
17-02-2022, 05:13 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,755
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (199)
سُورَةُ الإسراء(16)
صـ 81 إلى صـ 85
[ ص: 81 ] ويدل على هذا قوله : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده الآية [ 4 \ 163 ] . وفي أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح وغيرها أنهم يقولون لنوح : إنه أول رسول بعثه الله لأهل الأرض كما قدمنا ذلك في سورة البقرة .
الجهة الرابعة أن قوله : وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا [ 17 \ 17 ] فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضي الله تعالى .
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدا ; كقوله : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] وقوله : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] ، وقوله : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه [ 2 \ 235 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا هذا المبحث موضحا في أول سورة هود . ولفظة " كم " في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به لـ " أهلكنا " و من في قوله : من القرون بيان لقوله : كم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس . وأما لفظه " من " في قوله : من بعد نوح ، فالظاهر أنها لابتداء الغاية ، وهو الذي اختاره أبو حيان في " البحر " ، وزعم الحوفي أن " من " الثانية بدل من الأولى ، ورده عليه أبو حيان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها [ 17 \ 19 ] أي عمل لها عملها الذي تنال به ، وهو امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه بإخلاص على الوجه المشروع : وهو مؤمن [ 17 \ 19 ] أي موحد لله جل وعلا ، غير مشرك به ولا كافر به ، فإن الله يشكر سعيه ، بأن يثيبه الثواب الجزيل عن عمله القليل .
وفي الآية الدليل على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإيمان بالله .
لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة ، لأنه شرط في ذلك قوله : وهو مؤمن [ 17 \ 19 ] .
وقد أوضح تعالى هذا في آيات كثيرة ; كقوله : ومن يعمل من الصالحات من [ ص: 82 ] ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا [ 4 \ 124 ] ، وقوله : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] وقوله : من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ 40 \ 40 ] إلى غير ذلك من الآيات .
ومفهوم هذه الآيات أن غير المؤمنين إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك ; لفقد شرط القبول الذي هو الإيمان بالله جل وعلا .
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات أخر ; كقوله في أعمال غير المؤمنين : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وقوله : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف الآية [ 14 \ 18 ] ، وقوله : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا الآية [ 24 \ 39 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد بين جل وعلا في مواضع أخر : أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا ، ولا حظ له منه في الآخرة . كقوله : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 ، 16 ] ، وقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات : من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا من حديث أنس ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب - واللفظ لزهير - قالا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها " .
حدثنا عاصم بن النضر التيمي ، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي ، حدثنا قتادة [ ص: 83 ] عن أنس بن مالك : أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته " .
حدثنا محمد بن عبد الله الرازي ، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديثهما .
واعلم أن هذا الذي ذكرنا أدلته من الكتاب والسنة من أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا :
كبر الوالدين ، وصلة الرحم ، وإكرام الضيف والجار ، والتنفيس عن المكروب ونحو ذلك ، كله مقيد بمشيئة الله تعالى ، كما نص على ذلك بقوله : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية [ 17 \ 18 ] .
فهذه الآية الكريمة مقيدة لما ورد من الآيات والأحاديث ، وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق ، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا ، وأشار له في " مراقي السعود " بقوله :
وحمل مطلق على ذاك وجب إن فيهما اتحد حكم والسبب
قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا
الظاهر أن الخطاب في هذه الآية الكريمة متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ليشرع لأمته على لسانه إخلاص التوحيد في العبادة له جل وعلا ، لأنه صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لا يجعل مع الله إلها آخر ، وأنه لا يقعد مذموما مخذولا .
ومن الآيات الدالة دلالة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم يوجه إليه الخطاب ، والمراد بذلك التشريع لأمته لا نفس خطابه هو صلى الله عليه وسلم ، قوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما [ 17 \ 23 ] ; لأن معنى قوله : إما يبلغن الآية [ 17 \ 23 ] ، أي إن يبلغ عندك والداك أو أحدهما الكبر فلا تقل لهما أف ، ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل ، فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل ، إلا أن المراد التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم ، ومن أساليب اللغة العربية خطابهم إنسانا والمراد بالخطاب غيره ، ومن الأمثلة السائرة في ذلك قول الراجز ، وهو سهل بن مالك الفزاري :
إياك أعني واسمعي يا جاره
[ ص: 84 ] وسبب هذا المثل : أنه زار حارثة بن لأم الطائي فوجده غائبا ، فأنزلته أخته وأكرمته ، وكانت جميلة ، فأعجبه جمالها ، فقال مخاطبا لأخرى غيرها ليسمعها هي :
يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره إياك أعني واسمعي يا جاره
ففهمت المرأة مراده ، وأجابته بقولها :
إني أقول يا فتى فزاره لا أبتغي الزوج ولا الدعاره
ولا فراق أهل هذي الحاره فارحل إلى أهلك باستحاره
والظاهر أن قولها " باستحاره " أن أصله استفعال من المحاورة بمعنى رجع الكلام بينهما ، أي ارحل إلى أهلك بالمحاورة التي وقعت بيني وبينك ، وهي كلامك وجوابي له ، ولا تحصل مني على غير ذلك ! والهاء في " الاستحارة " عوض من العين الساقطة بالإعلال ، كما هو معروف في فن الصرف .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخطاب في قوله : لا تجعل مع الله إلها آخر ، ونحو ذلك من الآيات متوجه إلى المكلف ، ومن أساليب اللغة العربية : إفراد الخطاب مع قصد التعميم ; كقول طرفة بن العبد في معلقته :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقال الفراء ، والكسائي ، والزمخشري : ومعنى قوله : فتقعد [ 17 \ 22 ] أي : تصير . وجعل الفراء منه قول الراجز :
لا يقنع الجارية الخضاب ولا الوشاحان ولا الجلباب
من دون أن تلتقي الأركاب ويقعد الأير له لعاب
أي يصير له لعاب .
وحكى الكسائي : قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها . بمعنى صار . قاله أبو حيان في البحر .
ثم قال أيضا : والقعود هنا عبارة عن المكث ، أي فتمكث في الناس مذموما مخذولا ، كما تقول لمن سأل عن حال شخص : هو قاعد في أسوأ حال ; ومعناه ماكث ومقيم . سواء كان قائما أم جالسا . وقد يراد القعود حقيقة ; لأن من شأن المذموم [ ص: 85 ] المخذول أن يقعد حائرا متفكرا ، وعبر بغالب حاله وهو القعود ، وقيل : معنى فتقعد [ 17 \ 22 ] فتعجز . والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم . اه محل الغرض من كلام أبي حيان .
والمذموم هنا : هو من يلحقه الذم من الله ومن العقلاء من الناس ; حيث أشرك بالله ما لا ينفع ولا يضر ، ولا يقدر على شيء .
والمخذول : هو الذي لا ينصره من كان يؤمل منه النصر . ومنه قوله :
إن المرء ميتا بانقضاء حياته ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|