الموضوع: صناعة الأدب
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17-02-2022, 04:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,231
الدولة : Egypt
افتراضي صناعة الأدب

صناعة الأدب


د. محمد بن سعد الدبل





نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود (1)


إذا ذُكرت كلمة "الفن"، أو أُلقيت على الأسماع عبارة "الفن الأدبي" أو "الفنون الأدبية"، انصرف الذهن إلى ألوان الأدب شعرًا ونثرًا؛ مِن قصيدة أو أنشودة أو مقطوعة أو ملحمة، ومِن خُطبة إلى قصَّة وأقصوصة، وخاطرة ومقالة ومسرحية، إلى غير ذلك مما يؤديه فنُّ العبارة؛ كالأسطورة، واللغز، والأُحجية، والذي يسبق هذه الألوان في ميدان الأدب والنقد هو مَعرِفة القيَم الفنيَّة التي بها يقوم العمل الأدبي أيًّا كان نوعه.


ولعلَّ أقرب المقاييس الفنية التي يوزَن بها اللون الأدبي هو مِقياس "الصنعة".

فلقد درس النقاد القدماء صناعة الأدب من خلال البناء اللفظي والمعنوي، وقامت على تلك النظرة النقدية دراساتٌ وسعتْ خصائص الألفاظ والتراكيب وخصائص المعاني للنصِّ الأدبي، وما يتبع هذه الخصائص من جزئيات تُقاس بمعيار الذَّوق والنظرة الشاملة.

فهذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ يقرِّر الصنعة في الأدب، ويرى أنها مِهنة الأديب المطبوع، شاعرًا كان أو ناثرًا، وفي ذلك يقول: "الأدب جنس مِن الصناعة، وضرب مِن التصوير"، ويُسمي أبو هلال العسكري كتابه في نقد الأدب بـ: "الصناعتين"؛ يعنى الشعر والنثر، ويدرس عبدالقاهر الجُرجاني القيم الفنية لألفاظ ومعاني الأدب حتى يبلغ الشوط إلى مداه، فيُقرِّر مزيَّة النص في النَّظْم، لا في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده.


ويدرس ابن سنان الخفاجي خصائص اللفظة المُفرَدة، فيوصلها إلى ثمانية أوصاف.

ويَبني ابن الأثير كتابه: "المثَل السائر" على مقدِّمتَين؛ أولاهما في الصناعة اللفظية، وثانيتهما في الصناعة المعنوية[1].

وقبل أن ندرس - بالتفصيل - فنون الأدب الإسلامي مِن خطبة وقِصَّة وشِعر، يَحسن أن نسوق بعض الشواهد من النصوص الإسلامية؛ لنقف على شيء مِن خصائصها.


إليك مِن كلام العرب ما يَقرع الخصم، ويقطع الحُجَّة، ويُثبت العقل، ويستثير الحماس، ويُمتع العواطف، ويُلهب المشاعر، ويَفيض بسحر البيان وأَسرِ الجنان.

قال الخليفة المعتصم في كتاب له إلى عبدالله بن طاهر، وكانت في نفس المعتصم عليه حزازة:
"أما بعد، عافانا الله وإياك، قد كانت في قلبي منك هنَات غفَرها الاقتدار، وبقيَت حزازات أخاف منها عليك عند نظري إليك، فإن أتاك ألفُ كتابٍ منِّي أستقدمك في كل واحد، فلا تقدم، وحسبك معرفة بما أنا منطوٍ لك عليه إطلاعي إياك على ما في ضميري منك، والسلام".

وطلب الحَجاج إلى المُهلَّب بن أبي صفرة أن اكتب لي عن خبر الوقيعة في خراسان، واشرح لي القصة كأني أشاهدها، وعن خبر بني المُهلَّب وأيهم أشجع، فأرسل المُهلَّب إلى الحجاج كعبَ بن معدان الأشعري، فجاء مِن كلامه: "أما بنو المهلب، فالمُغيرة سيِّدهم، وكفاك بيزيدَ فارسًا، وما لقي الأبطالُ مثل حبيب، وما يستحيي شجاع أن يفرَّ مِن مدرك، وعبدالملك موت زعاف وسمٌّ ناقع، وحسبك بالمفضل في النجدة، واستجهز قبيصة، ومحمد ليثُ غابٍ"، فقال الحجاج: ما أراك فضلت منهم واحدًا عليهم، فأيُّهم أشجَع مِن أخيه؟ قال كعب: هم كالحلقة المُفرغة لا يُدرى أين طرفاها، قال الحجاج: فأخبرني عن رضا الجند على المُهلَّب، ورِضا المهلب على الجند.


