الموضوع: موسيقا الشعر
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 17-02-2022, 05:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,994
الدولة : Egypt
افتراضي رد: موسيقا الشعر

وتوضيحًا لذلك نسوق الأبيات التالية لعمر بن أبي ربيعة في وصف ليلة كان قد تواعد فيها وحبيبتُه أن يلتقيا إذا ما غاب القمر، وسكت الحسُّ، وهجع الناسُ في مراقدهم، ونتلبث لدن البيت الثاني منها بوجه خاص:



فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأُطْفِئت

مصابيحُ شُبَّت بالعشاء وأنورُ




وغاب قُمَيْرٌ كنت أرجو غيوبَه

وروَّح رعيانُ، ونوَّم سمَّرُ




ونفضت عني النوم أقبلتُ مشيةَ ال

حباب، وركني خشيةَ القوم أزوَرُ








إذ نراه قد صغر القمر ونكَّره، وبدلاً من أن يقول: "وغاب القمر" قال: "وغاب قمير"، وكذلك بدلاً من أن يقول: راح "ونام" قال: "روح، ونوم"، وبدلاً من أن يقول: "أنوار" و"رعاة" قال: "أنور" و"رعيان"، وبدلاً من أن يقول: "أقبلت إقبال الأفعى" قال: "أقبلت مشية الحباب"، فانظر كيف قسره الوزن والقافية على ترك ما هو شائع في الاستعمال، فإذا به يجد البديل بكل سهولة وسلاسة ويُسْر، ثم يكون هذا البديل أفضلَ مما استبدله به؛ إذ إن تصغير القمر - وهذا مجرد مثال من كل ما أشرنا إليه من الاستعمالات البديلة التي لجأ إليها الشاعر - هو شيء غير شائع، ومن ثم غير مبتذل، مما أضفى على اللفظة نضرةً ليست للفظة الأصليةً، علاوةً على أن ذلك التصغيرَ يشير إلى ما يعتري القمر في بعض الليالي من تناقص الحجم، كذلك فمن المحتمل أن يكون الشاعر قد صغَّر القمر تعبيرًا عن سخطه عليه؛ إذ كان يشعر أنه لا يريم موضعه، ولا يريد أن يغيب، فكأنه يعده مسؤولاً عن تأثر لقائه بحبيبته، ثم هناك ما يوحيه التنكير من أن هناك لا قمرًا واحدًا معروفًا ثابتًا على وضع واحد، بل هناك أقمار متعددة بعدد الليالي، وربما بعدد ساعات الليالي..، وهكذا نرى كيف حوَّل الشاعرُ القيد إلى طلاقة وانسراح، وصيَّر الضرورة حريةً وعفويةً.



وهذا يذكرني بما يفعله الفحول من لاعبي كرة القدم حين يفاجؤون بالكرة تأتيهم وهم في منطقة جزاء الخَصم على نحو فُجائي غير متوقع، وفي موضع حرج، وفي وقت شديد القِصَر، بحيث إذا لم يتصرف فيها من فوره، ويُودعها مرمى الخصوم، ضاعت الفرصة إلى الأبد، ومع هذا يتصرف الواحد منهم كأنه قد خطَّط لهذا الموقف منذ فترة طويلة، وتدرَّب على مواجهته، والتصرف فيه على أحسن ما يرام، فيَركل الكرة في الحال من وضْعٍ شديد الصعوبة، لكنه يفعل ذلك دون أي اضطراب أو شعور بالقلق، والسبب؟ السبب هو أنه قد تشرَّب صَنعته تشربًا، وأضحت تجري في عروقه كدمائه، فهو يمارسها كأنه يتنفَّس، والطريف أن سعيد بن المسيب حين سمع هذا البيت، قال عن الشاعر مستغربًا ضائق الصدر: ما له، قاتَله الله؟ لقد صَغَّر ما عظَّم الله! يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾ [يس: 39].



فلم يَتنبه ابن المسيب - رحمه الله - إلى السحر العجيب الذي خلَعه "عمر" على المعنى، فأبرزه شيئًا لم يخطر لأحد من قبلُ على بال، علاوةً على أنه حافَظ فوق هذا كله على جمال الإيقاع الموسيقيِّ المتمثل في الوزن والقافية، وغيرهما من الأدوات الإيقاعية الأخرى؛ كالتناظر في الوزن الصرفي؛ مثل: بين "روح" و"نوم"، وكالتوازن التركيبي بين "روح رعيان" و"نوم سمر"، وكرد العجز على الصدر في قوله: "وغاب قمير كنت أرجو غيوبه".



