
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (191)
سُورَةُ الإسراء(8)
صـ 41 إلى صـ 45
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم بيانه أنه كل من اتبع تشريعا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح ، مخرج عن الملة الإسلامية ، ولما قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم : الشاة تصبح ميتة من قتلها ؟ فقال لهم : " الله قتلها " فقالوا له : ما ذبحتم بأيديهم حلال ، وما ذبحه الله بيده الكريمة تقولون إنه حرام ! فأنتم إذن أحسن من [ ص: 41 ] الله ؟ أنزل الله فيهم قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] وحذف الفاء من قوله : إنكم لمشركون يدل على قسم محذوف على حد قوله في الخلاصة :
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم
إذ لو كانت الجملة جوابا للشرط لاقترنت بالفاء على حد قوله في الخلاصة أيضا :
واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل
فهو قسم من الله جل وعلا أقسم به على أن من اتبع الشيطان في تحليل الميتة أنه مشرك ، وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين ، وسيوبخ الله مرتكبه يوم القيامة بقوله : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين [ 36 \ 60 ] لأن طاعته في تشريعه المخالف للوحي هي عبادته ، وقال تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، أي ما يعبدون إلا شيطانا ، وذلك باتباعهم تشريعه . وقال : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الآية [ 6 \ 137 ] ، فسماهم شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى ، وقال عن خليله : ياأبت لا تعبد الشيطان الآية [ 19 \ 44 ] ، أي بطاعته في الكفر والمعاصي ، ولما سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا الآية [ 9 \ 31 ] ، بين له أن معنى ذلك أنهم أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم ، والآيات بمثل هذا كثيرة .
والعجب ممن يحكم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام ; كما قال تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] ، وقال : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] ، وقال : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين [ 6 \ 114 ] .
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع ، وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام ، [ ص: 42 ] لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك ، ورجلك بساقك ، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس وإرادة الأخ تنبيها على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه ، كقوله تعالى : ولا تخرجون أنفسكم من دياركم الآية [ 2 \ 84 ] ، أي لا تخرجون إخوانكم ، وقوله : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا [ 24 \ 12 ] ، أي بإخوانهم على أصح التفسيرين ، وقوله : ولا تلمزوا أنفسكم الآية [ 49 \ 11 ] ، أي إخوانكم على أصح التفسيرين ، وقوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم الآية [ 2 \ 188 ] ، أي لا يأكل أحدكم مال أخيه ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولذلك ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين ، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية : قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [ 58 \ 22 ] ، إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر ، وقوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض الآية [ 9 \ 71 ] ، وقوله : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم [ 49 \ 10 ] ، وقوله : فأصبحتم بنعمته إخوانا الآية [ 3 \ 103 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية لا يجوز ، ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين .
ومن أصرح الأدلة في ذلك : ما رواه البخاري في صحيحه قال : باب قوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [ 63 \ 8 ] ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان قال : حفظناه من عمرو بن دينار ، قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ! وقال [ ص: 43 ] المهاجري : يا للمهاجرين ! فسمعها الله رسوله قال : " ما هذا " ؟ فقالوا : كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها منتنة " الحديث . فقول هذا الأنصاري : يا للأنصار ، وهذا المهاجري : يا للمهاجرين هو النداء بالقومية العصبية بعينه ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها منتنة " يقتضي وجوب ترك النداء بها ; لأن قوله : " دعوها " أمر صريح بتركها ، والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقرر في الأصول ; لأن الله يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] ، ويقول لإبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] فدل على أن مخالفة الأمر معصية . وقال تعالى عن نبيه موسى في خطابه لأخيه : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فأطلق اسم المعصية على مخالفة الأمر : وقال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فدلت الآية على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار ، موجب للامتثال ، لا سيما وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بالترك بقوله : " فإنها منتنة " ، وحسبك بالنتن موجبا للتباعد لدلالته على الخبث البالغ .
فدل هذا الحديث الصحيح على أن النداء برابطة القومية مخالف لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن فاعله يتعاطى المنتن ، ولا شك أن المنتن خبيث ، والله تعالى يقول : الخبيثات للخبيثين الآية [ 24 \ 26 ] ، ويقول : ويحرم عليهم الخبائث [ 7 \ 157 ] وحديث جابر هذا الذي قدمناه عن البخاري أخرجه أيضا مسلم في صحيحه قال رحمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، وأحمد بن عبدة الضبي ، وابن أبي عمر ، واللفظ لابن أبي شيبة ، قال ابن عبدة : أخبرنا ، وقال الآخرون : حدثنا سفيان بن عيينة قال : سمع عمرو جابر بن عبد الله يقول : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ! وقال المهاجري : يا للمهاجرين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بال دعوى الجاهلية ! " قالوا : يا رسول الله ، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار . فقال : " دعوها فإنها منتنة . " الحديث .
