أنه ملك فقط، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ﴾ [النمل: 15] أي: علم النبوة، وقال تعالى: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 79].

والسحر موجود قبل زمان سليمان- عليه السلام- فهو موجود في زمن موسى- عليه السلام- كما ذكر الله- عز وجل- عن سحرة فرعون؛ ولهذا جعل الله- عز وجل- من الآيات التي أيَّد بها نبيّه موسى- عليه السلام- انقلاب العصا حية، وإدخال يده في جيبه ثم خروجها بيضاء من غير سوء؛ وذلك لإبطال سحرهم.

وموسى- عليه السلام- قبل سليمان- عليه السلام- بمدد طويلة، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 246-251]. وداود المذكور، هو والد سليمان عليهما السلام.

بل إن السحر كان موجوداً ومعروفاً زمن نبي الله صالح- عليه السلام- وهو قبل إبراهيم الخليل- عليه السلام- أبي الأنبياء، من بني إسرائيل، ومن العرب؛ فقد قال قوم صالح له: ﴿ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ﴾ [الشعراء: 153] أي: من المسحورين، بل قد يكون السحر موجوداً قبل ذلك في سائر الأمم، قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 52].

فالشياطين كانت تأتي السحر، وتعمله قبل سليمان- عليه السلام- وتعلِّمه الناس، وإنما أخبر عز وجل عن اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين على عهد سليمان- عليه السلام- لأن الشياطين وأتباعهم من اليهود نسبوا ذلك إلى سليمان- عليه السلام- كذباً منهم وزوراً.

﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾ الجملة مستأنفة، أو حالية في محل نصب، و"ما" نافية، أي: وما كفر سليمان بتعلم السحر، وتعليمه- كما يزعمه الشياطين وأتباعهم من اليهود؛ لأنه رسول من عند الله- عز وجل- معصوم من الكفر وأسبابه.

﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ الواو: عاطفة، و"لكن" حرف استدراك.

قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف "لكنِ" بتخفيف النون وكسرها، لالتقاء الساكنين، و"الشياطينُ" بالرفع مبتدأ، وخبره جملة "كفروا".

وقرأ الباقون بتشديد نون "لكنَّ"، و"الشياطينَ" بالنصب اسمها، وخبرها ما بعده.

﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ تفسير لقوله: ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾، وهي في محل نصب على الحال، أي: حال كونهم يعلمون الناس السحر.

ويحتمل أن يكون قوله: ﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ جملة استئنافية لبيان نوع كفرهم.

والسحر لغة:
ما خفي ولطف سببه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"[2]؛ لأن البيان- وهو الفصاحة والبلاغة في الكلام- يؤثر في النفوس ويجذبها.

وهو في الشرع: عزائم ورقى وعقد ينفث فيها، فتؤثر في العقول والأبدان، بإذن الله عز وجل الكوني، ولا يحصل إلا بالشعوذة، ودعاء الشياطين، والاستعانة بهم، والكفر بالله.

عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يُقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله"[3].

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ﴾ الواو: عاطفة، و"ما" موصولة، بمعنى "الذي"[4] معطوف على "السحر"، أي: يعلمون الناس السحر، والذي أنزل على الملكين من أنواعه، وهو ما يفرقون به بين المرء وزوجه.

والإنزال هنا بمعنى "الخلق"، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله من داء، إلا أنزل له دواء، علمه مَن علمه، وجهله من جهله"[5].

وعن أم سلمة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة، فقال: "سبحان الله، ماذا أُنْزِلَ الليلة من الفتنة، ماذا أُنْزِلَ من الخَزَائن، مَن يوقظ صواحب الحجرات، يارُبَّ كاسيةٍ في الدنيا، عاريةٍ في الآخرة"[6].

والمراد بـ"الملكين" ملكان أنزلا إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السحر، وأنه جائز في حقهما، ابتلاءً وامتحاناً للناس، بعدما بيَّن لهم على ألسنة الرُّسل- عليهم الصلاة والسلام- أن ذلك لا يجوز.

قال الطبري[7]: "فبيِّنٌ أن معنى "ما" التي في قوله: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ﴾ بمعنى "الذي"، وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن "الملكين".. فإن التبس على ذي غباء ما قلنا، فقال: وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلِّم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله إنزال ذلك على الملائكة؟ قيل له: إن الله جلَّ ثناؤه عرَّف عباده جميعَ ما أمرَهم به، وجميع ما نهاهم عنه، ثم أمرهم ونهاهم، بعد العلم منهم بما يؤمَرون به وينهون عنه، ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم، فالسحر مما قد نهىٰ عبادَه من بني آدم عنه، فغير منكر أن يكون جلَّ ثناؤه علَّمه الملكين اللذين سمَّاهما في تنزيله، وجعلهما فتنة لعباده، من بني آدم، كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمَن يتعلَّم ذلك منهما: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾؛ ليختبر بهما عباده، الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر، فيمحِّص المؤمن بتركه التعلم منهما، ويخزي الكافر بتعليمه السحر والكفر منهما، ويكون في تعليمهما مَن علَّما ذلك، لله مطيعين، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان، وقد عُبد من دون الله جماعة من أولياء الله فلم يكن ذلك لهم ضائراً، إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه، فكذلك الملكان غير ضائرهما سحر من سحر، ممن تعلم ذلك منهما بعد نهيهما إياه عنه وعِظتهما له، بقولهما: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾؛ إذ كانا قد أديَّا ما أُمِرَا به بقيلهما ذلك".

﴿ بِبَابِلَ ﴾ "بابل" اسم بلد في العراق قريب من "الحلة" الآن، على بُعد أميال من ملتقىٰ الفرات ودجلة، من أعظم عواصم الكلدانيين، وأقدم مدن العالم.