قال كعب: أعزَّ الله الأمير، للمُهلَّب على جنده شفقة الوالد، ولهم به بِرُّ الولد.

وبعد، فهذا غيض مِن فيض مِن كلام السادة والقادة، فكيف بكلام أرباب اللسن والفصاحة وعلماء البيان وصُنَّاع الكلام، وبخاصَّة مَن كان مِن فنِّ الشعر، فهو أقدر على التصوير؟

إليك هذه المُذهبة العينيَّة لشاعر الإسلام الصحابي المجاهد كعب بن مالك الأنصاري، أبيات جديرة بالدراسة والنظرة الفاحِصة، إنها قصيدة لشاعر أحبَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لِما له مِن مواقفَ تشهَد بصدقِ إيمانه، ورسوخ العقيدة في نفسه، هذه القصيدة نظمها كعب في الرد على عبدالله بن الزِّبَعْرَى، اشتملَت وحدتها العضوية على صورٍ أدبية فنيَّة، صاغها كعب - رضي الله عنه - بريشة الشاعر المُبدِع، فجاءت قصيدته خطابًا للعقل والعاطفة، متَّسمة بالواقعية والتاريخ والصِّدق الشعوري، وهذه الخصائص مجتمعة تؤكِّد ثُبوت الشِّعر الإسلامي وقوته وتفاعله وأثره وتأثيره، وإنَّ ما يراه بعض النقاد - قدماء ومعاصرين - مِن أن الشِّعر الذي نظمه شعراء الإسلام مِن الرعيل الأول فقَدَ بعض السمات الفنية مِن توهُّج العواطِف، والإبداع في الصور، وسعة الخيال، وتميَّز بخصائص أخرى كفتور العاطفة، ونضوب الصورة، وضيق الخيال - ليس على إطلاقه، والحكم العدل فيما ذهب إليه هؤلاء النقاد أن نُطلَّ على شيء من قصيدة كعب؛ فهي البرهان على خلاف ما يَرمي إليه هؤلاء.


يقول - رضي الله عنه وأرضاه -:
ألا هل أتى غسَّانَ عنا ودونهم
مِن الأرض خَرقٌ سَيْرُه مُتنَعنِعُ

صَحارٍ وأعلامٌ كأنَّ قَتامَها
مِن البعدِ نقْعٌ هامدٌ مُتقطِّعُ

مجالدنا عن ديننا كل فَخمةٍ
مذرَّبةٍ فيها القوانسُ تلمَعُ

ولكن ببدرٍ سائِلوا مَن لقيتمُ
مِن الناسِ، والأنباءُ بالغيبِ تنفَعُ

وإنَّا بأرضِ الخوفِ لو كان أهلُها
سِوانا لقد أَجلَوْا بليلٍ فأقْشَعوا

إذا جاء مِنا راكبٌ كان قولُه
أعدُّوا لما يُزجِي ابنُ حربٍ ويَجمَعُ

نُجالد لا تَبقى علينا قَبيلةٌ
مِن الناس إلا أن يَهابوا ويفظعوا

وقال رسول الله لما بدَوا لنا
إذا ما اشتهى أنا نُطيع ونسمَع

فلمَّا تلاقَيْنا ودارَتْ بِنا الرَّحى
وليس لأمرٍ حمَّه اللهُ مدفَعُ

ضَربْناهمُ حتى تركْنا سَراتَهم
كأنهمُ بالقاعِ خشبٌ مُصرَّعُ

ونحن أناسٌ لا نرى القتلَ سُبَّةً
على كل مَن يَحمي الذِّمارَ ويمنَعُ

بنو الحربِ لا نَعيا بشيءٍ نقولُه
ولا نحن مما جرَّتِ الحربُ نَجزعُ



إلى آخر ما قال كعب - رضي الله عنه - في هذه الرائعة الحَماسية، التي تُقارب أبياتها خمسين بيتًا، كل بيت يُعبِّر عن معنًى سامٍ شريف تتلاحَق فيه الصور؛ حتى كأن السامع يُشاهد المعركة الإسلامية عيانًا، ولنقف على شيء مِن هذه الصور في عدد مِن أبيات هذه القصيدة.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.69 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.69%)]