وقد عرفت وجه دلالة هذا الحديث على التحريم ، مع أن في بعض رواياته الثابتة في الصحيح التصريح بأن دعوى الرجل : " يا لبني فلان " من دعوى الجاهلية . وإذا صح بذلك [ ص: 44 ] أنها من دعوى الجاهلية فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية " . وفي رواية في الصحيح : " ليس منا من ضرب الخدود ، أو شق الجيوب ، أو دعا بدعوى الجاهلية " ، وذلك صريح في أن من دعا تلك الدعوى ليس منا ، وهو دليل واضح على التحريم الشديد ، ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا " هذا حديث صحيح ، أخرجه الإمام أحمد من طرق متعددة عن عتي بن ضمرة السعدي ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، وذكره صاحب الجامع الصغير بلفظ " إذا سمعتم من يعتزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا " وأشار لأنه أخرجه أحمد في المسند ، والنسائي وابن حبان ، والطبراني في الكبير ، والضياء المقدسي عن أبي رضي الله عنه ، وجعل عليه علامة الصحة . وذكره أيضا صاحب الجامع الصغير بلفظ " إذا رأيتم الرجل يتعزى . . " إلخ ، وأشار إلى أنه أخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي ، وجعل عليه علامة الصحة . وقال شارحه المناوي : ورواه عنه أيضا الطبراني ، قال الهيثمي : ورجاله ثقات ، وقال شارحه العزيزي : هو حديث صحيح . وقال فيه الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني في كتابه ( كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ) قال النجم : رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله عنه . ومراده بالنجم : الشيخ محمد نجم الدين الغزي في كتابه المسمى ( إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن ) فانظر كيف سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النداء " عزاء الجاهلية " وأمر أن يقال للداعي به " اعضض على هن أبيك " أي فرجه ، وأن يصرح له بذلك ولا يعبر عنه بالكناية ، فهذا يدل على شدة قبح هذا النداء ، وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم له .
واعلم أن رؤساء الدعاة إلى نحو هذه القومية العربية : أبو جهل ، وأبو لهب ، والوليد بن المغيرة ، ونظراؤهم من رؤساء الكفرة .
وقد بين تعالى تعصبهم لقوميتهم في آيات كثيرة ; كقوله : قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا الآية [ 5 \ 104 ] وقوله : قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا الآية [ 2 \ 170 ] ، وأمثال ذلك من الآيات .
واعلم أنه لا خلاف بين العلماء - كما ذكرنا آنفا - في منع النداء برابطة غير الإسلام ، كالقوميات والعصبيات النسبية ، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية ، فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي : أنه نداء [ ص: 45 ] إلى التخلي عن دين الإسلام ، ورفض الرابطة السماوية رفضا باتا ، على الله أن يعتاص من ذلك روابط عصبية قومية ، مدارها على أن هذا من العرب ، وهذا منهم أيضا مثلا . فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفا من الإسلام ، واستبدالها به صفقة خاسرة ، فهي كما قال الراجز :
بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
وقد علم في التاريخ حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده كما لا يخفى .
وقد بين الله جل وعلا في محكم كتابه : أن الحكمة في جعله بني آدم شعوبا وقبائل هي التعارف فيما بينهم ، وليست هي أن يتعصب كل شعب على غيره ، وكل قبيلة على غيرها ، قال جل وعلا : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ 49 \ 13 ] ، فاللام في قوله : لتعارفوا لام التعليل ، والأصل لتتعارفوا ، وقد حذفت إحدى التاءين ; فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة لقوله : وجعلناكم شعوبا وقبائل [ 49 \ 13 ] ، ونحن حين نصرح بمنع النداء بالروابط العصبية والأواصر النسبية ، ونقيم الأدلة على منع ذلك ، لا ننكر أن المسلم ربما انتفع بروابط نسبية لا تمت إلى الإسلام بصلة ، كما نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب ، وقد بين الله جل وعلا أن عطف ذلك العم الكافر على نبيه صلى الله عليه وسلم من منن الله عليه ، قال تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى [ 93 \ 6 ] ، أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب .
ومن آثار هذه العصبية النسبية قول أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
كما قدمنا في سورة هود .
وقد نفع الله بتلك العصبية النسبية شعيبا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، كما قال تعالى عن قومه : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك [ 11 \ 91 ] .