وقد يضطر الوزن والقافية الشاعر إلى انتهاج تركيب نحوي غير الذي كان في بالنا، فيقدم ويؤخر، أو يحذف ما حقه الذكر، ويذكر ما حقه الحذف.. إلخ، كما في قول عمرو بن كلثوم من معلقته المجلجلة، يرد على ملك الحِيرة، حين أراد أن ينال منه، فأمر الساقية في مجلس شرابه أن تبدأ إدارة الكأس من الناحية الأخرى التي لم يكن الشاعر جالسًا فيها:



صددتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو

وكان الكأسُ مجراها اليمينا




وما شر الثلاثة أمَّ عمرو

بصاحبك الذي لا تَصْبَحينا




وكأس قد شربتُ ببعلبك

وأخرى في دِمَشْقَ وقاصرينا




إذا صمدتْ حميَّاها أريبًا

من الفتيانِ، خِلْتَ به جنونا




فما بَرِحَت مجال الشُّربِ حتى

تغالوها، وقالوا: قد رَوِينا




وإن غدًا وإن اليوم رهن

وبعد غدٍ بما لا تعلمينا








فالشاعر - وإن ذكر ثلاثًا من المدن المشهورة بصنع الخمر المعتقة وتقديمها للشاربين - لا يقصد الاقتصار على هذه المدن الثلاث فقط، لكنها طبيعة الشعر بسبب ضيق المجال كما سبق أن وضحنا، ولو كان الكلام نثرًا لقال: بعلبك ودمشق وقاصرين و..، و..، و..، إلخ، وذكر غيرها من المدن، لكن الشعر لا يعرف هذا التطويل؛ إذ الشاعر المجيد هو الذي يدل عادةً بأقل لفظ على أوسع المعاني وأحفلها بالتفاصيل، فالمهم هو أن يدفع بخيال القارئ في الاتجاه الذي يريده الدفعة الأولى تاركًا له مهمة القيام بالباقي، ليس ذلك فقط، فشاعرنا يقول: "وأخرى في دمشق وقاصرينا"، وظاهر الكلام أنه شرب كأسًا في بعلبك، وكأسًا أخرى في دمشق وقاصرين معًا، لكن من غير الممكن أن يكون هذا هو قصده، وإلا فمعنى ذلك أنه - بعد أن شرب رشفات من هذه الكأس الثانية في دمشق - قد استبقاها حتى أكمل شربها في قاصرين بعد ذلك، وليس هذا فعل الشاربين، بل المقصود: "وأخرى في دمشق، وثالثة في قاصرين، ورابعة في.. إلخ"، ولكنها - مرة أخرى - طبيعة الشعر، ثم إن الشاعر لا يقصد أبدًا أنه شرب كأسًا واحدة فقط في كل من بعلبك ودمشق وقاصرين كما قد تُوهِم حرفية الكلام، بل الكأس هنا تعني كؤوسًا لا حصر لها.



وانظر كذلك إلى بيت الفرزدق يخاطب ذئبًا لقِيه في الطريق وحيدًا فدعاه إلى الطعام، لكنه رغم ذلك كان حذِرًا منه أشدَّ الحذر؛ لمعرفته بطبيعة الغدر فيه:



وأنت امرؤٌ يا ذئبُ والغدر كنتما

أُخَيَّيْنِ كانا أُرْضِعا بلِبَانِ








وتأمل هذا التركيب الغريب؛ إذ كان ينبغي أن يجيء الكلام هكذا:

"ويا ذئب، أنت والغدر كنتما أخيين..." بحيث يكون الضمير: "أنت" مبتدأً، و"الغدر" معطوفًا عليه، وجملة "كنتما أخيين" خبر المبتدأ، أما على الوضع الذي ورد في البيت فـ"أنت" مبتدأ، و"امرؤ" هي الخبر، وبذلك تكون الجملة قد انتهت، ولا يصح إذًا عطف كلمة "الغدر" على المبتدأ؛ ليشتركا معًا في جملة جديدة يكون خبرها "كنتما أخيين"؛ إذ لا يمكن أن تكون كلمة "أنت" هي ذاتها مبتدأً في جملتين، لكن رغم ذلك كله لا نحس شيئًا من قلق رغم وجود بواعث القلق؛ ذلك أن هذه البواعث هي من الخفاء بحيث لا يتنبه القارئ لها بسهولة، ولولا أنني مشغول بهذه المسألة فلربما لم ألتفتْ إلى غرابة التركيب، وسبب خفاء غرابته، وكذلك سبب قَبولنا له بعد اكتشافنا تلك الغرابة، هو الموسيقى، وهذا ما أريد أن أصل إليه؛ إذ الموسيقا في الشعر تقوم بدورين متناقضين: متناقضين حقيقةً، أو بادئ الرأي في أقل تقدير، وهذان الدوران هما تقييد الشاعر تقييدًا يؤدي بالعكس إلى استنفار كل قواه العبقرية لا إلى شل حركته وموهبته حسبما بينَّا آنفًا، ثم التغطية على مثل تلك الهنَات والشذوذات التي نحن بصددها، إنها إذًا لتجرح، لكنها أيضًا تعالج! إنها الداء والدواء جميعًا، وهذا من مفارقات الفن التي هي سر روعته وفتونه! ومثل ذلك - وإن لم يصل إلى درجته في الغرابة والعدول عن الطريق - تكريرُ الفرزدق للفعل: "كان" في قوله: "كنتما أخيَّيْن كانا أرضعا..."؛ إذ يكفي تمامًا أن يقول: "كنتما أخيَّيْن أرضعا بلبان"، بل كان يكفي جدًّا أن يقول: "وأنت، يا ذئب، والغدر أخيان أرضعا بلبان".



ولأزيد القارئ من الشعر بيتًا أضيف أن قوله: "بلبان" هو من الكلام المنفتح الذي ينقصه التحديد؛ إذ نحن لا نعرف: هل المقصود أنهما أرضعا بلبان واحد؟ أم هل المقصود أنهما أرضعا بلبان معيَّن هو لبان الغدر؟ أم هل المقصود شيء آخر؟ أم هل المقصود كل ذلك؟ ومرةً أخرى إنه الشعر وعبقرية الشعراء، وصدق الرسول الكريم: ((إن من البيان لسِحرًا))!



ويرتبط بهذا ما يسمى بـ"الضرورات الشعرية"، فسببها - كما نعرف - هو الخضوع للوزن والقافية، والخوف من الخروج عليهما وانتهاكهما، وهذا يدلنا على مكانة الموسيقا في الشعر، فالشاعر يستسهل التضحية بالقواعد أحيانًا، ولا يستسهل التضحية بتلك الموسيقا على رغم ما نعلمه من مغالاة العرب بلغتهم ونحوها وصرفها، ومن ناحية أخرى فالموسيقى بدورها تغطِّي على ذلك الحد النحوي والصرفي الذي يشترط ألا يكون فادحًا، بل يقتصر على بعض الأشياء الصغيرة، ومثله ما يُعرَف في علم العروض والقافية بالزحافات والعلل، فهي لون من التقصير الصغير المسموح به لنفس الاعتبار، لكنها لا يمكن أن تتخذ مبررًا لإهمال الموسيقا الشعرية تمامًا، والواقع أن مثل تلك التقصيرات المحدودة أمر طبيعي، فما من خطة توضع موضع التطبيق إلا وتعتريها بعضُ التحويرات والتغييرات، ويقعد بها التقصير عن بلوغ المثال الأعلى كاملاً، ولكن على الإنسان في ذات الوقت ألا يسرف في ذلك الخروج عن الخطة، وإلا أتى علينا يومٌ نجد أيدينا فيه وقد خلت من كل خطة، على الإنسان أن يسدد ويقارب؛ كما قال الرسول الكريم، إلا أن ذلك لا يسوِّغ أبدًا أن نهمل التسديد تمامًا، ونذهب فنصوب سهامنا في الهواء دون اهتمام بإصابة الهدف، فهذا عبث لا يليق، ولا يؤدي إلا إلى الخسار والبوار.