روي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه مرَّ بـ"بابل" وهو يسير، فجاء المؤذِّن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أُصلي بأرض المقبرة، ونهاني أن أُصلي بـ"بابل" فإنها ملعونة"[8].

قال ابن كثير[9]: "وهذا الحديث حسن، عند الإمام أبي داود؛ لأنه رواه وسكت عنه، وفيه من الفقه: كراهية الصلاة بأرض "بابل"، كما تكره بديار ثمود، الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين"[10].

﴿ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ بدل من الملكين، أو عطف بيان، لبيان اسميهما، فأحدهما "هاروت" والآخر "ماروت"، وهما اسمان أعجميان ممنوعان من الصرف للعلمية والعجمة.

فأكثر المفسرين على أن "هاروت" و"ماروت" ملكان أُنزلا إلى الأرض يعلِّمان السحر ابتلاءً واختباراً للناس.

وقد روي في سبب إنزال "هاروت" و"ماروت" إلى الأرض وما كان من أمرهما آثار غريبة جدًّا عن جمع من السلف من الصحابة والتابعين[11].

بل روي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق موسى بن جبير عن نافع عن ابن عمر- رضي الله عنهما- وفيه: أن الملائكة زعمت أنها أطوع لله من بني آدم، فابتلاهم الله- عز وجل- بإنزال هاروت وماروت، ومثلت لهما الزهرة بأحسن امرأة من البشر، وكان من أمرهما ما كان، من الشرك والسكر والزنا والقتل[12].

وظاهر ذلك كله أنه من أخبار بني إسرائيل، التي لم يدل عليها كتاب ولا سُنَّة صحيحة، خاصة وأنها تتعلق بأمر يمس عصمة الملائكة الذين قال الله- عز وجل- عنهم: ﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 27].

قال ابن كثير- رحمه الله[13]- بعدما ذكر ما روي عن ابن عمر: "وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبدالله بن عمر، عن كعب الأحبار، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم"، ثم أشار إلى رواية عبدالرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم[14]، من طريق موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر- رضي الله عنهما- موقوفاً عليه. قال ابن كثير: "فهذا أصح، وأثبت إلى عبدالله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه، من مولاه نافع، فدار الحديث، ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل".

وقال أيضاً[15] بعد أن ذكر الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين: "وقصَّها خلق كثير من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح، متصل الإسناد، إلى الصادق المصدوق، المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط، ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال".


قوله: ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ﴾ الجملة حالية، و"ما" نافية، أي: والحال أنهما ما يعلمان- يعني الملكين هاروت وماروت، و"من" في قوله ﴿ مِنْ أَحَدٍ ﴾ زائدة من حيث الإعراب، مؤكدة للنفي من حيث المعنى، أي: وما يعلمان أيَّ أحد من الناس.

﴿ حَتَّى يَقُولَا ﴾ "حتى" للغاية، أي: حتى يقولا له، أي: إلا بعد أن يقولا له ناصحين ومحذرين: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾.

وفي الإخبار بالمصدر "فتنة" مبالغة، وأكدت بالحصر، أي: لسنا إلا فتنة محضة. والفتنة: الابتلاء والامتحان، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ﴾ [الأعراف: 155]، أي: ابتلاؤك وامتحانك، وتكون في الخير والشر، كما قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35].

أي: إنما نحن في تعليمنا السحر ابتلاء وامتحان للناس؛ ليظهر مدى تمسكهم في دينهم.

﴿ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ أي: فلا تكفر بتعلُّم السحر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وذلك أنهما عُلِّما الخير والشر، والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر"[16].

وعن الحسن البصري، قال: "نعم أُنزل الملكان بالسحر، ليعلما الناس البلاء، الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق، أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾"[17].

ولهذا مَن تعلَّم السحر منهما وقع في الكفر؛ لأنه علم أن السحر كفر، وأقدم على تعلمه، على بصيرة منه، بعد أن قامت عليه الحجة.

عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه"[18].

ورُوي عن عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أتىٰ كاهناً أو عرَّافاً أو ساحراً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"[19].

﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ ﴾ الفاء للتفريع، أي: فيتعلم الذين يجترئون على تعلم السحر بعد تحذيرهم منه.

﴿ مِنْهُمَا ﴾ أي: من الملكين: هاروت وماروت.

﴿ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ "ما" اسم موصول بمعنى "الذي" أي: السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، و﴿ الْمَرْءِ ﴾ الرجل، ويقال للأنثى: "امرأة".

﴿ وَزَوْجِهِ ﴾ يقال لامرأة الرجل: "زوج" في الفصحى، وهي لغة أهل الحجاز، ويقال لها: "زوجة" في لغة تميم وكثير من قيس وأهل نجد.

والمعنى: فيتعلمون من الملكين، السحر الذي يفرقون به بين الرجل وامرأته، مع قوة الصلة والمودة بينهما، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21].

وهذا من أشد أنواع السحر، وأخبثها، وأعظمها ضرراً، يخيل فيه لكل واحد من الزوجين المسحورين صاحبه بأقبح صورة، حتى يكرهه، وينصرف عنه، ويفارقه، وهذا ما يسمى بالصرف.

وضده سحر العطف "التِّوَلة" وهو أشد وأخبث منه، يؤدي بالمسحورين إلى هيمان كل منهما وولعه بالآخر، زوجين كانا، أو غير ذلك، حتى لا يستطيع أحدهما فراق صاحبه، ولو لحظة، وخروج ذلك إلى حد الخبل، وكلا النوعين من عمل الشيطان وتزيينه.

عن جابر- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول: مازلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا. فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئاً، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين أهله. قال: فيقربه، ويدنيه ويلتزمه، ويقول: نِعْمَ أنت"[20].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.72%)]