إن بعض المدافعين عما يسمى بـ"قصيدة النثر" يلجؤون إلى مثل تلك الحيلة فيقولون - ضمن ما يقولون -: إن الأوزان العَروضية كثيرًا ما تعتريها بعض التحويرات، فنجد على سبيل المثال: "مستفعلن" وقد صارت "مستعلن" أو "متفعلن" مثلاً، ثم يقفزون من هذا إلى القول بأن تلك التحويرات الطفيفة - التي لا بد من أن أستدركَ هنا بأنها لا تشوِّهُ الوزنَ، ولا تفسده، ولا تلتفت الأُذن إليها كثيرًا، بل ربما لا تتنبه لها ألبتة، وذلك في غمرة الموسيقا الشاملة في البيت وفي القصيدة بأجمعها - هي مسوغ كافٍ للتخلي تمامًا عن الوزن، وترك الجَمل بما حمل، وهذا منطق عجيب، فقد قلنا: إن أي تصميم لا بد أن يبتعد عند التطبيق قليلاً أو كثيرًا عن أصله الأول، فهذه طبيعة الحياة؛ إذ التوازن المطلق لا وجود له، بل هو حالة افتراضية مثالية من شأنها أن تستحث جهودنا، وتستنفر قدراتنا لتوخِّي الكمال، الذي نعرف مع هذا أننا لن نبلغه بتمامه أبدًا، لكن ثمة حكمة جليلة تقول: "إن ما لا يدرك كلُّه لا يترك جُلُّه وإلا كان علينا أن نغادرَ الحياة، وننفض يدنا منها فورًا منذ اللحظة الأولى لمجيئنا إليها؛ لأنها مملوءة بأسباب الألم والشكوى، ولا يمكن أن تخلو منها يومًا.



إن هذا المنطق المضحك الغريب ليذكِّرنا بمن يجد أن الإنسان لا يمكن أن يعرى في أي وقت عن اختلالٍ ما في صحته، فيخرج من ذلك بنتيجة مؤداها أن علينا - ما دام الأمر كذلك - أن نعرض أنفسنا لكل أنواع الأمراض والاختلالات الصحية، إن التقصير أثناء الامتحان في درجة أو اثنتين أو ثلاث درجات مثلاً، أو حتى في عشر أو عشرين درجةً، بل حتى في خمسين - لا يسوِّغ الرسوب أبدًا، وإلا لم يكن هناك شيء في الحياة اسمه النجاح والتفوق والاجتهاد والطموح والأمل ما دمنا سنركن كلُّنا إلى اليأس واطِّراح الجد والكد والكفاح والتطلع إلى بلوغ الكمال، الذي نعرف - رغم ذلك - أننا لسنا بالغيه يومًا من الأيام.



والعجيب أن من يسوِّقون في سوق الأدب بضاعة ما يسمى بـ"قصيدة النثر" - التي لم أجد فيما قرأت تسميةً أليق بها من كلمة "النثيرة"، فهي نثر نثر نثر مهما روج المروجون وأرجف المرجفون - هؤلاء المسوِّقون يزعمون أن من النقاد العرب القدماء من لم يكونوا يرون كفاية الوزن والقافية وحدهما للتمييز بين الشعر والنثر، وهم ينتقلون من ذلك إلى المناداة بأن الوزن والقافية لا أهمية لهما، نعم، إن نقادنا القدامى جميعًا - لا بعضهم فحسب - لم يكونوا يرون أن الوزن والقافية كافيان للتمييز بين الشعر والنثر، لكن هذا لا ينبغي أن يعني أن الوزن والقافية غير مهمين، فضلاً عن وجوب الاستغناء عنهما بحجة أن هناك ألوانًا أخرى من الإيقاع في القصيدة ينبغي الاجتزاء بها، وكأن العرب القدماء لم يكونوا يعرفون تلك الإيقاعات، ولم يكونوا يستغلونها أحسنَ استغلال في كثير من إبداعاتهم كما رأينا مثلاً في نونية ابن زيدون، التي استشهدنا ببعض أبياتها من قبل، إن هؤلاء المتفلسفين يظنون أن بمستطاعهم جلب التمر إلى هَجَر، أو بيع الماء في حارة السقائين، إن تلك الإيقاعات لا تناقض الوزن والقافية، بل تعضدهما وتزيدهما سِحرًا على سحر، وعلى رأي المثل: "زيادة الخير خيرانومن يا ترى يكره الاستزادة من الخير؟ نعم، لم يكن نقَّادنا القدماء يعوِّلون في التمييز بين الشعر والنثر على الوزن والقافية وحدهما، وإلا لكان يكفي من يريد أن يقول شعرًا - بل من يريد أن يكون شاعرًا دون أن يبذل جهدًا - أن يروح فيردِّد أمام الناس وفي المنتديات والمؤتمرات الشعرية: "مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن"، أو "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن"، وكفى اللهُ المؤمنين شر القتال، لكنَّ أحدًا منهم لم يقل بهذا، ولا خطر له هذا في بال؛ فقد كانوا عقلاء أصحاب حكمة، ولم يكونوا من ذوي النزعات المخربة، ولا البدوات المزعجة المتعبة!
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.19%)]